عناصر الخطبة
1/مرحلة الدعوة السرية 2/مراحل الجهر بالدعوة النبوية 3/مرحلة دعوة الأقارب 4/أهمية دعوة الأقارب أولاً 5/ وسائل الدعوة متنوعة ومتجددة 6/خطورة عداء الأقارب للدعوة 7/أهمية نصرة الأقارب للدعوة.اقتباس
علينا الحذر من التركيز فقط على المنكرات والعادات المخالفة للشرع في العائلة، وإهمال تنمية الإيجابيات، والكثير من العادات والمنكرات تعالج بالتدرُّج وليس بالعجلة، وينبغي علينا المعالجة ببطء وعدم استعجال النتائج، فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثير منقطع...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
نحمدك ربنا على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة، وآلائك الجسيمة؛ حيث أرسلت إلينا أفضل رسلك، وأنزلت علينا خير كتبك، وشرعت لنا أفضل شرائع دينك، فاللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: ختمنا الكلام باختصار شديد عن مرحلة الدعوة السرية، والتي استمرت ثلاث سنوات، أسلم خلالها السابقون الأولون، واجتمع فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، يتلو عليهم الآيات ويُعلّمهم الكتاب والحكمة، وكانت الحكمة من سريَّة الدعوة هي أخذ الحيطة والحذر من تكالُب الأعداء عليها، وإتاحة الفرصة لتكوين اللبنة الأولى الذين يستطيعون تحمُّل أعباء الدعوة عند خروجها للعلن.
وبنزول قوله -تعالى-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 214- 215]؛ جهَر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة، ومرت مرحلة الجهر بمراحل: ابتدأت بدعوة الأقارب، ثم عموم قريش، ثم عموم الناس، ويقتصر كلامنا في هذه الخطبة على مرحلة دعوة الأقارب.
عباد الله: دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشيرته بني هاشم بعد نزول قوله -تعالى-: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)؛ فجاءوا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا نحو خمسةً وأربعين رجلاً، فلما أراد أن يتكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بادَره أبو لهب وقال: "هؤلاء عمومتك وبنو عمِّك فتكلم، ودع الصُّباة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبةً طاقةً، وأنا أحق من أخذك، فحسبك بنو أبيك، وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يَثِبَ بك بطون قريش، وتمدهم العرب، فما رأيت أحدًا جاء على بني أبيه بشَرٍّ مما جئتَ به".
فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يتكلم في ذلك المجلس، وهذا من الحكمة في هذا الموقف، ثم دعاهم ثانيةً وقال: "الحمد لله، أحمده وأستعينه، وأومن به، وأتوكَّل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، ثم قال: "إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو، إني رسول الله إليكم خاصةً، وإلى الناس عامةً، والله لتموتنَّ كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتحاسبنَّ بما تعملون، وإنها الجنة أبدًا أو النار أبدًا".
فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك، وأقبلنا لنصيحتك، وأشد تصديقًا لحديثك! وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تُحِبّ، فامضِ لما أُمِرت به، فو الله، لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فِرَاق دين عبد المطلب، فقال أبو لهب: هذه والله السوأة، خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: "والله لنمنعنه ما بقينا".
عباد الله: من خلال هذه الأحداث نستفيد فوائد جمَّة، نقتصر منها على ما يلي:
الفائدة الأولى: أهمية دعوة الأقارب أولاً: قال -تعالى- آمرًا نبيَّه ونحن تبع له في الأمر: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)[الشعراء: 214]، وقال -تعالى- يأمر عموم المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)[التحريم: 6]، قال الضحاك ومقاتل: "حقٌّ على المسلم أن يُعلّم أهله من قرابته وإمائه وعبيده ما فرَض الله عليهم وما نهاهم الله عنه".
والهدف هو إيصال الدعوة والخير إلى الأقارب؛ لأن التزامهم يكون له تأثير إيجابي على محيط الداعية والوسط الذي ينشط فيه، فينقذهم من النار أولاً، ويعينونه على أمر الدعوة ثانيًا، وهكذا ينبغي أن نكون أيها الإخوة الأفاضل.
قد يقول قائل: كيف نُطبِّق دعوة الأقارب في مجتمعنا اليوم؟ وهل نفعل كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-؟
وسائل الدعوة متنوعة ومتجددة؛ فيمكن لكل أحد أن يجتهد في الطريقة الأنسب له في دعوة أقاربه؛ فيمكن مثلاً لهذا أن يختار حلقة ذكر أسبوعية أو شهرية مع العائلة فيتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، وإذا كنت لا أتقن الدعوة يمكن أن أستدعي لها شخصًا آخر من العائلة نفسها أو من غير العائلة، أو نستمع لشريط صوتي أو مرئي لأحد دعاة الإسلام وما أكثرهم! باللغة والأسلوب اللذين يليقان بنا.
ويمكن استغلال المناسبات العائلية للدعوة، ويمكن أن أحسن إلى ذوي المكانة في العائلة حتى أكسب تأييدهم، أو عدم معارضتهم على الأقل، وأسجل حضوري في مناسبات الفرح والحزن، ويمكن ربط الأطفال بدار للقرآن أو جمعية تثقيفية جادة أو رحلة ترفيهية يقوم عليها ذوي المسؤولية والدين والخلق، ويمكن استثمار وسائل التواصُل الاجتماعية كالواتساب وغيره؛ لأن هواتف الأقارب لدي؛ فأرسل لهم كل مفيد، إلى غير ذلك من الوسائل التي لا تنحصر.
لكن بالمقابل علينا الحذر من التركيز فقط على المنكرات والعادات المخالفة للشرع في العائلة، وإهمال تنمية الإيجابيات، والكثير من العادات والمنكرات تعالج بالتدرُّج وليس بالعجلة، وينبغي علينا المعالجة ببطء وعدم استعجال النتائج، فقليلٌ دائمٌ خيرٌ من كثير منقطع، كما أنه لا ينبغي مجاراة العائلة في المنكرات بدعوى الحفاظ على صلة الأرحام، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَع.
الفائدة الثانية: عداء الأقارب للدعوة في نموذج أبي لهب:
رغم اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة في دعوة الأقارب، قد يُبتلى الداعية بفرد أو أفراد من العائلة يعادون مشروعه الإصلاحي، ويرفضون توجُّهاته، وقد لا يكونون محايدين؛ بل ينصبون أنفسهم دعاةً للباطل في وسط العائلة، وهذا الاتجاه مثله في دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- عمُّه أبو لهب وزوجته وأبناؤه، فكلهم أعداء للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد مَرَّ معنا ما قاله أبو لهب في حق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وهذه سُنة إلهية في ابتلاء الأنبياء والدعاة في أقرب الناس إليهم؛ كعداوة آزر لابنه إبراهيم عليه السلام، قال -تعالى-: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)[مريم: 41 - 48].
والفائدة بالنسبة لنا:
• أن نعرف هذه السُّنَّة فلا نُصاب بالإحباط واليأس إذا وجدنا من يصدنا عن الإصلاح من الأقارب.
• الاقتداء بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، الذي لم يَحُلْ أبو لهب بينه وبين تبليغ دعوة ربِّه، حتى هلك عمُّه، وخسر الدنيا والآخرة، وبقيت الدعوة مستمرةً وبلغت ما بلغ الليل والنهار، فلله الحمد والمِنَّة.
فاللهم اهدنا واهْدِ بنا، واجعلنا هُداةً مهتدين، آمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى وآله وصحبه، ومن اقتفى.
أما بعد: رأينا في الخطبة الأولى أهمية دعوة الأقارب، واحتمال عداء بعضهم للداعية، ونختم حديثنا بـ:
الفائدة الثالثة: وهي نصرة الأقارب للدعوة في نموذج أبي طالب:
عباد الله: مع الصورة السلبية التي مثَّلها أبو لهب في عدائه لابن أخيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، فهناك صورة مشرقة مثَّلها أبو طالب في نصرة ابن أخيه –وإن لم يسلم للأسف– ولكنه لم يعارض؛ بل نصره ودافع عنه، واتضح ذلك في قوله السابق معنا: "غير أني أسرعهم إلى ما تُحِب، فامْضِ لما أُمِرت به، فو الله، لا أزال أحوطك وأمنعك".
واتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع عمِّه نفس المنهج الذي اتَّبَعه إبراهيم -عليه السلام- مع أبيه؛ لكنَّه أصَرَّ على دين آبائه حتى هلك كافرًا، وحزن النبي -صلى الله عليه وسلم- على موته على غير الجادة، وقد روى البخاري في صحيحه: "لما حضرت أبا طالب الوفاةُ دخل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعنده أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أي عَمِّ، قل: لا إله إلا الله أُحاجُّ لك بها عند الله"، فقال أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغبُ عن مِلَّةِ عبدالمطلب، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ"، فنزلت: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)[التوبة: 113](رواه البخاري).
فتعلمنا من قصة أبي طالب شيئين:
الأول: الحرص على هداية الأقارب وتعريفهم بالإسلام كما حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على هداية عمِّه.
والثاني: أن نعلم أن أمر الهداية بيد الله -سبحانه وتعالى-؛ فهو وحده مُقلِّب القلوب، والهادي إلى سواء السبيل، قال -تعالى-: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[القصص: 56].
فاللهم، اجعلنا مِمَّن يدعون إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلون بالتي هي أحسن، آمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم