الدعاة وفقه إدارة العاطفة

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-04 - 1444/03/08
التصنيفات: تأصيل الوعي

اقتباس

ولكن المشكلة أن الإنسان العاطفي مستعد للتخلي سريعا عن ميزانه العقلي، فلو خاصم أحدا نسي كل فضائله، ولو صالحه غض الطرف عن كل مساوئه، لذلك علمنا الله عز وجل كيف يكون القسط والعدل وترشيد العواطف فقال عز وجل: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ..

 

 

 

 

رسالة الإسلام جاءت وقد سيطرت الخرافات والضلالات على عقول الناس، فأظلمت النفوس واسودت القلوب، وأصبح مثل قلوب بني إسرائيل مثل الحجارة أو أشد قسوة، فأولى الإسلام مسألة ترقيق القلوب وتهذيب النفوس عناية كبيرة، بل كان لب رسالة الإسلام في مقامات القلوب الإيمانية التي تورث المؤمنين خشية وخشوعا وخوفا ورجاء وتوكلا وإنابة إلى غير ذلك من العبادات القلبية الراقية، والتي لو وقرت في القلوب لرفعت صاحبها لأعلى المراتب التعبدية، ومدح الله عز وجل في كتابه الحكيم رقة القلب وخشوعه في مواطن كثيرة، وكذلك السنة النبوية جاءت مادحة لأصحاب القلوب الرقيقة وأصحاب العواطف الجياشة، فالإسلام قد راعى طبيعة النفس البشرية وأن المكمن الحقيقي للذات الإنسانية هو الروح والمشاعر والعواطف وليس العقل والأفكار والمفاهيم، ولكن هذه العواطف والمشاعر تحتاج دوما لآلية شرعية تضبطها وترشدها، فالمجال الروحي شديد الجاذبية والعواطف تحمل في طياتها قدرة هائلة تجعل الناس يتجاوزون الضوابط والحدود التي يضعها العقل وأحيانا التي يضعها الشرع أيضا، وفي ذات كل واحد منا جانبان: عقلي وعاطفي؛ وهما يشكلان عاملي التوازن في نفسية وشخصية كل واحد منا، وغالبية الناس خاصة المسلمين يعانون من طغيان العاطفة عليهم، ذلك لأن العاطفة فطرة، أما العقلانية فمهارة مكتسبة، وغالب الناس يعجزون عن اكتساب هذه المهارة بالدرجة الكافية لتجعل العقل مكافئا للعاطفة، وهنا يكمن دور الدعاة في ترشيد وإدارة هذه العواطف التي قد تجنح بصاحبها فوق حدود الشريعة وضوابطها.

وعلى الدعاة مراعاة عدة جوانب متعلقة في قضية العاطفة وتدفقها وأثرها في المجال الروحي في حياة المسلمين، من هذه الجوانب:

أولا: العاطفة والبدع

فالعاطفة إذا لم يتم ترشيدها وضبطها بميزان الشرع والعقل، فإنها غالبا ما تجنح بصاحبها لمزالق كبيرة ومشاكل عويصة، فلو تأملنا عبر التاريخ في أقوال وأفعال وأحوال أولئك الذين جنحت بهم عواطفهم، لرأيناهم وقد استسهلوا النصوص الشرعية أو صاروا في تأويلها وفهمها إلى ما يخالف العقل والعرف بنحو فج ومتعسف، وكانت العاطفة في أحيان كثيرة المدخل الذي ولجت منه غالب البدع في الإسلام بشتى أنواعها التعبدية والعقائدية، وألف علماء الإسلام في هذه الشطحات الوجدانية والخروقات العاطفية العديد من المصنفات من أشهرها تلبيس إبليس لابن الجوزي، وكم عانت الأمة من أهل الشطحات والكشوف والمواجيد الذين كانوا يستجيبون للهواتف ويتدينون بالرؤى والأحلام والأوهام، ويجعلون هذه الأمور العاطفية بمثابة المخدر والمعطل لعمل العقل والشرع في توجيه السلوكيات وضبط التصرفات.

ثانيا: العاطفة وضبط التصرفات

ليست العواطف كلها مذمومة، وليس في كون المرء عاطفيا ما يعيب، فالعاطفة هي وقود الإيمان، والمشاعر الجياشة تحتوى قدرا كبيرا من النبل والمثل، وقد أثنى الله عز وجل على عاطفة المؤمنين التي ترجمت في شكل دموع ساخنة في قوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 83]، وكذا في قوله: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) [التوبة: 92]، فالعاطفة تحولت لانفعال شديد بسبب سماع دعوة الحق والاهتداء به أو الندم على فوات العمل الصالح، ولكن المشكلة أن الإنسان العاطفي مستعد للتخلي سريعا عن ميزانه العقلي، فلو خاصم أحدا نسي كل فضائله، ولو صالحه غض الطرف عن كل مساوئه، لذلك علمنا الله عز وجل كيف يكون القسط والعدل وترشيد العواطف فقال عز وجل: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت: 34] وقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8]، فالعاطفي الذي لا يضبط تصرفاته ويصعب الوثوق به؛ لأنه مزاجي من الدرجة الأولى، يغريه المديح وتستنطقه الكلمات المعسولة، فيلتزم بما لا يقدر عليه وينتصب لمواجهة ما لا يطيقه، فإذا حان موعد الحقيقة والوفاء وجد نفسه عاجزا عن فعل أي شيء.

ثالثا: العاطفة والحقوق

العاطفة كما قلنا تغذي الجانب الروحي عند الإنسان، وبنشاط هذا الجانب في شخصية الإنسان تنشط معها مقدمات الحياة السعيدة، فهي تدخل على قلبه درجة عالية من الطمأنينة والسرور والانشراح، وهي أمور ممدوحة ويطلبها كل مؤمن، ولكن العاطفيين قد يدفعهم السرور والأنس بالله ومناجاته والتودد إليه إلى نوع من أنواع العزلة والانطواء على نفسه والميل نحو العزلة لدرجة تدفعهم للاستخفاف بأمور الدنيا كلها، والعزلة كانت من الأصول المشهورة لدى الزهاد والعباد الأساسية، وألف فيها العلماء العديد من المصنفات مثل العزلة للخطابي، وهذا يؤدي بدوره لانسحاب هؤلاء العاطفيين من ميادين الحياة والتأثير فيها ويُخِلّون بكثير من الواجبات والحقوق التي عليهم خاصة الحقوق الاجتماعية والدعوية، وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية التوازن بين العواطف والحقوق والحكمة من ذلك عندما أقر قول سلمان لأبي الدرداء رضي الله عنهما " إن لبدنك عليك حق ولأهلك عليك ولزورك عليك حق فأعطي كل ذي حق حقه ".

رابعا: العاطفة والتخطيط

العاطفي في غمرة تعاطيه مع مشكلات الغير وانفعاله بها يقع في قبضة الغير، فإذا وقع العاطفي بيد الماكرين وأصحاب الأهواء والمأرب.. استحوذوا عليه ولعبوا بعواطفه ووجهوا مشاعره، لصالح أهدافهم وأغراضهم الخاصة، وقد وقع ذلك عبر التاريخ كثيرا، فابن سبأ استغل عاطفة السذج وحديثي العهد بالإسلام وحبهم لآل البيت لأن ينضموا لحملته في تشويه عثمان رضي الله عنه، بل والاشتراك في قتله فيما بعد، وسائر الفرق والمبتدعة ظهرت وولجت ساحة الأمة من باب العاطفة والانفعال، لذلك فالعاطفي يحتاج دوما للتخطيط والتنظيم والبرمجة لسلوكياته وتصرفاته وخطواته، فهو قد يقدم على خطوات انفعالية دون أن يمتلك أدوات تنفيذها، فهو لا ينشغل بتأمين الوسائل والإمكانيات اللازمة لتحقيق آماله وطموحاته، بل يواصل أحلامه وانفعالاته دون النظر في كيفية تنفيذها، ومن ثم فالعاطفي دون تخطيط وتنظيم هو أقرب ما يكون ظاهرة صوتية أكثر منه قوة حقيقية، وهذا هو حال العرب اليوم للأسف الشديد.

الدعاة مطلوبون من خلال هذه الجوانب التعاطي مع مشكلة طغيان العاطفة المتنامية داخل عالمنا الإسلامي ومحيطنا العربي؛ لأن العواطف ما زالت تحكم تصرفاتنا وتسيطر على قراراتنا، وتدفعنا لمزيد من الخطوات المتسرعة والخاطئة، وأكثر ما عانته الأمة في عقدها الأخير تصرفات العديد من أبنائها الذين طغت عليهم عواطفهم فأورثوا الأمة أسقاما وديونا ما زالت مطلوبة بسداد فاتورتها وبأبهظ الأثمان.
 

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات