اقتباس
كما أن على المسلمين أن يتخذوا الأسباب التي تنجيهم من الفتن وتحمي الدعوة من الانقطاع عند وقوع أنواع الفتن، وذلك بتثبيت بعضهم البعض وإعانتهم لبعضهم على الاستمرار في الطريق الصحيح؛ فالمؤمنون يقفون صفًا واحدًا...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
لقد خلق الله الناس وأسبغ عليهم من النعم، وسخر لهم ما في السماوات والأرض؛ ليعبدوه ويوحدوه، وقد أرسل الله -تعالى- الرسل وأنزل عليهم الكتب ليدعوا الناس إلى عبادة الله، ويبينوا لهم كيف يعبدونه ويوحدونه؛ فالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى- إنما هي بيان للمنهج الذي شرعه الله -تعالى- لعباده، وقد قال تعالى: (رُسُلًا مُبَشّـِرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)[النساء: 165].
والدعوة إلى الله من أشرف الأعمال التي يؤديها المسلم وأعظمها، يجزى عليها الخير في دنياه وأخراه، ومن فضل الدعوة إلى الله أن الله -تعالى- قد تولاها بنفسه حيث قال: (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [يونس: 25].
كما أنها كانت وظيفة الأنبياء الذين هم خير الخلق وأشرفهم، قال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل: 36] .
والقائمون على العمل الدعوي هم الأتباع الحقيقيون للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة إلى الله وجاهد في سبيل إقامتها، ولما ابتلي -صلى الله عليه وسلم- وأوذي في دعوته صبر حتى انتشرت دعوته بين الناس.
وقد كُلفت أمتنا بما كُلف به نبيها -صلوات الله وسلامه عليه-، حيث ورث الدعاة أمر الدعوة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلكوا طريقه ليكونوا أتباعه حقًا مصداقًا لقوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108]، وأما البصيرة في الدعوة فتتمثل في أن تقوم على العلم الشرعي الصحيح وأن تقترن باللين وأن يصبر الدعاة على ما يلاقونه من ابتلاءات بعد الدعوة.
وكان صحابة النبي -صلى الله عليه ورضي عنهم- أول من اتبعه وتحملوا مسؤولية الدعوة، فتركوا ديارهم وبذلوا أنفسهم وأموالهم ليدعوا الناس إلى دين الله ففتحوا البلاد حتى وصلت دعوة الإسلام إلى مشارق الأرض ومغاربها، وعلى كل مسلم يريد أن يحقق التبعية الحقيقة للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقوم بالدعوة على قدر استطاعته؛ حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً)
(رواه البخاري وأحمد وغيرهما).
والدعوة إلى الله في زمن الفتن من أشد ما يحتاجه المسلمون، وخاصةً مع ما تواجهه المجتمعات المسلمة في وقتنا الحالي من انتشار التضليل وكثرة الفساد والإلحاد، وتزايد دعاة التنصير الذين يجوبون العالم لبث شرورهم مستغلين جهل الشعوب، ناهيك عن انتشار الفرق الضالة التي تروج للأفكار التي تشكك المسلمين في أصول عقيدتهم وتنشر بينهم الخرافات والبدع، وتزين الابتعاد عن منهج السلف القويم من خلال تشويه الصحابة والتابعين -رضوان الله عليهم- وزرع بغضهم في الناس؛ فقد أصبحت الأمة اليوم مهددة من داخلها وخارجها، مما يتطلب أن ينبري دعاة سيماهم الإخلاص من العلماء وطلبة العلم للقيام بالدعوة وتنشيط العمل الدعوي في مختلف البلاد الإسلامية لتبصير عامة المسلمين بأمور دينهم.
والاهتمام بالعمل الدعوي في زمن الفتن إنما هو فرار إلى الله اتباعًا لأمره؛ حيث قال: (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)[الذريات: 50]، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ"(رواه مسلم وغيره).
وليعلم بأن الله -تبارك وتعالى- هو الملجأ عند الشدائد؛ لذلك فإنه يجب علينا أن نربي أنفسنا على التعلق بالله وتفويض أمورنا إليه، كما يجب ألا تُترك الدعوة إذا ما ضيق على المسلمين، بل عليهم المحافظة على استمرارها والعمل على إيجاد الحلول التي من شأنها تقليل هذا التضييق وكذا درء آثاره عن الأمة؛ فصلاح الأمة في زمن الفتن في اتباع الدعاة من علمائها؛ لكي لا تنجرف الأمة مع سيل الفتن فتفقد هويتها وتفسد دينها ودنياها.
والفتن وإن تنوعت فإنما أهدافها مشتركة وهي إبعاد الناس عن دينهم وإفساد معيشتهم، ولا يمكن أن تنجو الأمة من الفتن إلا إذا ما واجه علماؤها ودعاتها هذه الفتن حتى يصرفها الله بقدرته.
كما أن على المسلمين أن يتخذوا الأسباب التي تنجيهم من الفتن وتحمي الدعوة من الانقطاع عند وقوع أنواع الفتن، وذلك بتثبيت بعضهم البعض وإعانتهم لبعضهم على الاستمرار في الطريق الصحيح؛ فالمؤمنون يقفون صفًا واحدًا في تثبيت القائمين على الحق وحمايتهم، وذلك كي لا تُخذل الدعوة ويقومون بنصرة القائمين عليها وحمايتهم من بطش الكافرين.
ويجب على القائمين على الدعوة أن يتسلحوا بالعلم الشرعي ليكونوا على بصيرةٍ من دينهم ويقيهم ذلك من التخبط والضياع في غياهب الفتن، وفي ذلك قال ابن باز -رحمه الله-: "فكل أنواع الفتن لا سبيل للتخلص منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة -رضي الله عنهم-، ومَن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى"؛ فالعلم بالدين والتفقه فيه من أهم ما يعصم الإنسان من الوقوع في الفتن والانجراف مع تيارها، كما أن التفقه في الدين من أهم صفات القائمين على الدعوة، وذلك ليتمكنوا من تأدية واجبهم على أكمل وجه فيشرعون في الدعوة بالأسلوب الصحيح والحجة الواضحة مع التزام اللين والصبر في التعامل مع عامة المسلمين اقتداءً بأمره تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125]، وقوله (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران: 159].
وليعلم المسلم بأن النجاة في زمن الفتن تحتاج إلى تربية إيمانية تحمل هم هذا الدين العظيم، ولنتذكر أن الاعتصام بحبل الله واتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بالسلف الصالح من أهم أسباب حماية الدعوة إلى الله وتحقيق صلاح المسلمين في دينهم ودنياهم؛ فلا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها، وهذا هو هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في زمن الفتن؛ حتى نبقى متمسكين بدين الله وميراث النبي -صلى الله عليه وسلم- فَلَا يضرنا من خالفنا ولا من عادانا، فتستنير القلوب، وتزكو النفوس، وتصلح الأفئدة، ويُقبِل الناس على دينهم، ويعودوا إلى ربهم.
ولا شك أن الاعتصام بدين الله والحفاظ على العمل الدعوي في زمن الفتن أمر صعب ويحتاج إلى نفسٍ طويل، ولكنه مضمون النتائج لمن رزقه الله الفقه في دينه والفهم لأسرار العمل الدعوي والوعي بما سار عليه الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين من منهج قويم.
نسأل الله أن يفقهنا في الدين ويعيننا على نشر دعوة نبيه -صلى الله عليه وسلم- سالكين سبيل صحابته رضوان الله عليهم ومن تبعهم من أئمة الهدى وأن يجمعنا بهم إنه ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم