الدنيا والاستهلاك

د يوسف بن عبدالله العليوي

2021-05-14 - 1442/10/02 2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/منزلة الدنيا في القرآن الكريم 2/من مظاهر التهافت على الدنيا 3/الآثار السلبية للاستهلاك 4/زهد النبي في الدنيا

اقتباس

من مظاهر هذا التهافت على الدنيا هذا الاستهلاك العريض، الذي تجاوز الحدود والمعقول؛ في المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، والمساكن والأثاث، والملاهي والألعاب، والأسفار والنُّزْهات، وكثير من الكماليات, حتى عَجّت الشوارع والطرقات بالأسواق...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

أما بعد: فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار؛ (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان: 33].

 

عباد الله: لقد أوجد الله -جل جلاله- هذه الحياةَ الدنيا لِنعمُرَها بطاعته وعبوديته، التي خلقنا من أجْلِها؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56], وإنّ هذه الدنيا الوائلة دارُ مَـمَرٍّ فانية، لا دارُ مَقَرٍّ باقية، وإنّ الآخرة لهي دارُ القَرار.

 

ولقد صَوَّر القرآنُ الكريمُ حقيقةَ الدنيا أتمَّ تَصوير، ووَصَفها اللهُ -عز وجل وهو أعْلمُ بِـها- بأصدقِ الأوصافِ وأدَقِّها، تدَبّروا ما قاله الله في هذه الآيات: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)[الأنعام: 32], (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا)[القصص: 60], (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20], (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا. الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)[الكهف: 45-46].

 

عباد الله: هذه هي حقيقة الدنيا التي لا تساوي عند الله -تعالى- جناح بعوضة، والتي لا نرى منها إلا بهرجَها وزينتَها، فنغتر بها, فهل نعيها حق الوعي؟, أخرج مسلم في صحيحه: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مَرَّ يومًا بالسُّوق ومعه أصحابه، فمرَّ بجَدْيٍ أسَكَّ ميِّتٍ -والأسك: صغير الأذن أو مقطوعه-، فتناوله بأذنه، ثم قال: "أيُّكُمْ يُحِبُّ أنَّ هَذا لَهُ بِدِرْهَم؟", فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! قال: "أَتُحِبُّونَ أنَّهُ لَكُمْ؟", قالوا: والله لو كان حيًّا لكان عيبًا فيه؛ لأنه أسَكَّ، فكيف وهو مَيِّت؟! فقال: "وَاللهِ لَلدُّنْيا أَهْوَنُ عَلى اللهِ مِنْ هَذا عَلَيكُم".

 

وإنّ من ينظر في حال كثير من الناس يرى تهافتًا عجيبًا عليها، وسباقًا محمومًا على زينتها وزخارفها، وينساقون وراء شهواتها ولذاتها، ويتبارون في معرفتها، حتى صارت مبلغَهم من العلم، وكأنهم فيها خالدون, وهم عن الآخرة هم غافلون!.

 

ألا وإن من مظاهر هذا التهافت على الدنيا هذا الاستهلاك العريض، الذي تجاوز الحدود والمعقول؛ في المآكل والمشارب، والملابس والمراكب، والمساكن والأثاث، والملاهي والألعاب، والأسفار والنُّزْهات، وكثير من الكماليات, حتى عَجّت الشوارع والطرقات بالأسواق والمطاعم ومحلات الحلويات ودور القهوة, وصالونات التجميل وأماكن اللهو واللعب، وهَلُمَّ جَرّا!.

 

ويخادعنا التجار بالموضات وراءَ الموضات، والدعاياتِ وراءَ الدعايات، التي تخاطب الغرائز، وتستثير الشهوات، وتعينهم المصارفُ بتسهيل القروض والدفع بالبطاقات؛ فتنساق النفوس وراءها مغترة، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.

 

ولم يقتصر الأمر على الأغنياء؛ بل صار كثير من غيرهم يجارونهم ويسابقونهم في الترف والإسراف!.

 

وإن الدافع لهذا الاستهلاك المترف في كثير من الأحوال حب الدنيا، والتكاثر منها، والتفاخر فيها، والتقليد لأهلها، والبحث عن قبولهم، والشعور الزائف بالتميز والمكانة، حتى صار الاستهلاك من القيم الاجتماعية.

 

وقد حصل به ويحصل آثار سلبية وخيمة على الأفراد والمجتمع؛ من لهوٍ عن عبودية الله, وغفلةٍ عن ذكره، وتغييرٍ للقيم الخُلُقية، واختلالٍ في موازين العلاقات الاجتماعية، وتقاطعٍ بين الأقارب والأصحاب، وطلاقٍ بين الأزواج, ويحصل به غلاءُ الأسعار، وإهدارُ كثيرٍ من الثروات، وإرهاقٌ لميزانيات الأسر بالمديونيات, كما يحصل به كثيرٌ من الأمراض النفسية والعضوية، التي ترهق الأفرادَ والأسرَ والدولَ بالتكاليف الباهظة، وغيرُ ذلك من الآثار السلبية المشاهدة.

 

فاتقوا الله -عباد الله-، وخذوا الدنيا بحَقِّها ولا تَطْغَوا، وتَنَعَّموا بالمباحات من نِعَم الله ولا تسرفوا، وكونوا من عبادِ الرحمنِ الذين قال الله فيهم: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)[الفرقان: 67]، واستجيبوا لقول ربكم -جل جلاله-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الأعراف: 31]، وقوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)[النساء: 5].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين, أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 1، 2], والصلاةُ والسلامُ على المصطفى الأمين وقدوة العالمين، الذي كان يقول: "مَا لي وَللدُّنْيَا؟! مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا"، وكان يدعو ربه: "اللَّهمَّ اجعل رِزقَ آلِ محمَّدٍ قوتًا"؛ أي: كفافًا.

 

وأخرج مسلم عن عمرَ -رضي الله عنه- قال: دخلتُ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو مُضْطَجعٌ على حَصِيرٍ، فجلستُ، فأدنى عليه إزارَه وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِه، فنظرتُ ببصري في خِزانةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فإذا أنا بقَبْضةٍ من شعيرٍ نحوِ الصَّاعِ، ومِثلِها قَرَظًا في ناحيةِ الغُرفةِ -والقَرَظ: شجر يُدبغ به الجلود-، وإذا أُفَيقٌ مُعَلَّقٌ -وهو الجلد الذي لم يُدبغ بعد-، قال: فابْتَدَرَتْ عَيناي -أي: سالت منهما الدُّموع-، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَا يُبْكِيكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ؟!" قلتُ: يا نبيَّ الله! وما لي لا أبكي؛ وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جَنْبِك، وهذه خِزانتُك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قَيصَرُ وكِسرى في الثِّمارِ والأنهارِ، وأنت رسول الله وصَفْوتُه، وهذه خِزانتُك؟! فقال: "يا ابْنَ الخَطَّابِ! أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ وَلَهُمُ الدُّنْيَا؟" قلتُ: بَلَى.

 

فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا "أنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا؛ فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟".

 

ولا تَغْتَروا بهذه الدنيا الفانية، ولا تُؤثِروها على الآخرة الباقية؛ فإن ذلك من سمات أهل النار، والعياذ بالله؛ (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)[النازعات: 37 - 39], والله -عز وجل- يقول: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[هود: 15، 16].

 

واعلموا أنكم مَيِّتون، وعن هذه الدنيا راحلون، وإنّ الحياة التي تنتهي بالموت لا تستحق اللَّهاث وراءها.

 

النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت *** أنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها

لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ الـمَوتِ يَسكُنُها *** إِلّا التي كانَ قَبلَ الـمَوتِ يَبْنيها

فَإِنْ بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها ***وإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانِيها

 

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185].

 

اللهم إنا نعوذ بك من فتنة الدنيا، ونعوذ بك من فتنة الغنى، ومن فتنة الفقر، اللهم إنا نعوذ بك من البُخْل، ونعوذ بك من ضِلَع الدَّين, اللهم لا تَجعل الدنيا أكبر هَمِّنا، ولا مَبْلغ عِلْمنا، ولا إلى النار مَصيرنا, اللهم اغفر لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرنا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياءِ منهم والأموات.

 

عباد الله: اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزدكم، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

المرفقات

الدنيا والاستهلاك.doc

الدنيا والاستهلاك.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات