اقتباس
حوار الحضارات من المصطلحات الجديدة الوافدة في حياتنا الثقافية، مع دخول الألفية الثالثة وتأجج الصراعات في مناطق كثيرة من العالم المعاصر، والتي هي في أغلبها في نطاق العالم الإسلامي، ما جعل الصراع يأخذ بعدًا دينيًا واضحًا، تراجعت معه الدوافع الأخرى للصراع والاختلاف، ومع زيادة وتيرة هذه الصراعات، وعدم الوصول لنتيجة حاسمة في هذا الصراع، في ظل الصمود الإسلامي الرائع لمحاولات الاحتواء والسيطرة، بدأت ..
حوار الحضارات من المصطلحات الجديدة الوافدة في حياتنا الثقافية، مع دخول الألفية الثالثة وتأجج الصراعات في مناطق كثيرة من العالم المعاصر، والتي هي في أغلبها في نطاق العالم الإسلامي، ما جعل الصراع يأخذ بعدًا دينيًا واضحًا، تراجعت معه الدوافع الأخرى للصراع والاختلاف، ومع زيادة وتيرة هذه الصراعات، وعدم الوصول لنتيجة حاسمة في هذا الصراع، في ظل الصمود الإسلامي الرائع لمحاولات الاحتواء والسيطرة، بدأت الدعاوى تخرج من هنا وهناك تنادي بحتمية الحوار بين الحضارات لوقف هذه الصراعات التي لا تنتهي، ونظرًا لأن الحوار هو ثقافة إسلامية أصيلة وأداة من أهم أدوات الدعوة ونشر الدين وتقريب وجهات النظر بين المخالفين، كان حتمًا علينا -معاشر الدعاة- البحث في هذه النقطة وتفعيل الاستفادة منها للقضاء على حالة الجفاء والشقاق المتبادل، والتي تعطل مسيرة الدعوة كثيرًا.
الحوار هو الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، يقال في اللغة: حار إلى الشيء حورًا ومحارًا ومحاورة أي رجع عنه وإليه، قال تعالى: (قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) [الكهف: 37]، قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن: إن استعمال لفظ الحوار والمحاورة في القرآن جاء على هذا الأساس اللغوي، أي المراجعة في الكلام.
وحقيقة الحوار اللغوية مطابقة لحقيقته الاصطلاحية التي تعني التباحث بين طرفين أو أكثر، ومراجعة الكلام بينهم بغرض التوصل إلى اتفاق ما أو إبداء وجهة النظر فيه، وعلى هذا فالتحاور يفتقر دائمًا إلى طرفين يدور بينهما الكلام، وغايته توليد أفكار جديدة للسامع والمتكلم على حد سواء، لا الاقتصار على المعاني والأفكار القديمة، وفي ذلك إذكاء للمفاهيم وتوضيح للمعاني وإثراء للفكر، وهو بهذا المعنى الفضفاض ليس قصرًا على الكلام، فقد يتعداه للإشارة، والبسمة المشرقة، والحس الطيب، والعمل الصالح، والموقف الخلوق، حتى إنه قد يشمل الصمت في بعض الأحيان.
أما الحضارة فهي لغة مأخوذة من الحضر الذي هو خلاف البدو، والحاضر خلاف البادي، والحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم في البادية، والحِضارة بكسر الحاء معناها الإقامة في الحضر، وقيل: بالفتح.
أما الحضارة كمفهوم واصطلاح فقد حدث فيها تطور كبير عبر التاريخ، لاسيما في أمتنا العربية والإسلامية، وكان العلاّمة ابن خلدون أول من تصدي لشرح ظاهرة تطور مفهوم الحضارة عند العرب والمسلمين، وابن خلدون يرى أن الحضارة هي النمط المستقر من الحياة والذي يناقض البداوة، وهذا النمط يضفي على حياة صاحبه فنونًا منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصناعة، وإدارة شؤون الحياة والحكم. والخلاصة عند ابن خلدون أن الحضارة هي غاية العمران.
أما الحضارة في الفكر الغربي فهي: الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة والفكر، ومجموع الحياة في أنماطها المادية والمعنوية، وهي تمثل بذلك كل مظاهر الإنتاج البشري، وبالتالي فهي تختلف من أمة لأخرى، إذ هي الناتج السلوكي والثقافي والفكري والعملي لكل أمة على حدة.
والحوار بين الأمم والجماعات والأفراد له جذور تاريخية ممتدة مع الوجود الإنساني، فقد اعتمدت الأمم في نقل أفكارها وقيمها وثقافتها على الحوار بصيغه المختلفة، وما من أمة في التاريخ الإنساني إلا ولها حوارات وسجالات كثيرة مع الأنبياء والمرسلين والمصلحين والداعين إلى الهداية، فالحوار كان من أهم أسلحة وأدوات الأنبياء والرسل والدعاة على مر العصور، والعصر الإسلامي كان في مجمله تنازعًا فكريًا اجتماعيًا بين الإسلام كمنهج ونظام حياة وبين الجاهلية كمنهج ونظام حياة، ومن ثم شهد الإسلام على مر عصوره سلسلة من الحوارات الكثيرة والمتشعبة على كل المستويات بغية الوصول إلى الصواب والحق المبين، بين الإسلام وخصومه، وكان للأفكار التي دعا إليها الإسلام جميع الناس من إعمال للفكر والتحرر من أسر الموروثات الجاهلية والعادات القبلية والقوالب الجامدة أثر كبير في ازدهار الحوار، وذلك منذ نزول قوله -عز وجل-: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر: 94]، وارتقائه -صلى الله عليه وسلم- جبل الصفا منذرًا قومه وعشيرته، والحوارات بين الإسلام وخصومه لم تتوقف حتى الساعة، وإلى قيام الساعة، وأصبحت الحوارات أسلوبًا أساسيًا ومؤثرًا في نشر الإسلام، والانفتاح والتأثير في غيره من الأفكار، وكثرت الحوارات في الدعوة الإسلامية، واتخذت ألوانًا مختلفة ومتعددة، فكانت حوارات النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أهل مكة، وكانت حواراته مع الصحابة بعد الهجرة، وقبل غزوة بدر وأحد والخندق، وما من موقف كبير في حياة الأمة إلا وللنبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه وأمته حوارات مهمة ومصيرية، وعلى نفس الدرب سار الصحب الكرام -رضوان الله عليهم-، فكانت حواراتهم يوم السقيفة ويوم الردة ومع بدء حركة الفتح الإسلامي، وقد امتازت حواراتهم بالآداب السامية والهدوء والرغبة الواضحة للوصول إلى الحق والتجرد الكامل نحو خدمة الأمة، مع لغة راقية في الحوار جعلت من حواراتهم نموذجًا يحتذى به في البلاغة والبيان وحسن الخطاب.
وتعد قضية الحوار مع الآخر من القضايا الإسلامية المهمة التي أولتها الشريعة مكانة خاصة، فقد اقتضتها الضرورة الدعوية، وتبليغ الرسالة، انطلاقًا من قوله -عز وجل-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125]، والحوار لو ارتقى لشكله الأمثل في أدق تفصيلاته ودلالاته الاصطلاحية، بعيدًا عن نزق الأهواء وجموح العواطف، وغائلة الظلم والتعصب والانفلات، صار من أرقى وسائل التأثير والبلاغ والدعوة، ولعب دوره الأمثل في وقف عجلة الانحطاط الإنساني في زمان غلبت فيه قيم المادة وحضارة الأشياء وثقافة الاستهلاك على كل المعاني الإنسانية للبشر.
والقرآن الكريم حفل بالكثير من الأمثلة لحوارات الأنبياء مع أقوامهم، ووضع الأسس والمعايير والضوابط التي يسير عليها الحوار الدعوي بين المسلمين وأهل الملل الأخرى، فالقرآن قد أرسى مبدأ الحوار كأساس في التعامل مع غير المسلمين حتى في أحرج القضايا وأكثرها أهمية، وألان جانب الحوار معهم لدرجة كبيرة من أجل الوصول إلى بر الإقناع والبلاغ المبين، وذلك وفق خطوات محددة؛ منها:
أولاً: النهي عن إثارة الضغائن والأحقاد قبل البدء في الحوار والمناقشة، والبعد عن بؤر الانفجار المبكر لإيصال الرسالة المراد تبليغها عبر الحوار، فقد نهى الإسلام عن سب المعبودات الباطلة من دون الله؛ لأن مطلق السب والقدح لا يعود بالنفع على قضية الدعوة، بل يدفع للنفور والمقابلة بالسيئ من القول والفعل، فقال -عز وجل-: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الأنعام: 108]، ولكن هذا لا يمنع من فضح باطلهم وكشف زيف دعواهم وآلهتهم الباطلة مثلما فعل إبراهيم -عليه السلام- مع قومه كما في آيات سورة الشعراء والصافات، حتى لا يفهم من هذه النقطة أن الإسلام يسكت عن الباطل أو ينافق حينًا من الدهر مهما كانت الغاية من ذلك.
ثانيًا: البحث عن المشترك عليه قبل المختلف فيه؛ فالإسلام دعا في حواراته مع أهل الكتاب إلى البحث عن المشترك والدعوة إلى اتفاق عام وأصل كلي يرجع إليه الجميع، فإن أقروا وإلا شهدوا على أنفسهم بالتناقض والضلال، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 64]، والإسلام بذلك قد دخل مباشرة في الكليات والأصول دون الخوض في التفاصيل والثانويات، من أجل اختصار الحوار وتحديد أطره دون التورط في مواضيع فرعية كثيرة تنسي أصل موضوع الحوار.
ثالثًا: تنويع أساليب الحوار، فتارة يستخدم الحوار العقلاني الذي يدعو للنظر في الكون وآياته الباهرات، وفي الخلق وما فيهم من عجائب بما في ذلك خلقهم أنفسهم، وتارة يستخدم الأسلوب العاطفي المشوب بالتهديد والوعيد مع أهل الكتاب، فقال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [آل عمران: 99]، وثالثة يستخدم أسلوب تناكر العارف الذي يتميز به الإسلام دون غيره، كما في قوله -عز وجل-: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ: 24]، فعلى الرغم من المعرفة اليقينية بمن هو على الصواب ومن هو على الضلال، إلا أن الإسلام دعا للتجرد المطلق في طلب الحقيقة لدرجة افتراض الجهل بما هو معلوم بالضرورة، وذلك من أجل جذب الآخر للنقاش والحوار.
وللحديث بقية...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم