اقتباس
وهذا التغيير في حياة المجتمعات المسلمة ليس بالهين ولا بالسريع ولن يتأتى إلا بالمثابرة والمواظبة، فلو أخذ المسلم على عاتقه فكرة التغيير السنوي أو النصف سنوي لعاداته السيئة فإنه يكون بعد عدة سنوات قد غير منظومة حياته وسلم أولوياته بما يحقق العبودية والفاعلية، ولعل هذا الأمر يبرز في حكمة التدرج في التشريع خاصة فيما يتعلق بتحريم الأمور التي ألفتها النفوس واعتادتها الشعوب والمجتمعات ..
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن أمة الإسلام أمة لها منهجيتها الخاصة ورؤيتها وتطلعاتها التي تعتقد بيقين لا يقبل الشك أن كل أشكال التنمية والتغيير والتطلع والحركة المجتمعية تهدف إلى توفير البيئة الملائمة لقيام الإنسان بواجب الخلافة وتحقيق العبودية الكاملة كما أمر الله -عز وجل- في محكم التنزيل في قوله: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات 56] فرؤية الأمة وتطلعاتها في الأساس مستقاة من مجموعة العقائد والمفاهيم الكبرى عن الدنيا والآخرة التي تحملها أمة الإسلام، وهذا ما جعلها الأمة الوسط، والمتفردة بهذا النهج القويم السديد عن غيرها من أمم الأرض.
والبيئة التي نقصدها هي عبارة عن مجموعة المفاهيم والأخلاقيات والمثل والتقاليد والظروف والأجواء السائدة في المجتمع المسلم، وهي ذات دوائر متسعة ومنفتحة، تأخذ في الاتساع والتأثير كلما نمت معارف المسلم وتقدم عمره، وهي متشابكة ومتشعبة وتشمل مجالات كثيرة، وهي تشمل معظم العناصر التي تكوّن ثقافة الأمة والأوضاع العامة السائدة فيها.
والدعاة والخطباء والمصلحون عليهم واجب كبير تجاه إصلاح بيئة المجتمعات الإسلامية كي تحيى الشعوب المسلمة بفاعلية وأريحية في إطار من العقيدة والمبادئ والقيم التي يؤمنوا بها، وهذا يقتضي الاهتمام بالشروط والظروف التي تجعل المدعوين والسامعين أقرب إلى التفاعل والاستجابة تماما مثلما يهتم الدعاة بما يحب أن يقوله الداعية أو بعبارة أخرى موضوع الداعية، فالشروط والظروف والمعطيات السائدة تساهم في توفير خيارات الحركة وحفز الناس على تحديد اتجاهاتهم ومواقفهم، والدعاة لو عملوا في بيئة معاكسة للاستقامة و الرشاد، فإن كثيرا من مجهوداتهم ستضيع هباء منثورا، تماما مثل الذي يسبح ضد التيار.
وإن وضع الأمة في بيئة تساعدها على تحسين إنتاجيتها وتحرير طاقاتها واكتشاف إمكانياتها الحضارية الكامنة يتطلب من الدعاة والمصلحين التركيز على قضايا الأمن والاستقرار والسلام والوئام الاجتماعي بصورة كبرى، فحين يضطرب حبل الأمن ويهتز الاستقرار الاجتماعي يحدث انفلات أخلاقي مواز للانفلات الأمني وهذا مشاهد على مر التاريخ إلى وقتنا الحالي، وهذا يضع أمام الدعاة تحديا كبيرا في إحداث تغيير حقيقي في مجتمعاتهم، بالتأثير الفاعل نحو توفير بيئة الرقي والإنتاجية على المدى الطويل، وعلى الدعاة التركيز على عدة محاور تسهم بقوة في تحسين بيئة المجتمعات الإسلامية، من هذه المحاور:
أولا: ترتيب منظومة القيم والمبادئ
المجتمعات الإسلامية تحكمها منظومة متكاملة من القيم والمبادئ العالية والتي عادة ما تهتم بها كل الثقافات والحضارات الإنسانية مثل الصدق و الأمانة والبذل والوفاء والإتقان والطهارة إلى آخر هذه المنظومة التي لا تأتي جميع عناصرها على نفس المستوى من الأهمية والتأثير، ولكنها في مجموعها تشكل الإطار العام الحاكم في المجتمع؛ فمنها القيم العليا التي تميز المجتمع المسلم عن غيره، ومنها دون ذلك وهو المشترك مع باقي الثقافات والحضارات والمجتمعات، وهي القيم العليا التي تفرد بها المجتمع الإسلامي لا يسع المجتمع بأفراده أن يخرجوا عنها مهما كانت الضغوط والظروف، فمثلا قيمة الصدق أعلى قيمة من المال، ويلزم المجتمع المسلم المحافظة عليه حتى ولو جلب الكذب الخير الوفير والمال الكثير، وقيمة الخوف من الله -عز وجل- أعلى من الخوف من الناس، وبالتالي لن يخاف المجتمع المسلم من عدوه مهما بلغت قوته ونفوذه، ولن يغضب ربه بإرضاء الناس مهما كانت الضغوط أو الضعف الذي عليه المجتمع المسلم، ودور الدعاة في تغيير ترتيب القيم في المجتمعات الإسلامية والتركيز على القيم والمثل العليا يكون بتحقيق أمرين هامين:
أ- العبودية الحقة لله تعالى والالتزام بأمره في المنشط والمكره.
ب- الفاعلية العالية في الانجاز مع المثابرة على العمل للوصول للغاية الكبرى.
وهذا التغيير في حياة المجتمعات المسلمة ليس بالهين ولا بالسريع ولن يتأتى إلا بالمثابرة والمواظبة، فلو أخذ المسلم على عاتقه فكرة التغيير السنوي أو النصف سنوي لعاداته السيئة فإنه يكون بعد عدة سنوات قد غير منظومة حياته وسلم أولوياته بما يحقق العبودية والفاعلية، ولعل هذا الأمر يبرز في حكمة التدرج في التشريع خاصة فيما يتعلق بتحريم الأمور التي ألفتها النفوس واعتادتها الشعوب والمجتمعات؛ مثل شرب الخمر الذي استمر تدرج التشريع في تحريمها عدة سنوات حتى أصبحت النفوس مهيأة لتقبل الأمر والنهي.
ثانيا: التركيز على المشروع الشخصي
كثير منا لا ينظر في لائحة الإنجاز إلا للأهداف الكبيرة والأعمال الضخمة، مما زهدهم في الأعمال الصغيرة، على الرغم من استحالة تحقيق الأهداف الكبرى إلا بالجهد الجماعي الذي يشترك فيه الجميع، كل يتولى جزء من مشروع هذا الهدف الكبير، وثقافة المشروع الشخصي مازالت غريبة على المجتمعات المسلمة مع أنه قد يكون طوق النجاة لنهضة الأمة في هذه الأيام، والمشروع الشخصي يعني التزام المسلم بإنجاز شيء في حياته يكرس له جهده ومعظم وقته من أجل تحقيقه وإتقانه، والمشروع الشخصي عبارة عن رؤية تتكون من الهدف والقدرة والطاقة والزمن، ولا قيمة لها إذا ظلت حبيسة العقول والأفكار ولم تتجسد على أرض الواقع، وكثير من المسلمين يعيشون حياة طويلة، وعشرات السنوات بلا هدف واضح في حياتهم، فتنقضي أعمارهم وتفنى حياتهم بلا أي تأثير في مجتمعاتهم ومحيطهم وبيئتهم، ومن المهم أن نعرف أن المشروع الشخصي وما يحمله من أهداف لابد أن يكون من أجل خدمة المشروع والهدف الأعلى الذي يسعى له كل مسلم وهو بلوغ مرضات الله -عز وجل-.
ولو نظرنا لسيرة الصحابة والعلماء وصفوة الأمة لوجدنا أنهم قد طبقوا فكرة المشروع الشخصي فكان كل واحد منهم قدوة ومنارا في أمر من أمور الدنيا والآخرة، وشكلوا بمجموعهم المرجعية الأخلاقية لأمة الإسلام، وقدموا النموذج العملي المثلي في أبواب كثيرة، هذا في العدل وذاك في الشجاعة وثالث في الكرم ورابع في الذكاء وخامس في العلم وسادس في العبادة وهكذا لم يخلو واحد منهم من تفرد وتميز في باب من الأبواب بحيث صار قدوة ومضرب للأمثال لوقتنا الحاضر.
وجمال المشروع الشخصي أنه قابل للتطبيق لدى المجتمعات الإسلامية بيسر وسهولة، فهو لا يحتاج إلى كثير مال ولا كبير جهد، ولا يتصف بالمقاييس الصارمة والمعالم المحددة، ومن خلاله يحقق المسلم لدينه ومجتمعه ودنياه الكثير من المكاسب، ولكنه يحتاج إلى همة وعزيمة وبصيرة ومثابرة لتحقيق شيء ما ينفعه في الدنيا والآخرة.
تفعيل العمل الخيري العام
في المسلمين الكثير من المظلومين والمقهورين الذين يحتاجون مناصرة،
وفيهم الجاهلون الذين يحتاجون إلى تعليم (معدلات الأمية في العالم الإسلامي هي الأعلى على مستوى العالم)،
وفيهم منحرفون يحتاجون إلى إرشاد، وفقراء يحتاجون المساعدة، وبقاء كل هؤلاء دون نصير أو معين يسهم في تردي الأوضاع الاجتماعية وزيادة انحراف البيئة الأخلاقية مما يصعب بشدة مهمة الدعاة والمصلحين، لذلك كان على الدعاة توجيه الناس وحثهم على المشاركة في العمل العام، وتخصيص ساعات أسبوعية لهذا العمل العام، وتوجيه القدرات المالية في المجتمع نحو بناء الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي تسهم في تغيير وجه الحياة في عالمنا الإسلامي.
إن من الخطأ البين حصر مسألة العمل الخيري في مسألة بذل المال فقط، ولا ريب أن كثيرا من المشاكل تحل بالأموال، ولكن الأكثر منها لا يحل إلا بالمشاركة الفعلية بالنصرة أو التعليم أو الإرشاد أو المواساة؛ فعلى الدعاة توسيع خطابهم الدعوي ليشمل هذا القطاع التطوعي الخيري الذي يلبي حاجات قطاعات عريضة من الشعوب المسلمة ويرقي ببيئة المجتمعات الأخلاقية والسلوكية.
كتبه لملتقى الخطباء
شريف عبدالعزيز
[email protected]
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم