الدعوة السرية وفقهها -2- (المسلمون الأوائل والاجتماع في دار الأرقم)

الشيخ عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت

2023-01-27 - 1444/07/05 2023-02-02 - 1444/07/11
عناصر الخطبة
1/بدء الدعوة السرية 2/دعوة الثقة والأقربين 3/إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه 4/ دروس من إسلام أبي بكر الصديق 5/دور دار الأرقم في الدعوة السرية للإسلام 6/الحكمة من السرية في الدعوة في البداية 7/من قواعد التغيير في المجتمعات.

اقتباس

اسأل نفسك وأسأل نفسي: كم من شخص هديناه إلى الإسلام فأسلم؟! كم من عاصٍ نصحناه فارتدع عن معصيته؟! كم من حائر أضَأْنا دَرْبَه، وتائهٍ أرْشدناه؟! هم في زمان لم يتوفر لهم ما توفر لدينا من وسائل الدعوة من فضائيات وهواتف ووسائل تواصل، أصبحت الدعوة ميسرةً...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهُمَّ لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرِّضا.

 

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون: رأينا في الخطبة السابقة بدء الدعوة السرية بنزول: (يَا أَيُّهَا اَلْمُدَثِّرُ)[المدثر:1]، وبدء النبي -صلى الله عليه وسلم- دعوته بالأقارب الثقة، فأسلمت زوجته خديجة، وأسلم عَليٌّ وهو ابن ثماني سنين، وقيل: أكثر، وأسلم زيد بن حارثة، ولا تزال دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- مستمرةً، فأثمرت مُسلمين جُدُدًا، فكان -صلى الله عليه وسلم- يجتمع بهم سرًّا في دار الأرقم، وهذا موضوع خطبتنا اليوم، في موقفين اثنين:

 

الموقف الأول: إسلام أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-: عرض عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإِسلام، فأسلم فورًا، عن ابن إسحاق قال: "ثم إنَّ أبا بكر لَقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: أحقٌّ ما تقول قريش يا محمد مِن تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا وتكفيرك آباءنا؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا بكر، إني رسول الله ونبيُّه، بعثني لأُبلِّغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فو الله إنه للحق أدعوك، إلى الله يا أبا بكر، وحده لا شريك له، ولا يُعبَد غيره، والموالاة على طاعته أهل طاعته

 

وقرأ عليه القرآن، فلم يفر، ولم ينكر، فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد، وأقرَّ بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق"، وبذلك يكون الصدِّيق أول من أسلم من الرجال الأحرار؛ لأن عليًّا كان غلامًا حين أسلم، وزيد بن حارثة من الموالي، ونستفيد من إسلام الصديق أمران:

 

الأول: سرعة الاستجابة للحق: وهي خصلة حميدة تدل على تواضُع صاحبها وعدم تكبره، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت منه كبوة وتردُّد ونظر، إلا أبا بكر ما تردَّد فيه"، وهذا ليس مستغربًا من أبي بكر؛ صاحب الفطرة النقية، ولأنه تاجر، وكثير الأسفار، ويسمع من أهل الكِتاب بنبيٍّ تقارب زمانُه، يُبعَث في مكة؛ فآمن به.

 

ولذا نلمح سرعة استجابته للحق حينما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من رحلة الإسراء والمعراج فأخبر الناس، فكذَّبوه إلا أبا بكر، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي" مَرَّتَيْنِ(رواه البخاري:3661).

 

وهكذا -إخواني- يتعلم المسلم من موقف أبي بكر أن يستغرب مِمَّن يُوقن بفرضية الصلاة عليه، ولا يُسارِع إلى إقامتها، ويستغرب ممَّن يستطيع الحج ولم يُبادِر، ويستغرب ممَّن تُوقِنُ بفرضية الحجاب عليها وتسوِّف، وتقول: حتى أتزوَّج، ويستغرب فيمن يعاقر خمرًا أو يُدخِّن ويعلم أن هذا الأمر فيه هلكته، ثم يتمادى فيه.

 

وهكذا في كل من يعرف خيرًا فلم يفعله، أو يُقارف شرًّا ويتمادى فيه، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)[الأنفال: 24]، وقال -تعالى-: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[الزمر: 18].

 

الثاني: الفاعلية لدعوة غيره إلى الإسلام: المؤمن حينما يعرف الخير لا يكون أنانيًّا؛ بل يدعو الناس إلى الانتفاع بهذا الخير، وهذا من أحسن القول، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً"(رواه البخاري:3461).

 

هكذا كان أبو بكر -رضي الله عنه- بمجرد إسلامه أسلم على يديه: الزبير بن العوَّام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقَّاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجرَّاح، وعبدالرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وغيرهم، جاء بهم فُرادى فأسلموا.

 

كما اهتمَّ بأسرته الصغيرة؛ فأسلمت زوجته أم رومان، وأبناؤه: أسماء -وكانت زوجة للزبير بن العوَّام-، وعائشة وهي طفلة صغيرة، وعبدالله، وأسلم خادمه عامر بن فهيرة، وكل هذه الشخصيات سنقف معها وقفات في حديثنا عن السيرة؛ لبيان مواقفها المحمودة تجاه الدعوة.

 

اسأل نفسك وأسأل نفسي: كم من شخص هديناه إلى الإسلام فأسلم؟! كم من عاصٍ نصحناه فارتدع عن معصيته؟! كم من حائر أضَأْنا دَرْبَه، وتائهٍ أرْشدناه؟! هم في زمان لم يتوفر لهم ما توفر لدينا من وسائل الدعوة من فضائيات وهواتف ووسائل تواصل، أصبحت الدعوة ميسرةً كما الفاحشة والمعصية ميسرة؛ ولكن الله يهدي من يشاء، وتذكروا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ"(رواه البخاري: 3009).

 

فَاَللَّهُمَّ اهْدِنا واهْدِ بنا، واجعلنا هُداةً مُهْتدين، آمين، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

اَلْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَفَى، وَصَلَّى اللَّهُ وسَلَّمَ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اقْتَفَى.

 

أمَّا بَعْدُ: رَأَينا فِي اَلْخُطبةِ الْأُولَى إسلام أبي بكر خلال مرحلة الدعوة السريَّة، وسرعة استجابته للحقِّ، وفاعليته في الدعوة إلى الإسلام فأسلم على يديه خَلْقٌ كثيرٌ، وَنَخْتِمُ حديثنا بـ:

 

الموقف الثاني وهو: مكان اجتماع النبي -صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء الأوائل.

عباد الله، عقد النبي -صلى الله عليه وسلم- اجتماعات سريَّة بالمسلمين في دار الأرقم ليُعلِّمهم شرائع الإسلام، والأرقم هذا أسلم على يد أبي بكر، واختار النبي داره لعدة أسباب منها: كون قريش لم تكن تعلم بإسلام الأرقم، وعمره يوم أسلم 16 سنة، فالفتيان بعيدون عن الأنظار، وينتمي إلى قبيلة بني مخزوم، أشد أعداء النبي -صلى الله عليه وسلم-فهو أبعد من الريبة؛ لأنه ليس من بني هاشم، وكون داره على الصفا فهي مناسبة للاجتماع، فأنتم تلاحظون في هذه الأسباب مبلغ اتخاذ النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسباب الحيطة والحذر حتى لا يُكتشف أمرُهم في البداية.

 

والهدف من هذا الاجتماع: هو توعية المسلمين بأمر دينهم، وتلاوة ما ينزل عليه من القرآن فيسمعونه غضًّا طريًّا من فم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم يُفسِّر لهم معاني ما أنزل عليه، وإذا استشكل أمر على بعضهم كان يسأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يُجيبه. هذا علاوة على ما يسمعونه من فم النبي -صلى الله عليه وسلم- من الحكمة والقول الحسن الذي ينفعهم في الدنيا والآخرة.

 

فإذا تفرَّقُوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قصدوا بيوتهم ينقلون ما سمعوه إلى أزواجهم المؤمنات أو آبائهم المؤمنين، أو ينشرونه في ذوي الثقة من كفار أقاربهم أو غيرهم، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ونستفيد لواقعنا من هذا الملخص ما يلي:

 

• إن السرية في الدعوة ضرورية للحِفاظ عليها في البيئات التي يتكالَب عليها الأعداء وفي لحظة استضعافها، وهذا من فقه التدرُّج وفقه الحيطة والحذر.

 

• إن من قواعد التغيير في المجتمعات: توعية الفئة التي على أكتافها سيقع التغيير، ويتمكنون من الدفاع عن الدعوة وصاحبها، وبدون هذا الوعي في تغيير ما بالنفس من الجاهلية لن يتغير شيء؛ ففاقد الشيء لا يُعطيه، والله -عز وجل- قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[الرعد: 11].

 

• إنه لا تغيير بدون فقه وفهم وبدون علم وبدون وعي بهذا الدين؛ ولذلك اجتمع النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه لتحقيق هذه الغايات، فاجتهدوا إخواني في تعلُّم هذا الدين، بكل الوسائل المتيسِّرة وما أكثرها في عصرنا! والحضور إلى مجالس العلم في المسجد وغيره، وسؤال أهل العلم عما استشكل عليكم في أمر دينكم، قال -تعالى-: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 43].

 

• إنه لا تغيير بدون نقل ما تعلَّمناه إلى غيرنا، كعمار بن ياسر الذي نقل ما تعلَّمه من دار الأرقم إلى أبيه ياسر وأمه سُميَّة فأسلما، وليكن حرصنا في نقل الدعوة إلى الغير اتباع الأسلوب الذي أمر الله به نبيَّه فقال له: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل: 125].

 

فاللَّهُمَّ، اِجْعَلْنَا ممن يدعون إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلون بالتي هي أحسن، آمِين.

 

 

المرفقات

الدعوة السرية وفقهها -2- (المسلمون الأوائل والاجتماع في دار الأرقم).pdf

الدعوة السرية وفقهها -2- (المسلمون الأوائل والاجتماع في دار الأرقم).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات