اقتباس
وخذ لذلك مثالا اليابانيين الذين بلغوا درجة كبيرة في العلم والتقدم التكنولوجي والعلوم التجريبية ومع ذلك يسجل اليابانيون أقل نسبة لانتشار الإسلام، وأغلبهم يعبد بوذا والأصنام وحتى الحشرات والدواب، وكذلك الهندوس يعبدون البقر، والصينيون يعبدون أرواح الأجداد والأوثان، فهؤلاء عقولهم مهمشة كأنها غير موجودة أو ملغية، والسر وراء ذلك يرجع في التغذية الخاطئة للعقل البشري، فهو عندها أشبه بالحاسب الآلي الذي....
نعمة العقل من أعظم نعم الله عز وجل التي امتنّ بها على ابن آدم، فالعقل هو الآلة التي بإنتاجها وإبداعها نعم كثير من البشر بالرفاهية والتقدم، والتي أيضا بعطالتها وعطبها عانت البشرية من حقب من الضلال والتيه، فالله عز وجل قد ميز الإنسان دون غيره من مخلوقاته بنعمة العقل الفعّال المنتج القادر على العمل خارج خطوط الغريزة وما تمليه نداءات الطبيعية والخلقة، فهو يغامر ويخاطر ويتخذ القرارات الصعبة، وهو الوحيد الذي يستطيع أن ينمي ملكاته العلمية ويكتسب المزيد من الخبرات كل يوم، ولكن الأدبيات الموروثة تركز على دور العقل بوصفه الأساس المتين في عملية الفهم، في حين أن العلم المكتسب يلعب دور الرافد المكمل له، وهذا الكلام قد يكون صحيحا عندما كانت الحياة بسيطة وكمّ المعلومات فيها يتضاعف مرة كل خمسين سنة.
واليوم يشهد العالم انفجارا معرفيا غير مسبوق، بحيث لا يمر يوم أو شهر دون إن نسمع أو نقرأ أنباء عن اكتشافات، واختراعات جديدة، وأصبح التراكم المعرفي، يتزايد، ويتضاعف، بشكل مذهل، فإذا كان إنتاج الكتب في أوربا قبل خمسة قرون لا يتجاوز ألف عنوان سنويا، فهو اليوم يزيد عن ألف عنوان يوميا، وتشير المعطيات إلى أن ما جمعته البشرية في العقدين الأخيرين من المعارف يعادل ما تم جمعه طوال السنين السابقة التي تغطي التاريخ الحضاري للإنسانية، والعقل مهما كان عظيما وألمعيا فإن قدرته على تحقيق الارتقاء والرفاهية للأمة تظل محدودة ما لم تكن هناك منظومة معرفية متكاملة تبدأ بالمدارس والجامعات والمناهج والبحوث التجريبية والتدريب وتنتهي بناتج قومي معرفي يصب لصالح توليد الأفكار العظيمة وحل الأزمات والمشكلات المزمنة.
وهذا الكلام يعني أن أصحاب الذكاء العادي لهم فرصة عظيمة في الارتقاء والنبوغ وينفعوا أنفسهم وأمتهم شريطة الاهتمام الكبير بالتثقيف والتعلم، وتكريس الفرد لحياته كلها من أجل أهداف عظيمة وغايات كبرى، ومن اللافت للنظر أن القرآن الكريم لم يتحدث عن نعمة العقل والدماغ هكذا مجردة، ولكن تحدث عن قدرة هذا العقل على الإنتاج والإخراج والتشغيل، وذلك من خلال التفكير والتدبر والتفقه، فقد وردت ألفاظ من عينة "تتفكرون" و"تعقلون" و"تدبرون" و"تذكرون"، للتنبيه على فضيلة إعمال العقل، واستثمار الإمكانات العقلية، والدلالة على أن هذا التحريك العقلي، هو الميزة الحقيقية للإنسان، وفي المقابل قد يكون الإنسان صاحب عقل بالغ الذكاء والعبقرية، ولكنه مظلم لا يهتدي بنور السماء، ولا يعرف طريق الهداية.
وعلى مر التاريخ هناك عشرات النماذج لعباقرة عاشوا وماتوا على الكفر والضلال، وهذه العطالة العقلية قد أشار إليها القرآن في قوله عز وجل ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) [ الفرقان: 44]، أي أن هؤلاء كان لهم عقول عاطلة عن العمل والتفكير، فلا فهم ولا فقه ولا تأمل ولا تدير، وخذ لذلك مثالا اليابانيين الذين بلغوا درجة كبيرة في العلم والتقدم التكنولوجي والعلوم التجريبية ومع ذلك يسجل اليابانيون أقل نسبة لانتشار الإسلام، وأغلبهم يعبد بوذا والأصنام وحتى الحشرات والدواب، وكذلك الهندوس يعبدون البقر، والصينيون يعبدون أرواح الأجداد والأوثان، فهؤلاء عقولهم مهمشة كأنها غير موجودة أو ملغية، والسر وراء ذلك يرجع في التغذية الخاطئة للعقل البشري، فهو عندها أشبه بالحاسب الآلي الذي غذي بمعلومات خاطئة فأنتج معادلات خاطئة وتحليلات غير صحيحة، فمثلهم كمثل من تربوا على موروثات الآباء والأجداد وعاداتهم وتقاليدهم وظنوا أن هؤلاء الآباء أكثر علما وخبرة بالحياة لذلك اندفعوا نحو الحفاظ على هذه الموروثات وفي المقابل عطلوا عقولهم ووضعوا أمامه العراقيل والمعوقات المؤطرة لعمله، وهو ما أشار القرآن إليه في قوله عز وجل ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ) [ المائدة 104]، وقوله ( وقالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ) [ يونس 78]، وأصحاب هذه العقول دائما تجدهم عاجزين عن مسايرة الواقع وفهمه ومتابعة التطورات السريعة والمتلاحقة في حياتنا المعاصرة، والحل لهذه المشاكل والآفات الكثيرة للعقول المهمشة يمكن في العلم وبناء منظومة معرفية متكاملة، وهو الحل الذي يجب أن يضطلع به الدعاة لدين الله عز وجل .
والاهتمام بالعلم شيء والاهتمام ببناء منظومة معرفية متكاملة شيء آخر، فالمنظومة المعرفية تشمل توليد المعرفة بالبحث والتطوير؛ ونشرها بالتعليم والتدريب ووسائل الإعلام المُختلفة؛ وتوظيفها والاستفادة منها في تقديم المنتجات والخدمات الجديدة أو المتجددة، وفي الارتقاء بالإنسان وإمكاناته الاجتماعية والمهنية، لذلك فقد توجب على خطابنا الدعوي ومن خلال منابرنا الشعبية أن تركز على توعية الجماهير بأهمية المعرفة وبناء منظومتها القوية، وذلك بالتركيز على النقاط الآتية:
أولا: أن منظومة المعرفة من أهم مصادر القوة في المجتمعات، وإذا كانت القوة العسكرية هي الحاسمة في عصر الزراعة، وسادت القوة الاقتصادية بعدها في عصر الصناعة، فإننا اليوم مع بداية عصر المعرفة أو مجتمع المعلومات، نرى أن المعرفة وما تنتجه من تطبيقات تكنولوجية، تمثل أبرز مظاهر القوة وصارت المعرفة بذلك
موردا مهما يعلو بأهميته الموارد الاقتصادية الطبيعية المعهودة، وصار اقتصاد المعرفة يفوق مردود العمل فيه بعشرات المرات القيمة المضافة الناتجة عن العمل التقليدي، مع سرعة الإنتاج والانجاز وريح الوقت وتقريب المسافات، فالمجتمع الغني القوي ليس من يملك الأموال بل هو من يتوفر على المعرفة .
ثانيا: أن الله عز وجل قد وزع الذكاء على الأفراد والأمم بالتساوي، فليس هناك شعب تصل نسبة العبقرية بين أبنائه إلى 30%، كما ليس هناك شعب تصل نسبة الغباء فيه إلى 30%، ومع ذلك ترى هناك مجتمعات قوية ومنتجة ومتقدمة ومبدعة، وأخرى ضعيفة ومستهلكة لا تحسن سوى الاستيراد من الخارج، والفارق بين الاثنين ليس في هبة الله الفطرية لكلاهما، ولكن في البحث والتعليم والتطوير وتحصيل المعرفة المنهجية، وهو سر أسرار تخلف أمتنا في هذه الأيام .
ثالثا: إن طبيعة العقل البشري لا تدرك الحقائق الوجودية دفعة واحدة ولكن بصورة تدريجية وعلى سبيل التتابع، تماما مثل الصورة النهائية لأي منتج أو مخترع يمر بالعديد من المراحل حتى تخرج للعلن وتصيح صالحة للتداول، ويكفي أن نعرف أن الدواء الواحد في أوروبا وأمريكا يتكلف أكثر من مليار دولار وبحث وتطوير لسنوات طويلة، مما يؤكد على أهمية البحث العلمي وامتلاك منظومة معرفية متكاملة .
رابعا: إن منظومة المعرفة تضع بين أيدينا حصيلة رقمية وبحثية كاملة بالأرقام والإحصائيات والجداول والمعدلات، وبالتالي نتمكن من حل مشكلاتنا المزمنة وأزماتنا العميقة بسهولة ويسر دون الخوض في غمار التجارب الفاشلة والحلول المؤقتة والمسكنات الطارئة، ونحن على مدار التاريخ كنا نتصور حلولا لمشاكلنا بالتجرد النظري، وعن طريق الإحساس والانطباع والتجربة، وقد أثبتت الأيام عقم هذه الطريقة، وأهمية وتعاظم الحاجة لعمل مؤسسي واسع يوفر الأرقام والإحصائيات التي هي بمثابة المادة الحية في الإصلاح والتغيير، ويلبي حاجات المجتمع المتغيرة ويحل مشاكله الكثيرة .
والخلاصة أن المعرفة وبناء مجتمع المعرفة ومنظومتها ليست ترفا ثقافيا ولا رفاهية فكرية تلجأ إليها المجتمعات الراغبة في الرقي والتقدم بل هو ضرورة حتمية وركيزة إستراتيجية لمن أراد النجاح والأمن في عالم كثير المشاكل والأخطار، بالغ التعقيد والترتيب، والأعداء المتربصون قي كل مكان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم