اقتباس
ومن هنا يتضح أن الجهد الذي يبذل في القطاع الثالث أو العمل الخيري الذي يحسن من أحوال وأوضاع المجتمع وفق المنظور الإسلامي يختلف عن قرينه في المجتمعات الغربية، فهو بمثابة القربة والعبادة والاستجابة لأوامر الرحمان، مما يجعل الالتزام به طوعي وذاتي لدى المسلمين، كما يقتضي أيضا مسئولية تربوية تقع مؤسسات المجتمع فيه بدءً من البيت ثم المدرسة، والإعلام لتربية النشء على هذه المعاني والقيم الخيرية ..
المجتمعات المعاصرة عادة ما تتكون من ثلاثة قطاعات؛ الأول هو القطاع الحكومي الذي تشرف عليه الدولة، والثاني هو القطاع الخاص الذي يمتلكه الأفراد، أما الثالث فهو القطاع الخيري الذي يشمل الأعمال الخيرية والتطوعية التي يقوم بها الأفراد في المجتمع من غير نية للتربح أو منفعة خاصة، وهو القطاع الذي يحتاج الدعاة إلى تفعيله في بلادنا لأنه لم يأخذ شكل المؤسسية حتى الآن وتغلب عليه العشوائية والارتجالية في التكوين والحركة، ولا يستوعب إلا أعدادا قليلة من السكان في حين أن هذا القطاع مثلا في أمريكا يستوعب 11% من إجمالي السكان.
وفي العام الماضي أطلق " بيل جيتس " الملياردير الأمريكي مبادرة للتبرع بشطر ثروته للأعمال الخيرية وتضامن معه فيها عشرات الأثرياء الكبار، حتى بلغ إجمالي ما تم الاتفاق على التبرع به أكثر من مائة مليار دولار، وهذه الأخبار مما تشعل في القلوب الحية الغيرة والحزن على حال الأمة الإسلامية وما وصلت إليه، فأمة الإسلام هي أمة الخيرية المطلقة التي تسري معها في كل زمان ومكان، لا تتخلف عنها أبدا حتى في فترات الضعف والتشتت، فالخيرية لازم من لوازم هذه الأمة، فهي رسالة الأمة المسلمة إلى سائر الأمم، قال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس...) [آل عمران 110].
فالعمل الخيري له وضعية خاصة ومميزة في المجتمعات المسلمة فهو باب عظيم من أبواب التقرب إلى الله عز وجل، وله عشرات الصور والأمثلة من خلال الكثير من النصوص ويندرج في مجموعه تحت لافتة كبيرة وهي إيصال الخير للمتحاجين ونفع الناس أينما كانوا، فالمسلم قد رباه الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يكون مثل المطر أينما وقع نفع، ومن هنا يتضح أن الجهد الذي يبذل في القطاع الثالث أو العمل الخيري الذي يحسن من أحوال وأوضاع المجتمع وفق المنظور الإسلامي يختلف عن قرينه في المجتمعات الغربية، فهو بمثابة القربة والعبادة والاستجابة لأوامر الرحمان، مما يجعل الالتزام به طوعي وذاتي لدى المسلمين، كما يقتضي أيضا مسئولية تربوية تقع مؤسسات المجتمع فيه بدءً من البيت ثم المدرسة، والإعلام لتربية النشء على هذه المعاني والقيم الخيرية المرتبطة مباشرة بالإيمان والعبادة، والصغار عندما ينشئون على أن مصيرنا واحد في المجتمع، وأن المسلمين مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وأن المسلم مطالب بالصلاح والاستقامة في نفسه وفي مجتمعه ولغيره، وكذلك مطالب بالحفاظ على عرضه وماله، وكذا عرض المجتمع وماله، كل هذه المعاني التربوية التي تفجر الخيرية في القلوب إذا نشأ عليها الصغار فإنهم عند الكبر سيتحركون ذاتيا في خدمة مجتمعاتهم وأمتهم.
فعلى الدعاة استغلال المخزون الاستراتيجي الكبير الموجود في العقلية والنفسية الإسلامية تجاه العمل الخيري، من حيث أنه طاقة كبرى لتفجير الخيرات في النفس البشرية وأداة عظيمة لتهذيب النفس وتطهير الأخلاق والسمو بالروح، كما أنه خير مقاوم للنزوع الفطري في النفس البشرية نحو الاهتمام بمنفعتها الشخصية، وتنامي روح الأثرة عند بعض فئات المجتمع، على روح الإيثار التي هي أساس من أهم أساسيات السلامة والاستقامة الاجتماعية، والقرآن الكريم قد بيّن أثر الإحسان وبذل الخيرات إلى الناس في فلاح الإنسان وآخرته، قال تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) [الحشر 9]
فعلى الدعاة الاقتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه في تقدير الأعمال التي من شأنها النهوض بالمجتمع، وذلك عن طريق تشجيع فاعلي الخير في المجتمع والثناء عليهم بشتى السبل اللازمة من التقدير والإجلال لما قاموا به، وهذا الثناء والتقدير يعتبر من محفزات فعل الخير ويخرج من النفس أنبل وأكرم ما فيها من الخيرات والمواقف الحسنة، ويعطي دفعات وشحنات معنوية دافقة نحو إطلاق ينابيع الخير في النفس، مما يجعل النفس تواصل فعل الخيرات وتستمر على بذلها وتضحيتها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم الثناء والتقدير للمتميزين من أصحابه في شتى مجالات الخير، ففي غزوة أحد أثني على بطولة طلحة بن عبيد الله وشجاعته وقال مشجعا ومثنيا عليه ومبشرا له أيضا: " دونكم أخيكم فقد وجبت، يعني الجنة "، وفي غزوة الغابة أو ذي قرد أثني على شجاعة وبسالة الصحابيين أبي قتادة وسلمة بن الأكوع، فقال: " فارسنا أبو قتادة وراجلنا ابن الأكوع "
وعند الاستعداد لغزوة العسرة أو تبوك قال عن عثمان بعد أن جهز معظم الجيش" ما ضر عثمان ما فعل بعد ذلك " قالها عدة مرات، وعن مجمل حياة أبي بكر الصديق رضي الله عن الجميع قال: " إن من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام " وعلى الدعاة الاستفادة من هذه الطريقة النبوية في استهلال خير ما في النفوس وتهييج العزائم على سلوك طريق المعالي، فالأجيال الناشئة في حاجة ماسة لئن يجدوا أمثلة وقدوات وعلامات بارزة في فعل الخيرات، ومن الأفكار الحسنة في ذلك إطلاق أسماء فاعلي الخير على المؤسسات العامة والمدارس والجامعات والمساجد، عقد حفلات التكريم وتوزيع شهادات التقدير على المحسنين، وعقد مسابقات للتنافس على فعل الخيرات، إلى غير ذلك من الأمور المعاصرة في استحثاث النفوس على تفعيل القطاع الثالث في المجتمعات.
ومن الأمور التي يجب على الدعاة مراعاتها في تفعيل القطاع الثالث في مجتمعاتنا الاهتمام بالمؤسسات الوقفية وتعظيم دورها في خدمة الفقراء والمعوزين، وربط المؤسسات الوقفية في العالم الإسلامي بعضها ببعض، للاستفادة من تبادل الخبرات والمعلومات والكفاءات، والتراث الإسلامي زاخر بالتجارب المضيئة والعظيمة في المؤسسات الوقفية، ولقد سبق المسلمون العالم بأسره في المؤسسات الخيرية التي تعنى بالحيوان، فلقد كان في مرج دمشق وقوف خيرية تعتني بالحيوانات الضعيفة التي تقدمت في السن وأراد أهلها التخلص منها، فكانت تجمع في هذا الوقف ويقدم لها الطعام والشراب حتى وفاتها، وأوقف أحد الدمشقيين دارا لرعاية القطط العمياء وإطعامها، كما أوقفوا أيضا دارا لأواني الزبادي، حيث يتم إعطاء الخادم الذي يكسر آنية الزبادي بدلا منها حتى لا يعاقبه سيده على كسرها، وبلغ اهتمام المسلمين السابقين بأوقاف العمل الخيري مبلغا عظيما طال حتى الأمور المعنوية، فقد أوقف أحد المحسنين في مدينة طرابلس الشام راتبا يوميا لرجلين يطوفان على المرضى في مشفى طرابلس ويتحدثان معهم ويرفعان الروح المعنوية للمرضى وينفثان الأجل في الحالات المتأخرة، وفي ذلك رقى لم تبلغه حتى الآن أكبر وأرقى الدول المعاصرة، فأي عظمة تلك التي كان عليها المسلمون السابقون!، وأين نحن منهم في ذلك المضمار والاهتمام بالخيرات!.
على الدعاة أيضا الاهتمام بالهيئات والمؤسسات الخيرية المعنية بتقديم المساعدة التربوية للأسر، لأننا نعاني من أمية تربوية ظاهرة، وكثير من الآباء والأمهات لا يحسنون تربية أبنائهم، وكيفية التعامل معهم خاصة في سن المراهقة وما يليها، وقد ارتفع سقف المراهقة لأبنائنا حتى بلغ سن الثلاثين الآن مما يجعل هذه المشكلة من أصعب ما يواجهه الآباء والأمهات في أيامنا هذه، ونلاحظ ارتفاع الوعي بالحاجة لهذه المؤسسات عند كثير من الأسر التي أصبحت تلجأ إلى المتخصصين لعلاج مشاكلها وأزماتها التربوية.
وأخيرا فعلينا معاشر الدعاة إدراك حجم المخزون الاستراتيجي القابع داخل ذاكرتنا التاريخية ونفسيتنا الإسلامية نحو حب الخير والبذل والعطاء، والعمل الدءوب من أجل تفعيله وتطويره وتنظيمه ونقله من العشوائية والارتجالية إلى العمل المؤسسي المنهجي الذي يحقق النفع العام، ويقوم بدوره اللائق به لرفعة الأمة وتكافل أبنائها ومواجهة مشاكلها وأزماتها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم