اقتباس
ولن يخرج المتعصب من سجن أفكاره وأسر هواه إلا بالتجرد والإخلاص وإتباع المنهج النبوي ، لن يخرج المتعصب من ضيق أفقه وسرعة نزقه وتعميمه الخاطئ ونمطيته الكسولة إلا بالانفتاح على الغير ، والاتصال مع الآخرين ، بالحوار وتبادل الأفكار ومناقشة القضايا التي تهم الأمة وتثير بالسكوت عنها نيران التعصب بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد ، فالحوار والمناقشة وقتها أشبه بإعادة فتح جرح قد التئم على فساد ويحتاج...
تكلمنا في الجزء الأول من المقال عن سمات الشخصية المتعصبة ، وأثر هذه السمات على الشخص في حرفه عن جادة الاستواء إلى الميل والهوى لطائفة أو قبيلة أو جماعة أو حزب أو فكرة وهكذا ، وسوف نتابع حديثنا عن التعصب بالحديث عن أسباب هذا المرض الخطير والآفة الاجتماعية التي أعاقت الأمة كثيرا ، ومن هذه الأسباب :
أولا :الجهل ؛ فهو رأس كل خطيئة فكرية أو ذهنية وقعت في الوجود ، بل إن غالب سقطات بني آدم من جراء جهله ، والمتعصب لما ضاقت دائرة معارفه وعلومه تعصب لما يعرفه وعادى ما يجهله ، ووقع فريسة للدعايات المضادة والهجمات الإعلامية ، والإنسان كلما اتسعت علومه ومعارفه كلما اتضحت له الحقائق واستطاع أن يميز الخبيث من الطيب والزائف من الأصيل وهكذا ، ولم يتسرع بإصدار الأحكام قبل أن يطبق الضوابط والمعايير الشرعية والعقلية في ذلك ، لذلك حث الشارع الحكيم على العلم والتعلم والتأني والتبصر ، وتقديم السلامة والبراءة قبل الشك والإدانة ، والآيات والأحاديث وآثار السلف رضوان الله عليهم في مدح العلم والعلماء وفضائلهما كثيرة جدا وفيها عشرات المصنفات.
ثانيا: الانعزال ؛ وأقصد به أن لا ينفتح المرء على غير من يتعصب له ، سواء كانت جماعة أو حزب أو منهج فكري أو ثقافي ، والانطواء أو الاكتفاء بمن يتعصب لهم عن غيرهم ، مما يورث المرء جمودا وتيبسا في الفكر والذهن ويعيق تطورها وحكمه السوي على الأحداث ، والانعزال يولد تيبسا في الشخصية وصرامة في السلوك وانغلاقا في الفكر إلا أن يكون الانعزال خوفا من الفتن وفرارا بالدين ، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذي يخالط الناس ويصير على آذاهم ، خير ممن لا يخالطهم ولا يصبر على آذاهم"
والناظر بعين البصيرة لكثير من التشريعات التي شرعها الله عز وجل يجد أن فيها معاني الخلطة والجماعية والاجتماع والتآلف والتآخي ، والتعاون على البر والتقوى ، مثل شعيرة الحج والصلاة بأنواعها الجمعة والعيدين والجماعة ، ومنها زيارة المرضى وصلة ذوي القربى ، والله عز وجل قال في محكم التنزيل ( يأ أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) [ الحجرات 13]، وفي هذه الآية دستور الاجتماع والتعارف الإنساني ، وفيه يؤكد الله عز وجل على ثلاثة أمور :
الأول : أن الناس مهما اختلفوا إن تباينوا بسبب اللون أو اللسان أو العرق أو الدين ، فإن عليهم أن يتذكروا دائما أن أصلهم واحد من أب وأم واحدة ، وهذا يعنى الاشتراك في الأصل .
الثاني : أن التنوع والاختلاف قد يُستغل لخلق حالة من العداء والتناحر ، ولكن الهل عز وجل أراد من عباده التآلف والتعارف والتواصل .
الثالث : أن التنوع والاختلاف لا يؤثر على أن الحقيقة الأهم هي التقوى ، والمرء ليس بأفضل من غيره بأي سبب من أسباب الدنيا ، ولكن أفضل بالسبب الأقوى الموصول بالعلاقة مع رب السماء ، ومن آثار هذه التقوى رحمة الخلق والرفق بهم وجلب النفع لهم.
ثالثا : ضيق الأفق أو الانغلاق الفكري ؛ ويعنى استغلال حالة التباين الفكري والثقافي والعرقي من أجل إذكاء نار التعصب والاختلاف ، وذلك بالانحياز ناحية من يتعصب لهم المرء ، بجعلهم محورا أوليا وأصليا يقيس عليه سائر الأغيار ، وينذر نفسه للدفاع عمن يتعصب لهم ، وينسى أي فضائل ومكارم لغيرهم ، ويضيق صدره جدا لو تناول أحد الناس من يتعصب لهم بالنقد ولو كان نقدا موضوعيا ، أي بعبارة أخرى في عقل المتعصب مصفاة من ضيق أفقه لا تسمح بمرور أي فضل ومكرمة لغير من يتعصب لهم ، ومصيبة ضيق الأفق أنها تولد في النفس أمرا في غاية الخطورة ؛ وهو تعظيم الذات وازدراء الغير ، أي العجب بالنفس وهو إحدى المهلكات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقديما قال فرعون لقومه ما سطره الله تعالى في القرآن ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ) [غافر 29]
رابعا : الظلم؛ وأعني به الظلم المؤسسي أو ظلم الأنظمة لبعض شرائح المجتمع ، كأن تستثنى بعض طبقات المجتمع من الخضوع للقوانين ، أو تعطى امتيازات خاصة دون غيرهم ، مما يولد حالات متنامية من التعصب والكراهية بين فئات المجتمع ، وتجد ثقافة الحقد والحسد رواجا بين الشعب ، لذلك نجد أن الشريعة تؤكد على مسألة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع ، وتحذر من العواقب الوخيمة للظلم ، وأثره على الفرد والجماعات والأمم بأسرها ، وذلك في مئات الآيات والأحاديث وشواهد التاريخ وجماعها قوله عز وجل ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) [ القصص 59]
خامسا : النمطية ؛ وهي من عيوب التفكير والتقييم الشهيرة ، وهي نتاج حالة من الكسل الذهني الذي يدفع صاحبه للتعميم والاختصار ، فيسحب حكمه الخاص على فرد معين إلى باقي التنظيمات أو الجماعات أو الهيئات الذي ينتمي إليها ذلك الشخص ، مثال ما يقوم به بعض المتعصبين ضد بعض الأفراد فيصف سائر القبيلة بالانحطاط ولنا في ذلك مثال تاريخي شهير جدا وهو مثال قبيلة " باهلة " فقد تعرضت لظلم تاريخي واسع وكبير بسبب ما أثر تاريخيا عن تصرفات بعض أبنائها ، فانسحب التعصب ضدها على مدار التاريخ ، وأيضا مثال ما يقوم به الإعلاميون ضد رجال الهيئة بسبب تصرفات بعض منتسبي الهيئة ، بالجملة فإن التنميط هو نتيجة حتمية للعجز عن التعايش والتفاهم في عالم سريع التغيير كثير التعقيدات .
ومما سبق عرضه يتضح لنا ليس شيئا ورائيا ينتقل مع الجينات في الدم أو يولد به المرء ، لكنه يُكتسب ويُتعلّم من البيئة والأجواء المحيطة ، وهذا يعني أن المرء الذي تعلّم التعصب نستطيع أن نجعله يتعلم التسامح والعفو ، وذلك بتشريح منظومة التعصب ودراسة أسبابها لأنها تقوم على أفكار وعقائد ومفاهيم راسخة ومترابطة ، لها قناعات ومبررات خاصة عند من يؤمنون بها ، وخطورتها الحقيقية في أنها تؤثر في الشخصية السوية وتحرف السلوك بشدة ، كأن المتعصب مغمض العينين يرتدي منظارا يرى من خلاله كل الأشياء على غير حقيقتها ، يراها فقط من خلال التعصب ضد أو مع ، وذلك كله وفق رؤيته الإجمالية من غير أدلة أو براهين ، فالتعصب مرض عضال مزمن عانت منه البشرية على امتداد التاريخ ، ومازالت تعاني ، بل وستظل تعاني منه إلا أن يشاء الله .
ولن يخرج المتعصب من سجن أفكاره وأسر هواه إلا بالتجرد والإخلاص وإتباع المنهج النبوي ، لن يخرج المتعصب من ضيق أفقه وسرعة نزقه وتعميمه الخاطئ ونمطيته الكسولة إلا بالانفتاح على الغير ، والاتصال مع الآخرين ، بالحوار وتبادل الأفكار ومناقشة القضايا التي تهم الأمة وتثير بالسكوت عنها نيران التعصب بين أبناء الوطن الواحد والدين الواحد ، فالحوار والمناقشة وقتها أشبه بإعادة فتح جرح قد التئم على فساد ويحتاج إلى تنظيف وتطهير وإلا تحول مع الزمن إلا آفة مزمنة لا يصلح معها علاجا سوى البتر ، نعم فتح الجراح مؤلم وتنظيف الجروح وتطهيرها مؤلم ، ولكنه يضمن الشفاء والاستقامة بعدها.
أما السكوت فهو جريمة بحق أبناء الأمة والأجيال القادمة ، ومن يستطع أن يتحمل هذا الوزر العظيم ؟ لن يخرج المتعصب من سجنه العقلي والذهني إلا بتغيير طريقة تفكيره بنشر الروح الإيجابية في التفكير والتي تدفع المرء لئن يري الإيجابيات كما يرى السلبيات ، ويتعلم ثقافة العفو وغض الطرف والتغاضي عن الهفوات والزلات ، وعلى الدعاة التركيز في خطابهم مع المتعصبين على مسألة التناقض الأخلاقي الذي يقعون فيه ، حيث يحفظون الآيات والأحاديث والآثار التي تتكلم عن العفو والصفح وأفضلية التقوى والمساواة بين الناس ، ثم هم يقعون في ممارساتهم اليومية وعاداتهم الاجتماعية في نقيض ما يؤمنون به ويعتقدونه ، فالعدل يدفع نحو الإخاء والظلم يدفع نحو التعصب ، وأنا أعلم أن علاج التعصب أمر بالغ الصعوبة ولكنه ليس مستحيلا ، وقد يكون ليس مطلوبا في البداية استئصال التعصب تماما من القلوب فهذا محال ، ولكن التخفيف من حدته ومحاصرة نطاقاته ، والتذرع بالعلاجات الطويلة المركبة ، فلا يأس أبدا من رحمة الله عز وجل .
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم