اقتباس
ورغم هذا الإنتاج الفكري الكبير في هذا المضمار إلا أنه عند التحقيق تجد أن الجديد فيه يمثل النذر القليل، وغالبيته إنتاج مكرر، تمت صياغة ألفاظه بصورة جديدة، فأقلام تكتب، ومطابع تطبع، والمجتمع في النهاية في حيرة من أمره، فكيف الحل إذًا؟! وما المخرج من هذا الجفاف التنظيري لقضية من ..
حديث النهضة وسبل الإصلاح هو الحديث الذي لا يعلو فوقه حديث في بلادنا العربية والإسلامية في مرحلة ما بعد الثورة، فلا تكاد تخلو وسائل الإعلام بشعبها الكثيرة من حديث أو مقال أو أطروحة عن النهضة ودروبها والإصلاح وسبله وطرائقه وآلياته، فالجميع يشعر بالحاجة الماسة نحو النهوض والإصلاح وتجاوز المرحلة السابقة بكل ما فيها من معاناة وإحباط وتخلف راسخ لعهود.
ورغم هذا الإنتاج الفكري الكبير في هذا المضمار إلا أنه عند التحقيق تجد أن الجديد فيه يمثل النذر القليل، وغالبيته إنتاج مكرر، تمت صياغة ألفاظه بصورة جديدة، فأقلام تكتب، ومطابع تطبع، والمجتمع في النهاية في حيرة من أمره، فكيف الحل إذًا؟! وما المخرج من هذا الجفاف التنظيري لقضية من أهم قضايا المجتمعات الإسلامية؟!
بداية لابد أن نقرر حقيقة فكرية؛ أن الكف عن التنظير بحجة عدم التجديد ليس بالأمر الصواب، وليس هو الحل، والمعروض الفكري رغم كثافته إلا أنه ما زال يحتاج إلى المزيد، كما أننا في حاجة ماسة لأن نمسك برؤوس موضوعات النهضة، ونستصفي منها الخلاصات الفكرية والثقافية النافعة في مشروع النهضة، دون الدخول في متاهات الآراء والأفكار والرؤى الكثيرة والمتعارضة.
ومن خلال البحث والتنقيب في التراث الفكري والثقافي في عملية الإصلاح والنهوض، نجد أن هناك ثلاثة عوامل رئيسة تتحكم في معادلة الإصلاح، وتضبط كيمياء النهوض، وهي:
الأول: المسؤولية الجماعية:
فالذين يسألون عن أسباب تخلف الأمة كثيرون، والذين يحلمون بنهوضها أيضًا كثيرون، والذين يتشوفون لرؤية الأمة تخطو بثبات نحو القمة أكثر وأكثر، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: من الذي يتحرك ويعمل من أجل هذا النهوض؟! وأنّى لأمة تعدادها يفوق المليار والربع، ومنتشر أبناؤها في مشارق الأرض ومغاربها، ولها أكثر من خمسين دولة باسمها، والباقي أقليات وجاليات كبرى في بعض البلاد الضخمة مثل الهند والصين، أنّى لهذه الأمة أن تنهض وتتقدم على يد مجموعة صغيرة من أبنائها؟! في حين أن الباقي في حالة سبات وعي وتحجر في الفكر والإرادة؟! فنهضة الأمة وإصلاحها أكبر من دولة بذاتها أو جماعة معينة مهما كان اصطفاء وخيرية أبنائها، وكيف ستتحرك هذه الدولة أو الجماعة في باقي أنحاء المعمورة؟!
فجسامة المهمة وضخامة الأمة وانتشارها، كلها وقائع تفرض على المصلحين والمخلصين بث ثقافة المسؤولية الجماعية بين أبناء الأمة، فمشروع النهضة يحتاج إلى جهد كل أبناء الأمة، بحيث يكون كل جهد مبذول أو عمل صالح أو علم ينتفع به أو خير يقدمه المسلم لغيره أو لأمته بمثابة اللبنة في جدار النهضة والإصلاح، وبالعكس فكل عمل من شأنه أن يكون ضارًّا وسيئًا وغير نافع، فهو بمثابة نقض لهذا الجدار، ويظل التجاذب بين البناء والهدم في جدار النهضة، حتى ترسو سفينة الأمة إما على شاطئ النهضة وإما تظل في بحور التخلف تتخبط بين أمواجه المتلاطمة، ويشابه هذا الوصف للإصلاح، وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- لنفسه باللبنة الأخيرة في بناء النبوة، وهي اللبنة التي أكملت البناء وزينته.
أو بمعنى آخر نظرية الحبل المشدود الني تكلم عنها بعض العلماء، والتي تشبه منظومة الإصلاح بحبل مجدول مكون من الملايين من الشعيرات الدقيقة، وإن كل مسلم يقوم بعمل صالح وجيد ونافع يضع شعيرة في هذا الحبل، وبالمقابل فإن كل عمل فاسد ومعصية أو تقصير في واجب عليه ينسل شعيرة من هذا الحبل، ويظل التنازع بين الإضافة والحذف حتى يصير الحبل إلى القوة والمتانة أو يصير إلى النحل ثم الانقطاع، وذلك أوضح تفسير للآية الفذة الجامعة: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) [الزلزلة: 7، 8].
فالمسؤولية الجماعية عن النهوض والإصلاح تجعل عمل الصالحات بمعناها الواسع الأعم بمثابة الرصيد التراكمي عبر الأيام الذي يصب في النهاية في صالح الأمة، كما أن هذا المفهوم يحفز الهمم والعزائم للعمل والبذل والعطاء والبناء؛ لأنه يضع كل مسلم أمام مسؤولياته وواجباته وتبعات أفعاله، وهذا يدفع لاستخراج أفضل وأعظم ما في النفس البشرية.
الثاني: إثارة الوعي:
من أسوأ تداعيات الحكم الاستبدادي الذي جثم لعهود على صدور المسلمين؛ أنه قد فرض حالة من التخلف والجهل المطبق على أبناء المسلمين، فنسبة الأمية في العالم الإسلامي من أعلى النسب على مستوى العالم، وشريحة كبرى من المتعلمين لم ينالوا القسط الكافي من العلم الذي يخرجهم من حالة الجهل بشرائط النهضة وقانون الإصلاح، فعامة المسلمين اليوم يعانون من حالة سبات الوعي وفتور المعرفة، بحيث فقدوا شهيتهم نحو التقدم والترقي والتفاعل مع الأفكار الجديدة وأطروحات النهضة.
وإن التحدي الأكبر في إخراج المسلمين من هذه الحالة المزمنة من التجهيل وسبات الوعي ورفض التطور، ففكرة المسؤولية الجماعية تفقد قيمتها وأثرها ودورها في منظومة النهوض، إذا لم يكن معها عمل مؤسسي أممي كبير يرفع وعي المسلمين تجاه واجباتهم ومسؤولياتهم، ويطلعهم على الأفكار الجديدة والمفاهيم الصالحة النافعة، مؤسسات تنشر ثقافة النهضة، مؤسسات تقوم ببيان الحلال والحرام، مؤسسات تقدم أفكارًا جاهزة لمشاريع اقتصادية جديدة، مؤسسات تنشر الثقافة الاجتماعية التي تنشئ الجيل الصالح المصلح، إلى آخر هذه المؤسسات التنموية، وذلك كله يتطلب نهضة تعليمية كبرى تكون حجر الزاوية في نقل الوعي العام من الركود والسكون إلى الحركة والعمل الدؤوب.
الناس ليسوا في حاجة فقط إلى من يرشدهم بمسؤولياتهم وواجباتهم، ولكن هم أيضًا في حاجة إلى من يعلمهم كيف يحولون الأفكار إلى واقع عملي تستفيد منه الأمة، إلى برامج ومناهج وسياسات، وكيف الوسائل والطرق لمعالجة المشاكل والعقبات التي تعترض طريقهم نحو النهوض، ولو كانت المعرفة مشكلة قطاع كبير من المسلمين، فتوظيف المعرفة هي مشكلة كل المسلمين إلا من رحم ربي، وهذا يتطلب جهدًا مستمرًا ودؤوبًا نحو إنتاج النماذج العملية لتطبيق أفكار النهضة.
الثالث: مقاومة التعقيد:
العصر الذي نحيا فيه الآن يتميز بكثير من التنوع والتداخل بين مكوناته وعناصره، ما جعل التعقيد هو السمة الرئيسة لهذا العصر، فجهات كثيرة ومتنوعة تعمل بصورة متضادة ومتقاطعة من أجل تحقيق مصالحها ومنافعها الخاصة، ما يجعل الكثير من التغييرات السلبية والسيئة تنتشر في مجتمعاتنا الإسلامية، أبرزها شيوع النمط الاستهلاكي لدى قطاعات واسعة من الناس، والتركيز على المتع واللذات واللهث وراء فنون اللهو المتجددة.
ومقاومة التعقيد والتقاطع الناتج في حياتنا العامة من الأمور الضرورية واللازمة لنهضة المجتمع والتخلص من سلبياته وآفاته المقلقة، ولن يتم فك هذا التعقيد إلا بالمراقبة المستمرة واليقظة لنمط الحياة ونوعيتها، ورصد التغيرات السلبية والإيجابية أيضًا فيها، وبلورة المعايير والمواصفات السوية للحياة الطيبة النافعة التي لا يحدث بها أمثال هذه المزالق والمطبات الأخلاقية والسلوكية التي حدثت في الأمم المتقدمة التي انتهجت سمت الحياة المفتوحة، وهذه الأمور لن تتم إلا عبر تشكيل الآلاف من الجمعيات الخيرية والهيئات الخدمية التي يكون دورها بين النصح والمراقبة، والوعي والإرشاد، والمقاومة والتصدي لكل وافد فاسد، ورصد الظواهر السلبية في المجتمعات المسلمة، مثل ظاهرة التدخين وتعاطي المخدرات، والإسراف في المباحات والملذات، والتفنن في إضاعة الأوقات وقتل الملكات، وإن رصد الواقع وقراءته عن طريق المسح والإحصاء، لهو من الأمور المهمة في القضاء على سمة التعقيد في هذا العصر، والتي تعتبر من أكبر معوقات النهضة.
إن إصلاح الأمة ونهضتها يحتاج إلى جهد وبذل وعطاء كل قادر على العمل والعطاء في شتى المجالات، فالإصلاح والنهوض ليس مسؤولية الحاكم وحده، وليس مسؤولية طائفة بعينها، فهو مشروع كبير له مئات الآلاف من الأطراف التي تحتاج لكل يد وساعد من أجل النهوض الذي هو حلم كل مسلم صادق وغيور.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم