عناصر الخطبة
1/ نعمة بقاء الذكر الجميل بعد الموت 2/ أناس خلد القرآن ذكرهم بعد بالموت 3/ أناس ذمهم القرآن بعد موتهم 4/ بعض الأعمال الصالحة المخلدة لذكر أصحابها بعد الموت 5/ خسارة أمة الإسلام بموت المصلحيناقتباس
بقاءُ الذّكر الجميل، واستمرارُ الثناء الحسَن، والصيتِ الطيب، والحمدِ الدائم للعبد بعدَ رحيله عن هذه الدار نعمةٌ عظيمة يختصّ الله بها من يشاء مِن عباده ممن بذَلوا الخير والبرّ، ونشروا الإحسان، ونفعوا الخلق، وجمعوا مع التقوى والصلاح، مكارمَ الخصالِ، وجميلَ الخلال..
الخطبة الأولى:
إن الحمدلله...
أمّا بعد:
فاتّقوا الله حقَّ تقاته، وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته، وسابِقوا إلى رحمته وجنّاته: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 128].
أيها المسلمون: لا خلودَ في دارِ الدنيا لأحَد، لكنّ الأعمال الجليلَة، والآثار الجميلَة، والسنَن الحسَنة، تخلِّد ذكرَ صاحبها بين الناس، وتورثه في حياتهِ وبعدَ موتهِ ذكرًا وحمدًا وثناء ودعاءً.
أحاديثُ تَبقَى والفَتى غيُر خالِد *** إذا هو أمسى هامةً فوق صيِّر
وكم من العلماء والفضلاء والعظَماء قد غيَّبهم الأجل، وطواهم الموت، ولازالت مآثرُهم وآثارُهم ومفاخِرُهم تبعَث في المجالس طيبًا، وأرجًا وعَرفًا، يحمل الناس على عمل الخير، وفعل الجميل؟، والاقتداء الحسَن.
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم *** وعاشَ قوم وهم في الناس أموات
إن قيل مات فلم يمت من ذكره *** حيٌّ على مرِّ الأيّام باقي
وبقاءُ الذّكر الجميل، واستمرارُ الثناء الحسَن، والصيتِ الطيب، والحمدِ الدائم للعبد بعدَ رحيله عن هذه الدار نعمةٌ عظيمة يختصّ الله بها من يشاء مِن عباده ممن بذَلوا الخير والبرّ، ونشروا الإحسان، ونفعوا الخلق، وجمعوا مع التقوى والصلاح، مكارمَ الخصالِ، وجميلَ الخلال، يقول جل في علاه: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ) [ص: 45 -48].
أي: شرف وثناءٌ جميل يُذكَرون به.
وقال تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم: 50].
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "يعني: الثناء الحسن".
وأرفعُ الناس قدرًا وأبقاهم ذكرا، وأعظمُهم شرفًا، وأكثرهم للخَلق نفعًا: النبيُّ المعظَّم، والرسول المكرَّم، نبيُّنا وسيِّدنا محمّد، الذي قال الله -تعالى- عنه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح: 4].
قال أبو بكر بن عياش -رحمه الله تعالى-: "وأهلُ السنّة يموتون ويحيَا ذكرُهم، وأهل البدعة يموتون ويموتُ ذِكرهم؛ لأنّ أهلَ السنّة أحيَوا ما جاء به الرسولُ، فكان لهم نصيبٌ من قوله تعالى: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح: 4].
وأهلُ البدعة شنَؤوا ما جاء به الرسول، فكان لهم نصيبٌ من قوله تعالى: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [الكوثر: 3].
والإمام العادل القويّ الشجاع الذي يحمي الحوزة، ويذبّ عن البيضة، وينتصر لدينِه وعقيدته وأرضِه، تراه معظَّمًا في النّفوس، كبيرًا في أعينِ النّاس، جليلاً عند أهلِ الإسلام، مُمَدَّحًا عند العلماء والمؤرخين.
والعالم التقيّا لمتواضِعُ للناس الذي يسعَى في نفعِهم وتعليمِهم، والإحسانِ إليهم، يعلُو في الأرض ذكرُه، ويرتفع في النفوس قدرُه، ويبقى بين الخلق أثره؛ لعلمه ودينِه واتّباعه للسنّة، وإخلاصِه لله -تعالى-.
والجواد الكريم السخيّ المعطاء الذي يعطِف على الفقراء، ويرحَم المحتاجين، ويشفِق على المساكين؛ فإنّ العامّة تضِجُّ بالدعاء له، وذِكرِ محاسنه، ويُكتَب له قبولٌ تامّ، وجاهٌ عريض.
والعافُّ عن المحارِم، الكافُّ عَن أعراضِ الناس، الذي يبذُل الندى يكُفّ الأذى، ويحتمل المشقّة، ويرضِي الناس في غير معصية، بأصالةِ رأي، ورجاحَة عقل، وسلامة قلب، وعِفّةٍ في الفرج واليد واللسان؛ فذاك السيّد الوجيهُ الذي يقدَّم على الأمثال، وتهابُه الرّجال، ويَبقَى ذكرُه في الأجيال.
إذا شئتَ أن ترثِي فقيدًا من الورى *** وتدعو له بعد النبِيّ المكرَّم
فلا تبكيَنّ إلا على فَقد عالمٍ *** يبادِرُ بالتفهيم للمتعلِّم
وفَقدِ إمامٍ عالِمٍ قامَ ملكه *** بأنوار حكم الشرع لا بالتحكّم
وفقد شجاعٍ صادقٍ في جهاده *** وقد كُسِرت رايتُه في التقدُّم
وفقدِ كريمٍ لا يَملّ من العطا *** ليطفئ بؤسَ الفقر عن كلّ معدم
وفَقد تقيٍّ زاهدٍ متورّعٍ *** مطيعٍ لربّ العالمين معظِّم
فهم خمسة يُبكى عليهم وغيرهم *** إلَى حيثُ ألقت رحلَها أمّ قشعَم
أوصى رجلٌ بنيه، فقال: "يا بنيَّ، عاشروا الناسَ معاشرةً؛ إن غِبتم عنهم حنّوا إليكم، وإن متُّم بكوا عليكم".
ويموت أناس فلا يُؤسَى على فراقهم، ولا يحزن على فقدهم؛ فلم تكن لهم آثارٌ صالحة، ولا أعمالٌ نافعة، ولا إحسانٌ إلى الخَلق، ولا بَذل ولا شَفَقَة، ولا عَطف ولا رحمة، ولا خُلُق حسن، يقول الله -تعالى- في أمثال هؤلاء: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ) [الدخان: 29] لا يُرى لهم في الأرض شاكِر، ولا لهم بالخير ذاكر.
كأنَّهم قَطُّ ما كانوا ولا وُجدوا *** ومات ذكرُهم بين الورى ونُسوا
فالحقود الحَسود، والجَموع المنوع، والفاحِش البذيء، وصاحب الظلم والكِبر والهوى، والذي يعامل الناس بالغِلظة والقسوة والشدَّة؛ يقطع الله الذّكر الحسَن عنه، ويبقى لها البُغض في الأرض، والذم من الخلق؛ عن عمرو بن الحمق -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا عسَله" فقيل: يا رسول الله، وما عسَله؟ قال: "فتح له عملاً صالحًا بين يدَي موته؛ حتى يُرضِي عنه مَن حَوله" [أخرجه أحمد وابن حبان].
قال ابن قتيبة: "قوله: "عسَله" أراه مأخوذًا من العسل، شبّه العمل الصالح الذي يُفتَح للعبد، حتى يرضى الناسُ عنه، ويطيبَ ذكرُه فيهم بالعسل".
ومِن الأعمال الصالحة التي تُفتَح للموفَّقين، فيرضَى الله بها عنهم، ويُرضي بها خَلقَه، ويلحقهم أجرها بعد الممات: حبسُ النفس على التعليم، وإقراء القرآن، والتحديث، ونشر العقيدة الصحيحة، والتصدُّر للإفادةِ والتصنيف والتأليف، وطباعة الكتبِ النافِعة، وبناء المساجِد والمدارِس والمشافي، وسقي الماء، وحفر الآبار، وكثرة الصدقة، وإدامَة البرّ والإحسان والشفقةُ على الضِّعاف، وتزويج المعدوم، وإعطاء المحروم، وإنصاف المظلوم، والأداء عن المحبوس، وقضاء الحوائج، ومواساة الفقراء، وإدخال السّرور على المرضى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لأئمة المسلمين، وعامّتهم، والإصلاح بين المتخاصِمَين، وجمع كلمةِ الأمّة على الخير والهدى والتقوى والصلاح، إلى غير ذلك من طرقِ الخير، ووجوه البر؛ فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: "سَبعٌ يجرِي للعبد أجرُهُنّ وهو في قبره بعد موته: مَن علّم علمًا، أو أجرى نهرًا، أو غرس نخلاً، أو بَنى مسجِدًا، أو ورَّث مصحفًا، أو تَرَك ولَدًا يستغفر له بعد موته" [أخرجه أحمد].
وعن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ ممّا يلحَق المؤمنَ مِن عمله وحسناته بعدَ موته: عِلمًا علّمه ونشره، وولدًا صالحًا ترَكه، ومُصحفًا ورَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بَيتًا لابن السّبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدَقة أخرَجها من ماله في صحّته وحياته، يلحقه من بعد موته" [أخرجه ابن ماجة].
أيّها المسلمون: والرَّجلُ حين يعامِل زوجَه وأولادَه بالرّفق، والإحسانِ والشَّفَقَة والرحمة والمحبّة والعطف والبذلِ والكرَم؛ يبقى محمودَ الذّكر بعدَ موته، والمرأةُ حين تحسِن إلى زوجِها وتحوطُه بالإكرامِ والاحترامِ، يبقَى حبُّها في قلبهِ، ويسري حمدُها على لسانِه؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما غِرتُ على أحدٍ من نساءِ النبي -صلى الله عليه وسلم-ما غِرتُ على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُكثر ذكرَها، وربما ذبَحَ الشّاةَ ثم يقطِّعها أعضاء، ثم يبعثها في صواحب خديجة، فربما قلتُ له: كأن لم يكن بالدنيا إلا خديجة! فيقول صلى الله عليه وسلم: "إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد" [أخرجه البخاري].
وعند الطبراني: "وكان إذا ذكَر خديجة لم يَسأم مِن ثناءٍ عليها، واستغفارٍ لها؛ فأعمالها الجليلة، وصفاتها الحميدَة، خلَّدت مكانتَها في نفس الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقلبِه، فكان يكثِرُ ذكرَها وحمدَها، والثناءَ عليها، والدعاءَ لها.
أيّها المسلمون: وليس المقصود والهدف أن يسعى المرء لئن يحب، وخاصة من أهله وأبنائه؛ كلا، فليس هذا مقصود لذاته، ولا مطلوب، بل قد يكون الأب أكثر شفقة، وحبا لأهله وأبنائه وهم لا يحبونه؛ لأنه حريص على صلاحهم وتربيتهم، قائم عليهم بالأمر والنهي، والترغيب والترهيب، مانع عنهم أسباب الفساد من قنوات وحريات، لا يترك لهم الحبل على الغارب، وهم يكرهون منه ذلك؛ لجهلهم بمصلحتهم، ولحرمانه لهم شيئا من ملذاتهم ومتعهم المحرمة، ونحوها، هو قائم عليهم بما أمر الله، وهم-بطبيعة النفس- تريد هواها، هو مصطبر عليهم مراقب لصلاتهم وأخلاقهم ولباسهم، وهم لا يريدون ذلك؛ فمثل هذا مأجور عند ربه ولو لم يظهر أبناؤه محبته، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من طلب رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس".
وقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) [طـه: 132].
وقال عن إسماعيل: (وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) [مريم: 55].
فالمهم هو رضا الله -جل جلاله-، ولو لم يرض الناس، ورضا الناس-كما يقال- غاية لا تدرك؛ سمع الحسن البصري يوما امرأته، تقول: أراحنا الله منك، فتذكر حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" قيل: ومن الغرباء؟ قال: "الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس".
أيها الإخوة في الله: والمؤمن لا يبذُل الخير اجتلابًا للمِدحَة، ولا رغبةً في الثناء، ولا طمعًا في الذكر، ولكن من بذَل الخير بنيّةٍ خالصة وقصدٍ حسن قَبِل الله سَعيَه، ووضَع له القبول والحبَّ بين عبادِه، ونشَر له الذّكرَ الحسن، والثناء والدعاء في حياته وبعدَ مماته؛ فعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أهل الجنّة مَن ملأ الله أذنَيه من ثناءِ الناس خيرًا وهو يَسمَع، وأهلُ النار من مَلأ الله أُذنيه من ثناء الناس شرًا وهو يسمع" [أخرجه ابن ماجة].
أيّها المسلمون: وهكذا الحبّ يسرِي، والحمدُ يَبقى، والثناء والدعاءُ يدوم لمن عمَّ نفعُه، وشمِل عطاؤُه وإحسانه، وتواصَل برُّه وخيره، فقدِّموا لأنفسكم من الآثارِ الطيّبة، والأعمالِ الصالحة، والقُرَب والطاعات والإحسان ما لا ينقطِع بها عَمل، ولا تقِف معها أجور، مع تواصل الدعواتِ الصادقة لكم منَ المسلمين على مرّ الأيام والأعوام.
نسأل الله أن يجعلنا مباركين أينما كنّا، وجعلنا الله وإياكم من الموفَّقين الهداة المهتدين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيما لشَأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد:
فيا أيّها المسلمون: اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: وكما قَضَى اللهُ أَن يَكُونَ لِكُلِّ بِدَايَةٍ نِهَايَةٌ، وَأَن يَعقُبَ الحَيَاةَ مَوتٌ وَفَنَاءٌ، وَأَن يَكُونَ بَعدَ القَرَارِ مُضِيٌّ وَرَحِيلٌ، وَإِذَا كَانَت حَقَائِقُ الأَشخَاصِ وَمَكَانَتُهُم في مُجتَمَعَاتِهِم إِنَّمَا تَتَّضِحُ في الغَالِبِ بَعدَ رَحِيلِهِم؛ فكم من أموات خسر الناس بموتهم شيئا عظيما، وفقدوا بفراقهم خيرا كثيراً؛ إما عَالِمًا يَنشُرُ العِلمَ، وَيَبُثُّ المَعرِفَةَ، وَيُفَقِّهُ النَّاسَ في الدِّينِ، أو دَاعِيَةً حَكِيمًا، وَوَاعِظًا مُؤَثِّرًا، وَنَاصِحًا مُخلِصًا، أو جَوَادًا مُنفِقًا مَالَهُ في طُرُقِ الإِصلاحِ، وَدَعمِ مَشرُوعَاتِ الخَيرِ وَأَعمَالِ البِرِّ، أو مُؤْثِرًا عَلَى نَفسِهِ، بَاذِلاً وَقتَهُ وَجُهدَهُ في نَفعِ الأُمَّةِ، وَقَضَاءِ الحَاجَاتِ، وَتَفرِيجِ الكُرُبَاتِ، أو آمِرًا بِالمَعرُوفِ، نَاهِيًا عَنِ المُنكَرِ، حَافِظًا لِحُدُودِ اللهِ، أو حاكما عادلاً يقضي بالقسط، ويرحم رعيته، أو جاراً صالحاً قد أحسن جوار إخوانه، عاد مريضهم، وواسى حزينهم، وسعى في إصلاح ذات بينهم، وهكذا يكون موت بعض المسلمين نقصاً، وفقدهم مؤثراً.
وفي المقابل فمنَ المُؤَكَّدِ أَنَّ في المُجتَمَعِ أَقوَامًا لَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِهِم شَيئًا، وَلَن يُقِيمُوا لِرَحِيلِهِم وَزنًا.. لَن تَذَرِفَ لِفَقدِهِم عُيُونٌ، وَلَن تُسكَبَ عَلَى وَدَاعِهِم عَبَرَاتٌ، وَلَن تَجِفَ لَنَبَأِ وَفَاتِهِم قُلُوبٌ، وَلَن تَتَحَرَّكَ بِهِم أَفئِدَةٌ، وَلَن يَحزَنَ النَّاسُ بَعدَ دَفنِهِم؛ لأَنَّهُم لَن يَرَوهُم عَلَى وَجهِ الأَرضِ مَرَّةً أُخرَى؛ لأَنَّ حَيَاتَهُم وَمَوتَهُم سَوَاءٌ، بَل إِنَّ ثَمَّةَ أُنَاسًا سَيَكسَبُ الآخَرُونَ بِمَوتِهِم بَعضَ المَكَاسِبِ، وَمن ثَمَّ فَسَيَفرَحُونَ بِمَوتِهِم بَاطِنًا وَإِن لم يُعلِنُوا ذَلِكَ ظَاهِرًا؛ إِذْ سَيَفقِدُونَ مُفسِدِينَ في الأَرضِ، يُؤتُونَ مِن أَنفُسِهِم الفِتنَةَ مَتى مَا سُئِلُوهَا، إِن وَجَدُوا مُغتَابًا شَارَكُوهُ، أَو نَمَّامًا أَيَّدُوهُ، أَو حَاسِدًا أَوقَدُوهُ، أَو صَاحِبَ شَرٍّ دَعَمُوهُ وسَانَدُوهُ، يُؤذُونَ الجِيرَانَ، وَلا يَصِلُونَ الأَرحَامَ، وَيَغُشُّونَ النَّاسَ وَلا يُوفُونَ المَكَايِيِلَ، هُم مَعَ أهليهم غَلِيظُونَ جَبَّارُونَ، وَعَلَى النَّاسِ مُتَفَيهِقُونَ مُتَكَبِّرُونَ، وَلِلأَموَالِ جَمَّاعُونَ وَللخَيرِ مَنَّاعُونَ، إِنْ تَوَلَّى أَحَدُهُم سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيهَا، يصد عن سبيل الله والهدى، ويمنع طرق الخير ومشاريع الدعوة والإصلاح، وَإِنْ كَانَت لِلنَّاسِ عِندَهُ حَاجَةٌ أَو مُعَامَلَةٌ شَقَّ عَلَيهِم، وَإِن كَانَ عَلَى مَالٍ عَامٍّ لم يَألُ مَا نَهَبَ مِنهُ وَحَازَهُ لِنَفسِهِ.
فَسُبحَانَ مَن جَعَلَ بَينَ النَّاسِ كَمَا بَينَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ! أَقوَامٌ طَهُرَت قُلُوبُهُم فَسَمَت هِمَمُهُم، وَزَكَت نُفُوسُهُم فَصَلَحَت أَعمَالُهُم؛ فَهُم كَالنَّحلِ لا يَأكُلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَلا يُخرِجُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَآخَرُونَ أَظلَمَت قُلُوبُهُم فَسَفُلَت إِرَادَاتُهُم، وَخَبُثَت نُفُوسُهُم فَانحَطَّت أَعمَالُهُم؛ فَهُم كَالَذُّبَابِ لا يَحُومُ إِلاَّ عَلَى المَزَابِلِ وَلا يَقَعُ إِلاَّ عَلَى الجُرُوحِ!.
أَيُّهَا المُسلِمُون: أَن يَخسَرَ النَّاسُ بِمَوتِ أحدنا كَثِيرًا، أَو يَأسَفُون عَلَى رَحِيله طَوَيلاً، فَلَيسَ مَعنى ذَلِكَ أَن يكُونَ رَئِيسَ دَولَةٍ أَو وَزَيرًا أَو كَبِيرًا، أَو صَاحِبَ جَاهٍ عَرِيضٍ في قَومِه أَو مَكَانَةٍ عَالِيَةٍ في وَطَنِه، أَو ذَا مَنصِبٍ مَرمُوقٍ بَينَ أَقرَانِه، أَو مَالِكًا لأَموَالٍ طَائِلَةٍ مُستَولِيًا عَلَى ثَرَوَاتٍ وَاسِعَةٍ، فَكَم مِن غَنِيٍّ لم يَذُقْ أَهلُهُ وَأَبنَاؤُهُ لِلحَيَاةِ طَعمًا إِلاَّ بِمَوتِهِ وَتَصَرُّفِهِم فِيمَا وَرَاءَهُ؟! وَكَم مِن دَائِرَةٍ أَو مُؤَسَّسَةٍ لم تَنجَحْ إِلاَّ بِفِرَاقِ مُدِيرِهَا! بَلْ وَكَم مِن شَعبٍ لم يَتَحَرَّرْ وَيَعِيشَ عِيشَةَ الكَرَامَةِ إِلاَّ بِرَحِيلِ رَئِيسِهِ! وَهَا نَحنُ نَرَى هَذِهِ الأَيَّامَ بَعضَ شُعُوبِ عَالَمِنَا العَرَبيِّ تَحتَفِلُ عَلَى فِرَاقِ رُؤَسَائِهَا وَحَلِّ حُكُومَاتِهَا، وَتُعلِنُ الفَرحَ بِرَحِيلِهِم في مَيَادِينِهَا وَشَوَارِعِهَا، وَتَحظُرُ عَلَى وُزَرَاءَ وَمَسؤُولِينَ سَابِقِينَ السَّفَرَ وَتُجَمِّدُ أَرصِدَتَهُم، في حِينِ نَرَى تِلكَ الشُّعُوبَ تَبكِي وَهيَ تُشَيِّعُ عَالِمًا رَبَّانِيًا، وَتَتَفَطَّرُ قُلُوبُهَا حُزنًا وَهِيَ تُوَدِّعُ دَاعِيَةً مُجَاهِدًا، وَتَتَبَادَلُ التَّعَازِيَ، وَهِيَ تُفَارِقُ مُحسِنًا بَرًّا رَحِيمًا، أو مجاهداً مضحياً، وصدق الله: ومن أصدق من الله قيلاً: (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ بِالحَقِّ وَلِتُجزَى كُلُّ نَفسٍ بما كَسَبَت وَهُم لا يُظلَمُونَ) [الجاثية: 21- 22].
نعم -عباد الله- إِنَّهَا مَحَبَّةُ اللهِ لِلعَبدِ الطَّائِعِ البَارِّ المُحسِنِ في السَّمَاءِ، تَنَزِلُ في قُلُوبِ العِبَادِ في الأَرضِ، فَيَكُونُ لَهُ مِنَ القَبُولِ مَا يُغبَطُ عَلَيهِ، وَمِثلُهَا بُغضُهُ تَعَالى لِلعَاصِي وَالظَّالِمِ الطَّاغِي، تَتَنَادَى بها مَلائِكَةُ السَّمَاءِ، ثُمَّ تُملأُ بها قُلُوبُ الخَلقِ، فَيُبغِضُهُ كُلُّ شَيءٍ؛ قَالَ: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ" قَالَ: "فَيُحِبُّهُ جِبرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي في السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ في الأَرضِ، وَإِذَا أَبغَضَ عَبدًا دَعَا جِبرِيلَ، فَيَقُولُ: إِنِّي أُبغِضُ فُلانًا فَأَبغِضْهُ، فَيُبغِضُهُ جِبرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي في أَهلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُبغِضُ فُلانًا فَأَبغِضُوهُ" قَالَ: "فَيُبغِضُونَهُ ، ثُمَّ توضَعُ لَهُ البَغضَاءُ في الأَرضِ" [رَوَاهُ مُسلِمٌ].
وَقَد قَالَ تَعَالى عَن فِرعَونَ وَقَومِهِ: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) [الدخان: 29].
فَاحرِصُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- عَلَى نَفعِ إِخوَانِكُمُ المُسلِمِينَ، وَالإِحسَانِ إِلَيهِم، بما تَستَطِيعُونَهُ مِن مَالٍ أَو عِلمٍ أَو دَعوَة للخَيرِ؛ فَإِنَّهُ مَا استُمِيلَتِ القُلُوبُ بِمِثلِ الإِحسَانِ.
أَحسِنْ إِلى النَّاسِ تَستَعبِدْ قُلُوبَهُمُ *** فَطَالَمَا استَعبَدَ الإِنسَانَ إِحسَانُ
فَمَن لم يَستَطِعْ فَلْيَتَحَلَّ بِالخُلُقِ الحَسَنِ، وَلْيَلِنْ في مُعَامَلَتِهِ، وَلتَطِبْ كَلِمَتُهُ، فَمَن لم يَستَطِعْ فَلْيَكُفَّ شَرَّهُ عن الناس، فَإِنَّهَا صدقة منه على نفسه.
اللَّهُمَّ زَيِّنَا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجعَلْنَا هُدَاةً مُهتَدِينَ، اللَّهُمَّ: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ * وَلا تُخزِنَي يَومَ يُبعَثُونَ * يَومَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 84 - 89].
ثم اعلموا: أنّ الله أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وأنسه، فقال قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
فاللهم صل وسلم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم