عناصر الخطبة
1/ الدنيا مضمار سباق 2/ معياران يتميز بهما العمل الصالح 3/ حقيقة الإيمان باليوم الآخر وثماره 4/ فضل العبادة وقت ظهور الفتن وغفلة الناس 5/ الحث على الطاعة واغتنام مواسم الخيرات.اقتباس
إن هذه الدنيا مزرعة يزرع فيها الإنسان ما يجنيه بين يدي ربه، فلذلك كان الفطناء يشتغلون فيها بكل ما يعود عليهم بالنفع للقاء ربهم، لكن هذا لا يكون إلا لقلوب امتلأت إيمانًا بالوقوف بين يدي الله -عز وجل- بالرجوع إليه؛ لأنه سيحاسبهم ويسألهم، فإذا امتلأ القلب إيمانًا باليوم الآخر جدّ واشتغل وبذل كل طاقته في فكاك نفسه والفوز ذلك اليوم.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله –تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى بطاعته فيما أمر، وبترك ما نهى عنه وزجر، وبفعل ذلك رغبةً فيما عنده وخوفًا من عقابه، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين يا رب العالمين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الناس: إن هذه الدنيا ميدان سباق وميدان اختبار يختبر الله -تعالى- فيها الناس في إيمانهم وصدقهم، في عملهم وما يكون منهم (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2].
وحسن العمل لا يتحقق إلا بتمام الإخلاص لله -عز وجل- وبأن يكون على وفق هدي خير الأنام -صلى الله عليه وسلم-، هذان معياران يتميز بهما العمل الصالح، ويتحقق بهما السبق في حسن العمل، فبقدر ما مع الإنسان من الإخلاص لله -عز وجل-، والاشتغال بالعمل الصالح يكون قد فاز ونجح في اختبار الدنيا الذي ذكره الله -تعالى- في قوله: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2].
إن هذه الدنيا مزرعة يزرع فيها الإنسان ما يجنيه بين يدي ربه، فلذلك كان الفطناء يشتغلون فيها بكل ما يعود عليهم بالنفع للقاء ربهم، لكن هذا لا يكون إلا لقلوب امتلأت إيمانًا بالوقوف بين يدي الله -عز وجل- بالرجوع إليه؛ لأنه سيحاسبهم ويسألهم، فإذا امتلأ القلب إيمانًا باليوم الآخر جدّ واشتغل وبذل كل طاقته في فكاك نفسه والفوز ذلك اليوم.
أما القلوب الغافلة والقلوب الغارقة في الدنيا والقلوب التي لا ترى إلا يومها، ولا تدرك غدها فهي عن هذا غافلة، والله -تعالى- أعاد في كتابه ذِكر اليوم الآخر لتتهيأ النفوس ولأن الغفلة تغلب على القلوب (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة:281]، هذه آخر آية أنزلها الله -تعالى- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- فذكَّر الله -تعالى- باليوم الآخر تذكيرًا ملأ كتابه، فقلَّ سورة إلا وفيها من ذكر اليوم الآخر ما يشحذ الهمم، وينشط النفوس على الاجتهاد في العمل الصالح حتى إذا جاءت يوم القيامة جاءت وقد اشتغلت بعمل صالح تفرح فيه بلقاء ربها جل في علاه.
وإنه ليس من الحكمة ولا من العقل ولا من الرشد أن ننظر إلى ذلك اليوم مؤمنين به، أن ننظر إلى يوم تظلل الناس فيه أعمالهم، أن ننظر إلى يوم يُؤتَى بالإنسان ليس معه إلا عمله، ثم بعد ذلك نشتغل بألوان وأعمال لا تنفعنا في ذلك اليوم؛ يوم العرض على الله -عز وجل-.
إن المؤمن يبذل قصارى جهده في فكاك نفسه، ويعلم أن كل خطوة في طريق الصلاح، في طريق الاستقامة هي خير له عند ربه، وهي خير من الدنيا وما فيها؛ إذا صدق الله -عز وجل- وكان له مخلصًا، وعلى وفق هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- سائرًا.
فبادروا أيها المؤمنون، بادروا أيامكم وأعماركم في الصالحات؛ فإننا لا ندري متى نرحل، ولا نعلم متى نغادر فمهما كانت الدنيا حلوة أو مُرَّة فلا بد من رحيل يستوي في ذلك الصغير والكبير، الغني والفقير الصحيح والمريض كلهم عن هذه الدنيا مغادرون وإلى الآخرة سائرون، والحكيم العاقل من استكثر من نفع لليوم الآخر (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
هكذا أمركم ربكم -جل في علاه- أن تتزودوا بخير زاد تلقون به ربكم، وزاد التقوى ليس شيئًا يحمل في المخابئ والجيوب، أو ما إلى ذلك مما يُحمل فيه المتاع والنقود إنما هو شيء تسطر أحواله، وتبين صفاته في دواوين الأعمال.
فتزودوا بالصالح من العمل، واحتسبوا الأجر عند الله، واعلموا أن شيئًا لا يضيع عند ربك دقيق أو جليل، صغير أو كبير، سر أو علن في معاملته أو في معاملة الناس؛ فإنه ما من شيء يضيع عند الله -عز وجل- (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي: أعمالكم.
(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى)، فاحتسب الأجر عند الله، واعلم أن ما يضيع بين الناس وما تنساه من صالح العمل مقيَّد (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)، (هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية:29].
اللهم أعنا على طاعتك واجعلنا من حزبك وأوليائك، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون فإن تقوى الله نجاة لأهلها في الدنيا والآخرة (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [الزمر:61].
عباد الله : قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم من حديث معقل بن سنان "العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ" أي: العبادة وقت ظهور الفتن وكثرة الفساد بين الناس في المنزلة والمكانة كهجرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأجر والثواب، وفي الحفظ والصيانة.
فحق على كل مسلم وقد مُلئت الدنيا بألوان من الفتن وأنواع من الشرر أن يجدّ ويجتهد، ويزيد من ذلك في مواسم الخير والبر، وأنتم في موسم من مواسم الله فيه الخيرات والهبات فيه العطايا والمنح، فيه الفضائل والخيرات، العاقل من اغتنم هذا الزمان بما يرضى الله -تعالى- به عنه ابتداءً بتكميل الواجبات والتفتيش عنها، فما تقرب عبد إلى الله بشيء أحب إليه من أن يتقرب إليه بما فرضه عليه.
فتِّش نفسك في الصلاة، في الزكاة، في الصوم، في الحج، في حقوق الوالدين، في حقوق الجيران، في الأمانات التي تحملتها، فتِّش نفسك في السر، في العلن، فتِّش قلبك، أهو خالٍ من الآفات والمهلكات من العُجب والكبر وسائر الآفات كالحسد والحقد والغل وغير ذلك.
فتش لسانك أهو ممسك عن الغيبة والنميمة، وسيء القول، فتِّش أحوالك فإذا كملت الواجبات فأبشر فإنه أفضل ما تتقرب به إلى الله في كل زمان وفي أزمنة الخير ومواسم البر هو أفضل ما يكون من القربات لله -عز وجل- .
ثم بعد ذلك باب الطاعة والخير مفتوح ليس له حد ولا قصر، ولا صادّ ولا مانع إلا ما يكون من نفسك من كسل وتهاون، "وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر فيه، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"، أربع تمثل المعية الكاملة للعبد في النصر والتأييد، والحفظ والصيانة، والتوفيق والتسديد، فمعك الله في سمعك؛ إذا أحبك الله فهو معك في حركاتك وسكناتك.
ثم لن تخلو من حاجة تريدها أو مخوف تتوقاها فأبشر؛ "ولئن استنصرني لأنصره ولئن استعاذني لأعيذنه"، لا يكون ذلك إلا لمن يحبه الله، ألا تحبون أن تكونوا من أولئك؟ الطريق مفتوح ليس بينك وبين بلوغ هذه المنزلة حائل ولا مانع إلا قصورك وتقصيرك فجد واجتهد.
إذ لم نجدّ ونجتهد في هذه الأيام، فمتى تكون الهمة؟! متى يكون العمل؟! متى يكون الجدّ؟! إذا لم يكن منا تركٌ للمعاصي، إقبالٌ على الله، ندمٌ على الخطأ، حرصٌ على الخير، مبادرةٌ إلى أداء الواجبات في الصلوات وغيرها، إذا لم يكن هذا منا في هذا الموسم، فنحن أبعد عنه في غيره، فقد يعنا تهيؤ الجو وكثرة الطائعين وتصفيد الشياطين، بل نكون صادقين بإقبالنا على الله، ولنبشر فإن الله -جل في علاه- يعطي على القليل والكثير، إذا علم من قلبك الصدق في الإقبال عليه يسَّر لك السبب.
الإشكال يا إخوان ليس في عدم وجود العمل، إنما في ضعف الرغبة فيه، فإذا صدقت الرغبة تذللت الصعاب، إذا صدقت الرغبة في طلب الهداية والاستقامة يسَّر الله لك الإقبال.
فجد واجتهد، واعلم أن لك من الله معينًا إذا صدقت معه في الإقبال على طاعته، قال -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) [العنكبوت: 69].
اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين، اللهم أعنا على طاعتك...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم