اقتباس
صار بعض الدعاة يرشق غيره من الدعاة بالخروج أو التجهم أو الإرجاء، وهكذا من آفات العصر البغيضة، وانعكس ذلك سلبًا على العمل الدعوي، وأصبحت هذه الأمور مثل الظاهرة الأليمة التي تحتاج إلى الدراسة والتأمل والبحث العميق، فمسألة التعامل مع المخالف ومنهج الإسلام في الحكم على المخالفين من الأمور المهمة التي يحتاجها كل داعية، فالوسطية هي أهم مقومات الداعية الناجح في ..
الإسلام دين الوسطية الذي اصطفاه الله -عز وجل- لخلقه، ووسطية الدين من أهم وأعظم خصائص الأمة ومزاياها، فصارت الأمة الإسلامية أمة وسطًا، وبهذه الوسطية تأهلت الأمة للقيام بمهمة البلاغ والشهادة على الأمم كلها، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة: 143]، ومن أهم ما يميز وسطية الأمة الإسلامية أنها وسطية مستقاة من الشريعة والوحي، وليست وسطية بشرية مصطنعة تحكمها الأهواء والآراء والأمزجة، فوسطية الإسلام وسطية تتسم باليسر ونفي الحرج والالتزام بحدود الله والوقوف عند محكمه والتسليم بمتشابهه.
ووسطية الإسلام أحد أهم ضمانات هذا الدين في مواجهة الغلو والتطرف وتحكيم الأهواء والآراء، وأيضًا مواجهة التساهل والميوعة في الدين والتهاون بحدوده وشرائعه، فالوسطية مرادف للاستقامة التي أمر الله بها نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112]، والتنازع بين التشدد والتساهل، والإفراط والتفريط، سنة ماضية في الخلق، ندر أن يسلم منها جيل وعصر، حتى في أفضل القرون وهو قرن الصحابة، فقد ظهرت الخوارج أيام الراشدين والمرجئة بعدهم، والعاصم من هذه المزالق العقائدية والسلوكية هي الوسطية.
ولقد شهدت الساحة الإسلامية المعاصرة الكثير من حالات الخروج على الوسطية إما بإفراط أو تفريط، وبالأخص في التعامل مع المخالف، وشاع في أوساط العاملين لدين الله -عز وجل- الكثير من حالات التنابز والتدابر والتراشق بالتهم من تبديع وتفسيق وتجهيل، صار بعض الدعاة يرشق غيره من الدعاة بالخروج أو التجهم أو الإرجاء، وهكذا من آفات العصر البغيضة، وانعكس ذلك سلبًا على العمل الدعوي، وأصبحت هذه الأمور مثل الظاهرة الأليمة التي تحتاج إلى الدراسة والتأمل والبحث العميق، فمسألة التعامل مع المخالف ومنهج الإسلام في الحكم على المخالفين من الأمور المهمة التي يحتاجها كل داعية، فالوسطية هي أهم مقومات الداعية الناجح في عالم مليء بالفتن والمتغيرات.
ومن أهم قواعد منهج الحكم على المخالفين في الإسلام ما يلي:
القاعدة الأولى: الإنصاف:
الإنصاف خلق راقٍ من أخلاق الإسلام، عزّ المتصفون به في هذه الأيام، والله -عز وجل- يحب هذا الخلق ويحب أهله، خاصة من كان منهم منتصبًا للفصل والحكم بين الناس والأقوال والآراء، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]، فالكلام في المخالفين يحتاج إلى قدر كبير من الإنصاف، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "والكلام في الناس لابد أن يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع"، فالإنصاف يقتضي أن يحترم ما عند الآخرين من الخير، ويضع نفسه مكان من ينتقده ويحكم فيه، لذلك كان من للإنصاف نواقض كثيرة، منها المجاوزة والمبالغة في الأحكام، حسب الحالة النفسية من الرضا والسخط، مثلما فعل يهود المدينة عندما غيروا رأيهم وحكمهم في عبد الله بن سلام في نفس المجلس من النقيض إلى النقيض؛ فمن خيرنا وابن خيرنا إلى شرنا وابن شرنا، ومنها التعلق ببعض الآراء والأقوال للمخالف في مرحلة معينة من حياته أو قالها باجتهاد خاص به قد عاد عنه، مثل أن يستدل على أشعرية أبي الحسن الأشعري بكتاباته وأرائه التي كتبت قبل كتاب الإبانة الذي رجع فيه إلى العقيدة السوية لأهل السنة والجماعة، ومثل الاستدلال بفتوى ابن عباس -رضي الله عنهما- بحل ربا الفضل ونكاح المتعة، دون ذكر أنه قد عاد عنهما وأفتى بالحرمة لاحقًا، ومن نواقض الإنصاف أيضًا التعميم والحكم على المخالف بانتمائه إلى جماعة أو دعوة أو طائفة أو حتى قبيلة أو عرق، ومنها الحسد وهو خلق ذميم مركوز في النفس البشرية، قل من سلم منه خاصة بين الأقران، فهو مشهور متداول، لذلك قالوا: "كلام الأقران يطوى"، ومن نواقض الإنصاف أيضًا إغفال القرائن المصاحبة للخبر، قبل قبوله أو رده، فكم من كلمة حق يراد بها باطل!! كما قال أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، وإذا كان الرجل موثوقًا في دينه وأمانته مشهودًا له بالاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه إلا على ما عرف به وعنه، وتقديم حسن الظن على ما سواه، قال الإمام ابن القيم في مدارجه: "والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه".
والمقصود أن الإنسان يضبط نفسه ولسانه وأحواله بضابط الإنصاف عند الانتصاب للحكم في الناس وبينهم، وأن يزم لسانه بزمام التقوى والإخلاص وحسن الظن بالمسلمين، وأن لا يعجل على أحد حتى تقام الحجة وتظهر البينة ويزول العذر وتُنفى الشبهة، وبعد ذلك كله إن كان الخصم معروفًا بحسناته والصالحات، يهب زلته لسالف إحسانه، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع حاطب بن أبي بلتعة في غزوة فتح مكة.
القاعدة الثانية: الحجة الشريعة مبناها الكتاب والسنة:
فالأصل في التعريفات والمصطلحات الشرعية الرجوع إلى الكتاب والسنة، استصحابًا للمعاني اللغوية عند العرب، بعيدًا عن التأويلات والتحريفات وما استحدث من ألفاظ وتعبيرات لم يعرفها العرب ولم تنطق بها القرآن والسنة، ولو أردنا أن نبين ذلك الأمر بمثال، فلن نجد أفضل من مصطلح "الإيمان"؛ إذ وقع عليه كثير من الكلام المغلوط بسبب عدم إعمال هذه القاعدة، فبعض العلماء قالوا: إن تعريف الإيمان في الشرع مثل تعريفه في اللغة، أي التصديق، مطلقًا كان أم مقيدًا، في حين أن جمهور العلماء من أهل السنة والجماعة قالوا بخلاف ذلك، قالوا: تصديق بالجنان، ونطق باللسان، وعمل بالأركان، يزيد وينقص، والفصل في هذا الأمر هو كلام الشارع الذي بين فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: "الإيمان بضع وستون شعبة، فأفضلها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"، ومنها قوله: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس".
أيضًا مصطلح "الكفر" من المصطلحات التي وقع فيها لغط كبير من إفراط وتفريط، بين خوارج ومرجئة، والكفر أو التكفير مصطلح شرعي الحكم فيهما لله -عز وجل- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فهذا الحكم موقوف على النصوص الشرعية كما قال العلامة ابن الوزير: "إن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه"، والكفر في اللغة هو تغطية الشيء وستره، فسمي الليل كافرًا، لتغطيته كل شيء، وسمي الفلاح كافرًا لتغطيته الحب في الأرض، والكفر هو جحود النعمة وهو نقيض الشكر، أما في الاصطلاح فالكفر هو نقيض الإيمان، وهو اعتقادات وأقوال وأفعال، قضى الشارع الحكيم بأنها نقيض الإيمان، وتوجب الخلود في النار، والكفر كما يكون بالفعل يكون بالترك والامتناع أيضًا، ومنه ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر، والأمثلة على ما ذكرنا كثيرة جدًا، وكلها بفضل الله صحيحة صريحة.
القاعدة الثالثة: الأحكام في الدنيا بالظواهر والخواتيم:
فالحكم على الناس في الدنيا بحسب ما يرى منهم ويظهر من غير أن نفتش في البواطن، فمن كان ظاهره الإيمان والاستقامة حُكم له بذلك، ومن كان ظاهره خلاف ذلك حُكم عليه بذلك، وأن العبرة بالخواتيم، والأدلة على ذلك كثيرة أشهرها قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأسامة بن زيد بعد أن قتل رجلاً نطق بالشهادتين: "أشققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!"، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "إني لم أُومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم"، أيضًا قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله"، قال "ابن تيمية": "و لا خلاف بين المسلمين أن الحربي إذا أسلم عند رؤية السيف وهو مطلق أو مقيد يصح إسلامه، وتقبل توبته من الكفر، وإن كانت دلالة الحال تقتضي أن باطنه خلاف ظاهره"، وقال ابن حجر: "في الأحاديث دلالة على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر".
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل ظاهر الناس ويكل سرائرهم إلى عالم السر والنجوى، فكان يقبل ظاهر المنافقين مع أنهم أكفر أهل الأرض باطنًا، ليعلم أمته من بعده أن يعاملوا الناس على ما ظهر منها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وقد اتفق أهل السنة على جواز الصلاة خلف مستور الحال، كما اتفقوا على بدعية التحري عن عقيدته واشتراط الصلاة خلف من تعلم عقيدته. وعلى مثل هذا النسق وأولى منه من كان مستترًا بمعصية أو بدعة لا يدعو إليها، فهذا أولى بالحكم على ظاهره من المنافق الذي يسر الكفر ويظهر الإسلام.
أما أن العبرة بالخواتيم في الحكم على الناس فهو من الأمور المجمع عليها في الدين، فقد قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوْ افْتَدَى بِهِ) [آل عمران: 91]، وقوله: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217]، فالله -عز وجل- قد حكم بامتناع المغفرة وحصول اللعن والخلود في النار بالموت على الكفر، وفي الحديث الشهير: "إن العبد ليعمل بالعمل من أهل النار، وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم".
وقد استفاد أهل العلم من هذا الحديث وغيره أنه لا يحكم لمعين من الناس حال حياته بالخلود في النار والطرد من الرحمة حتى ينظر بما ختم له، لاحتمال التوبة قبل الموت، وكذلك لا يشهد لحي بالجنة حتى ينظر بما يختم له، ولا يستثني من هذه القاعدة إلا من شهد الشرع له بنصوص قطعية أنه في النار مثل أبي لهب وفرعون وقارون، أو أنه في الجنة مثل العشرة المبشرين بالجنة، مع الإقرار بأن الصالح يرجى له حسن الخاتمة والدخول في رحمة الله وفضله، والفاجر أو العاصي يخشى عليه سوء الخاتمة وسلب الإيمان.
القاعدة الرابعة: لا يحكم بمآلات الكلام ولوازمه إلا بعد الالتزام:
ويقصد بمآل الكلام ما يقضي إليه كلام المتكلم من المعاني، ولو لم يقصدها، فأهل العلم متفقون على عدم جواز الحكم على المكلف بالتكفير أو التبديع بمآل كلامه ولازم قوله، إلا أن يعرض عليه فيجيزه ويلتزمه، وهذا الأمر شائع بين المبتدعة فكثير من أقوالهم البدعية كان لها التزامات أشد خطورة، لما عرضت عليهم التزموها وعرفوا بها يعد ذلك، ومن أشهر هذه الفرق "المعتزلة"، فقد كان من لوازم قولهم: "إن العباد خالقو أفعالهم" نفي القدر، ونفي علم الله القديم، فلما أطلعوا على هذه اللوازم القبيحة التزموها فكانت سببًا لتكفير العلماء لهم، لذلك كان الإمام أحمد -رحمه الله- يقول عن المعتزلة: "ناظروهم في العلم، فإن أقروا فقد هزموا، وإن أنكروا فقد كفروا".
والحكم على الناس تكفيرًا وتبديعًا بلازم أقوالهم ومآلات كلامهم، قد أورث الأمة الكثير من الويلات والاختلافات والتفرق المقيت، فكم من عالم قتله خصومه ولوثوا سمعته ومكانته، وما حدث للإمام الكبير البخاري -رحمه الله- بسبب ذلك دليل واضح على تعسف الخصوم والحاسدين، قال الإمام الذهبي: "نعوذ بالله أن نكفر مسلمًا موحدًا بلازم قوله، وهو يفر من هذا اللازم، وينزه الرب ويعظمه".
القاعدة الخامسة: الحكم المطلق لا يستلزم الحكم على المعين:
الأحكام المطلقة في النصوص بالكفر أو الفسق أو البدعة، أو من فعله كفر أو فسق أو ابتدع، ولا يستلزم حمله على الشخص المعين الذي فعل ذلك الفعل، أي لابد من التفريق بين الفعل وفاعله، فإلحاق الوصف بالموصوف لا يتم إلا بعد توافر الشروط وانتفاء موانع، فتكفير المطلق غير تكفير المعين، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قد لعن شارب الخمر، وهو حكم مطلق، ولما لعن الصحابة -رضي الله عنهم- رجلاً كان يشربها كثيرًا، ويحد فيها كثيرًا قال -صلى الله عليه وسلم- لهم: "لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله"، كما أنه يطلق القول بكفر ونفاق من والى أعداء الله، فلما تلبّس حاطب بن أبي بلتعة بهذا الفعل أيام فتح مكة، لم يكن منافقًا أو كافرًا، فسابقته في بدر كانت مانعة من لحوق الوصف به.
وهذه القاعدة من القواعد الذهبية التي تدل على مدى إنصاف ووسطية أهل السنة، فهم وسط بين غلاة المكفرين الذين يكفرون المسلمين بكل ذنب دون النظر في الشروط والموانع، وبين من يثبت الإيمان لأكفر أهل الأرض ويجعل إيمانه كإيمان جبريل -عليه السلام- من غلاة المرجئة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم