اقتباس
وقد فطر الله الخَلْقَ على محبة صاحب الوجه المشرق البسَّام، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس تبسُّمًا، وطلاقة وجهٍ في لقاء من يلقاه، وكانت البسمة إحدى صفاته التي تحلّى بها، حتى صارت عنواناً له وعلامةً عليه، وكان لا يفرق في حسن لقائه وبشاشته بين الغني والفقير، والأسود والأبيض، حتى الأطفال كان يبتسم في وجوههم ويحسن لقاءهم، يعرف ذلك كل من صاحبه وخالطه.
شكوى تكاد أن تكون عامة في كافة المجتمعات البشرية الإسلامية وغير ذلك، هذه الشكوى هي "المادية" التي أصبحت الحاكم والمسيطر على كافة تصرفات الناس وتصوراتهم، حتى صارت كثير من هذه المجتمعات أشبه بالغابات التي يأكل فيها القوي الضعيف وغابت عنهم القيم الإنسانية والروحية، فصارت حياتهم جافة مثل الصحراء الجدباء. فقد افتتن الناس دائماً بالقيم المادية وحسبوها قوام الحياة. وحين تنطمس بصائر الناس عن منابع الخير الحقيقية، وتنحسر نفوسهم عن حقيقة الكون الواسعة، فإنهم لا يرون إلا القيم المادية، ولا يدركون إلا ما تدركه الحواس. ولكن الإسلام حرص على توسيع الحياة وتجليتها في صورتها الحقيقية. لم يهمل عالم المادة، ولم يهمل ضرورات الحياة. بل أعطاهما عنايته الكاملة كما يتضح في التفصيلات الدقيقة التي يشملها الشرع، والإضافات الدائمة التي أضافها الفقه الإسلامي على مدى القرون ولكنه لم يقف عند هذه الأمور وحدها؛ لأن الحياة في واقعها لا تقف هناك. وإنما تتعداها إلى آفاق أوسع وأرحب، وإلى مستويات أكبر وأعلى.
والإسلام دين الحياة الكامل، ومن ثم يشمل الحياة كلها في جميع الآفاق وجميع المستويات، على نظافة في الأداء ونظافة في السلوك. فعن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس من نفس ابن آدم إلا عليها صدقة في كل يوم طلعت فيه الشمس. قيل: يا رسول الله من أين لنا صدقة نتصدق بها؟ فقال: إن أبواب الخير لكثيرة: التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميط الأذى عن الطريق وتسمع الأصم وتهدي الأعمى وتدل المستدل عن حاجته. وتسعى بشدة ساقيك مع اللهفان المستغيث، وتحمل بشدة ذراعيك مع الضعيف. فهذا كله صدقة منك على نفسك". وزاد في رواية: "وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم من طريق الناس صدقة، وهديك الرجل في أرض الضالة لك صدقة ".
هذا الحديث العجيب لا يملك الداعية أن يمر به دون أن يقف عنده لحظات يتدبر بعض معانيه، فهو بحق دستور اللمسة الإنسانية في المجتمعات الإسلامية. وإن له لإيحاءات شتى، يدق بعضها ويلطف، حتى يصل إلى أعماق النفس، إلى قرار الوجدان، فيهزها هزاً، ويوقع على أوتار القلب لحناً صافياً مشرقاً جميلاً يأخذ بالألباب. وإن من أبرز ما يوحي به هذا الحديث العظيم من معاني اللمسة الإنسانية:
أولاً: توسيع مفهوم الخير والإحسان:
فالصدقة في مفهومها التقليدي أموال ومحسوسات وماديات يساعد بها الغني الفقير، ويمنحها القوي للضعيف. وهي بهذا المعنى ضيقة المفهوم جداً، وأثرها في حياة المجتمع محدود. ولو أنها ظلت قروناً طويلة مظهراً من مظاهر التكافل الاجتماعي، ورباطاً من روابط المجتمع، وأداة لتطهير الأغنياء من الشح، وإعانة الفقراء على الحياة. كانت في أبرز تجلياتها الوظيفية في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- إذ يقول يحيى بن سعيد: "بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية، فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم، فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يأخذها منا، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس". ولكن الحديث النبوي يخرج بالصدقة من معناها التقليدي الضيق، ومن معناها الحسي، إلى معناها المعنوي، وهنا تنفتح على عالم رحيب ليست له حدود، كل خير صدقة، وعلى كل امرئ صدقة، هكذا في شمول واسع لا يترك شيئاً ولا يضيق عن شيء. فإن الذي المسلم إلى إعطاء الصدقة للمحتاج هو شعور "إنساني"، وقد يكون من الصعب أن تحدد معنى لهذا اللفظ الدقيق. فهو في بساطته وشموله معجز كالإنسانية. هذا الشعور الإنساني هو الذي يدفع المسلم إلى إعطاء الصدقة للمحتاج، وهو ذاته الذي يجعله ينحي الحجر من الطريق بعيداً عن أقدام المارة؟ أو ليس هو كذلك الذي يشيع البسمة في وجهك حين يلقى الناس؟!هي عملية واحدة في داخل النفس. لابد من إدراكها على حقيقتها. والرسول الكريم صلوات ربي وتسليماته عليه يلفت المسلمين عامة والدعاة خاصة في حديثه إلى هذا اللمسة الإنسانية التي توسع مفهوم الخير والإحسان. يلفتنا إلى هذه الحقيقة النفسية الواحدة التي تكمن وراء كل عمل من أعمال الخير. لنعرف أنه الخير في منبعه وإن تعددت صوره وزواياه.
ثانياً: سيطرة الخير على النفس البشرية:
ففي هذا الحديث المعجز، يريد الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن "يعودنا" على الخير، لا أن " يعرفنا " إياه فحسب. فقال: "وعلى كل امرئ صدقة". فهو يريد من المسلمين جميعاً دون استثناء أن تتحرك نفوسهم بالخير.
يريد أن يستثير تلك الحركة الداخلية التي تمد يدها بالعطاء، والحياة عادة. والعادة تسري من نفس إلى نفس، بل تسري من شعور إلى شعور في باطن النفس. وحين تتعود النفس أن تستيقظ، أن تنهض من سباتها وتتحرك، وتمد يدها من الداخل بعمل أو شعور. حين يحدث هذا مرة، فسوف يحدث مرة بعد مرة. وستتعدد صور الإعطاء حتى تشمل من النفس أوسع نطاق، حتى تشمل في الواقع كل تصرف وكل شعور يصدر من النفس البشرية، بحيث تكون المحصلة النهائية سيطرة الخير على النفس البشرية. وهنا تبدو حكمة الرسول في توسيع مدى الخير، وتعديد صوره وأشكاله، وتبسيطها كذلك حتى تصبح في متناول كل إنسان. فلو كانت "الصدقة" أو الخير قاصراً على المحسوسات والأموال، فسيعجز عنها كثير من أفراد البشرية، وتبقى ينابيع الخير راكدة في باطن النفوس، لا يستثمرها أحد، ولا يستنبط من معينها الغزير. ولكن اليد الحكيمة الماهرة تعرف كيف تسيل الخير من هذه النفوس. لمسات رفيقة حانية من هنا ومن هناك تفتح المغلق وتبعث المكنون.
ثالثاً: ربط المجتمعات بروابط الحب والإخاء والمودة:
فالصدقات بمعناها الحسي الضيق، تقسم الناس إلى آخذين في جانب ومعطين في جانب. وقد توحي إلى الآخذين الشعور بالضآلة والضعف، وتغري المعطين بالخيلاء والغرور. وذلك تقسيم للمجتمع سيئ غاية السوء نابع من ثقافة غلبة المادة وشيوع المحسوسات، ولكن توسيع نطاق الصدقات حتى تشمل كل شيء وكل عمل متجه إلى الخير، يلغي التقسيم الأول، ويتيح لكل إنسان بصرف النظر عن فقره وغناه أن يكون معطياً واهباً للآخرين، ومن ثم يجعل الناس كلهم بحركة واحدة آخذين ومعطين على قدم المساواة، وشركاء في ميدان واسع فسيح، وذلك ولا شك أعظم منهاج في تربية النفوس. وحين يحرص الإسلام على أن يظل ينبوع الخير في النفس الإنسانية ثرًّا يفيض بالخير ولا ينضب، فإنه يضمن أن تقوم بين البشر روابط أمتن بكثير وأوثق من تلك التي يمكن أن يقيمها الاقتصاد أو تقيمها العلاقات المادية. بل يضمن أن تكون رابطة حية وخيرة، لا يأكلها الحقد، ولا تسري إلى القلوب مع "تنظيماتها" الصلادة والجفاف. وأي رابطة يمكن أن تربط القلوب أقوى من المودة والحب؟ قال تعالى: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الأنفال: 63] إنها هبة ومنة من الله -تعالى. والنعم المادية أو الاقتصادية كذلك هبة الله. ولكن الآية تضع كلاً في مكانه في ميزان القلوب وميزان الحياة. فلا يكفي المال وحده لتأليف القلوب. ولا تكفي التنظيمات الاقتصادية والأوضاع المادية. إذ لا بد أن تشملها وتغفلها تلك اللمسة الإنسانية الحانية النابعة من أعظم عاطفة إنسانية "الحب". الحب الذي يطلق البسمة من القلب فينشرح لها الصدر وتنفرج القسمات، فيلقى الإنسان أخاه بوجه طليق. ذلك الحب هو الذي يصنع المعجزات. هو الذي يؤلف القلوب. هو الذي يقيم البناء الذي لا يهدمه شيء ولا يصل إليه شيء. "جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أعرابي يوماً يطلب منه شيئاً فأعطاه، ثم قال له: أحسنت إليك؟ قال: لا ولا أجملت! فغضب المسلمون وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا. ثم دخل منزله فأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئاً. ثم قال. أحسنت إليك؟ قال نعم. فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيراً. فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا جئت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك. قال: نعم، فلما كان الغداة جاء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي. أكذلك؟ فقال الأعرابي: نعم. فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً. فقال صلى الله عليه وسلم: إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل له ناقة وشردت عليه، فتبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفوراً، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم. فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فردها هوناً هوناً، حتى جاءت واستناخت، وشد عليها رحلها، واستوى عليها. وإني تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار". هذا الدرس العجيب من حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومن سلوكه العملي يشرح لنا القيم التي أودعها أحاديثه المروية في هذا الاتجاه. وهو دين الفطرة. الدين الذي يساير الفطرة أجمل مسايرة، ويصل من ذلك إلى أجمل النتائج. والإسلام هو الذي يجعل رباط المحبة هو الرباط الأول والأوثق في حياة البشرية، ويقيم الوشائج كلها - من مادية واقتصادية واجتماعية وفكرية وروحية- على هذا الأساس المتين.
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً) [آل عمران: 103].
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدرك بفطرته الملتقية مع فطرة الكون الأعظم، وبما أدبه ربه فأحسن تأديبه، أن الرحمة والمودة والإخاء هي وحدها التي يمكن أن يقوم عليها البناء الحي القوي المتماسك، فيدعو إلى الحب: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، ويجلو القلوب لتفيض بالحب، ويعلمها الوسيلة لكي تحب وتحَب: أن تلقى أخاك بوجه طليق! وإن هذه الابتسامة على الوجه الطلق لتعمل عمل السحر الحلال. فالابتسامة في الوجوه أسرع طريق إلى القلوب، وأقرب باب إلى النفوس، وهي من الخصال المتفق على استحسانها وامتداح صاحبها، وقد فطر الله الخَلْقَ على محبة صاحب الوجه المشرق البسَّام، وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- أكثر الناس تبسُّمًا، وطلاقة وجهٍ في لقاء من يلقاه، وكانت البسمة إحدى صفاته التي تحلّى بها، حتى صارت عنواناً له وعلامةً عليه، وكان لا يفرق في حسن لقائه وبشاشته بين الغني والفقير، والأسود والأبيض، حتى الأطفال كان يبتسم في وجوههم ويحسن لقاءهم، يعرف ذلك كل من صاحبه وخالطه، كما قال عبد الله بن الحارث -رضي الله عنه-: "ما رأيت أحدا أكثر تبسماً من رسول الله -صلى الله عليه وصلم-. وتصف عائشة -رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتقول: " كان ألين الناس، وأكرم الناس، وكان رجلاً من رجالكم إلا أنه كان ضحاكًا بسّامًا ". والبعض تراه عابساً دائماً، يظن أن التبسم فيه إنزال من مكانته، ونقص من هيبته أمام الآخرين، فهؤلاء واهمون ينفرون أكثر مما هم يقربون؛ لأن التبسم في وجه أخيك مع كونه مفتاحاً للقلوب، وتأليفاً للنفوس فهو سنة نبوية، فعن جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "ما حجبني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذُ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسمَ في وجهي". وهكذا أسر النفوس وملك القلوب وهوت إليه الأفئدة وآمن به الناس.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم