اقتباس
ومن أجل تجاوز كل هذه العوائق النفسية والحواجز الجبلية التي جعلت من المال سيدًا لا خادمًا، وهدفًا لا وسيلة، كان لابد على الدعاة من مراعاة العديد من النقاط المهمة على طريق بناء علاقة متوازنة وسوية بين البشر والمال في عالم مليء بالمتغيرات والمغريات، وذلك بارتكاز خطابهم الدعوي على عدة نقاط تمثل المدخل الرشيد في تفهيم الناس الدور الحقيقي للأموال في حياتهم من وجهة النظر
المال من أصول النعم التي أنعم الله -عز وجل- بها على عباده، وقد ذكره الله -عز وجل- في أكثر من ثمانين موضعًا من كتابه الحكيم لبيان أهميته وخطورته وتأثيره على مستوى الأفراد والجماعات، وأيضًا ذكره الرسول -صلى الله عليه وسلم- في عشرات الأحاديث بمعانٍ متقاربة مع المدلولات القرآنية، والمال قد تعاظم دوره في العالم المعاصر حتى أصبح محورًا من أهم محاور الحياة الحديثة، بعد أن انتهى عصر الأشياء المجانية، فكل شيء الآن يباع ويشترى، حتى الهواء الذي نتنفسه، فالمال يتحكم اليوم في مفاصل الحركة البشرية، وبدونه تتوقف مسيرة الحياة تمامًا.
وهذه الأهمية البالغة لأمر الأموال في حياتنا المعاصرة تفرض واقعًا جديدًا لابد أن تتعامل معه جميع مكونات المجتمع المسلم، وتتفاعل معه جميع عوامل التأثير والتوجيه في حياتنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وعلى رأسها الدعاة إلى دين الله -عز وجل-، وذلك من أجل إيجاد صيغة سوية ومنتظمة في التعامل مع هذه النعمة الكبرى، حتى لا تضل البشرية طريقها كما حدث مع الأمم السابقة التي كان الاستقواء والاستغواء بالمال أحد أهم أسباب هلاكها وبوارها كما قال تعالى: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) [التوبة: 69].
وقد يظن البعض أن إيجاد هذه الصيغة المنتظمة بالشيء اليسير والسهل عند كثير من الناس، ولكن طبيعة المحبة الفطرية بين البشر والمال ستدفع دائمًا نحو علاقة غير متوازنة مع الأموال، فالبشر مفطورون على الحب الجمّ للأموال بسبب اعتقاد كثير من الناس أن المال هو سبب السعادة والطريق الوحيد لتحقيق جميع الرغبات وحل جميع المشكلات، قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) [الفجر: 20]، وقال: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات: 8]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "لو أن لابن آدم واديًا من ذهب، أحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب". متفق عليه.
وهذا الحب الفطري الجبلي يدفع كثيرًا من الناس للبحث عن المال وتحصيله من شتى الأوجه، حتى تخرج بهم هذه المحبة من الأطر الشرعية لتحصيله، فيرتكب المحرمات ويتنكب الموبقات، ويدفعه الشح والبخل لأن يمنع الزكاة ويأكل الربا ويدفع الرشوة، فالحب الجارف للمال يجعل كثيرًا من الناس عاجزين أمام تكوين رؤية صحيحة وسوية للتعامل مع الأموال، ولن يتمكن البشر من إقامة علاقة متوازنة مع المال إلا بتقوية مناعتهم الإيمانية ومقاومتهم الفكرية تجاه الجاذبية العاتية نحو اقتناء الأموال، ومقاومة الاستحواذ على ما ليس لديهم، ومقاومة الطرق غير المشروعة للحصول على الأموال، ومقاومة الشح والبخل والأنانية وآفات النفس البشرية، وهذه الحصانة النفسية والمناعة الإيمانية هي التي ارتقت بجماعة الأنصار حتى أثنى الله -عز وجل- عليهم ثناءً كبيرًا في كتابه الحكيم ووصفهم بأنهم المفلحون.
ومن أجل تجاوز كل هذه العوائق النفسية والحواجز الجبلية التي جعلت من المال سيدًا لا خادمًا، وهدفًا لا وسيلة، كان لابد على الدعاة من مراعاة العديد من النقاط المهمة على طريق بناء علاقة متوازنة وسوية بين البشر والمال في عالم مليء بالمتغيرات والمغريات، وذلك بارتكاز خطابهم الدعوي على عدة نقاط تمثل المدخل الرشيد في تفهيم الناس الدور الحقيقي للأموال في حياتهم من وجهة النظر الإسلامية التي تحقق السعادة الحقيقية في الدارين، ومنها:
أولاً: الملكية الحقيقية للأموال:
فمن وجهة نظر الإسلام للمال، المال مال الله -عز وجل-، فهو المالك الحقيقي، فالكون بكل ما فيه من بشر مالكون، وما يملكون جزء من ملك الله العظيم، والبشر وكلاء ومستخلفون على هذا المال، وقد رسم لهم المالك الحقيقي -وهو الله سبحانه- خريطة طريق لإنفاق هذا المال وكيفية التصرف فيه، وحدّد لهم طرق المسائلة في مدخله ومخرجه، وبيّن لهم أن من يخالف أوامره ويعبث بخريطة التصرف في المال اكتسابًا وإنفاقًا سوف يتعرض عندها لمسائلة شديدة وعواقب وخيمة، قال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد: 7]، وقال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ) [التكاثر: 8]، وفي الحديث: "لا تزولا قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع... وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه". أي أن سؤال المال سؤال مزدوج، وهذا يجعله عسيرًا وخطيرًا، وهذا المعنى الأصيل في حقيقة المال الذي بين أيدينا يجعل الناس يُرشدون استهلاكهم لهذا المال، ويعلمون أنه مسؤولية كبرى لابد من مراعاتها والالتفات لكيفية التصرف فيها، ما يفتح آفاقًا واسعة للبذل والتصدق والإنفاق في سائر أوجه الخير.
ثانيًا: العبادة والأموال:
الشريعة تقر بأن البشر مفطورون على الحب الشديد للمال كما بينّا ذلك، وهذا الأمر سيشعل دائمًا سباقًا محمومًا على تحصيله، وبالتالي سيكون المطلوب دائمًا أقل من المعروض، ما أدى لحالة صراع مستمر بين الأفراد والجماعات والأمم على تحصيل هذا المال، فالسياسات الاستعمارية التي اتبعها الأوروبيون منذ القرن الثامن عشر كانت ترمى في الأساس لنهب خيرات البلاد المحتلة وسرقة مواردها الطبيعية والبشرية.
وهذه المشكلة لا يصح معالجتها بضخ مزيد من الأموال؛ لأن ذلك سيؤدى لمشاكل اقتصادية وسياسية لا تنتهي، كما لا يصلح معالجة غير محدود وهو طلب المال بمحدود وهو المعروض منه، كما لا تحل أيضًا بتشريعات وقوانين صارمة تفرضها الأنظمة السياسية التي تحدد فيها للأفراد سقفًا لما يملكونه مثلما كان الحال مع الأنظمة الشيوعية والاشتراكية.
وهذه المعضلة الاجتماعية والاقتصادية لن تحل إلا بتفعيل وتقوية الجوانب الإيمانية عند البشر وإثراء البناء العبادي لهم، وبالتالي يصمدون أمام شهوة اقتناء الأموال، وإشغال المسلم لنفسه بالطاعة والعبادة والإقبال على الله -عز وجل- وطلب العلم ودراسته يوفر له طاقات روحية متجددة تسمو به فوق شهوات الدنيا بما فيها شهوة المال، وهذا هو أحد أسرار وتميز الشريعة الإسلامية أنها جمعت بين حاجات الجسد والروح معًا، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]، في حين أن التشريعات المعاصرة أهملت بالكلية الجانب الروحي حتى غدت الحضارة المعاصرة مادية صرفًا لا أثر فيها لروح ولا إيمان.
ثالثًا: الابتلاء والأموال:
المال في الإسلام يعتبر نعمة من نعم الله -عز وجل- التي يبتلي بها عباده لينظر كيف يعملون، شأنه في ذلك شأن نعمة الصحة والجاه والولد والمنصب، فلا كثرة المال دليل رضا ومحبة، ولا قلته دليل غضب ومقت، كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35]، وقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) [الأنفال: 28]، فالاختبار كما يكون بالمرض والفقر والضعف والشدة يكون أيضًا بالمال والولد والجاه والمناصب والصحة، ولكن غالبية البشر يرسبون أمام هذا الاختبار، إذ إن الوعي البشري عادة ما يكون يقظًا تجاه الابتلاء والاختبار بالشدائد من مرض وفقر وغير ذلك، فيصبرون ويحمدون ويرضون ويسلّمون، في حين أن الابتلاء بالنعم -وعلى رأسها المال- يعده كثير من الناس أنه رضا من الله عليهم، وينظرون إلى كم المجهود المبذول من أجل تحصيله، فتطالبهم أنفسهم وقتها بالتفنن في الاستمتاع بهذا المال الذي تُعب من أجله كثيرًا، وهنا يحدث الإخفاق البشري الشهير أمام المال، ولعل حديث القرآن عن قصة قارون موسى خير دليل على هذا الإخفاق في تقييم المال وسوء التعامل فيه، وعاقبة من امتهن هذه النعمة واستخدمها في البطر والأشر.
والحقيقة البشرية الثابتة التي بينها القرآن الكريم عن طبيعة النفس البشرية أن ثمة تلازمًا بين بسط المال والجاه والقوة وبين البغي والتجبر والبطر والطغيان، قال تعالى: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) [الشورى: 27]، وقال: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7]، وهذا الأمر يحتاج دومًا إلى إيمان متين ويقين مكين لمراقبة الله -عز وجل- في هذه النعمة الخطيرة.
رابعًا: المال وسيلة أم هدف؟!
يقدم كثير من الناس في واقعنا المعاصر مثالاً واضحًا مطردًا على الخلط بين الأهداف والوسائل، فقد اتسعت قاعدة الأهداف والغايات حتى شملت معظم الوسائل، وبالتالي أصبح كثير منهم لا يعرف غايته الحقيقية التي خلق من أجلها، فقد تاهت في زحمة الوسائل التي تحولت إلى غايات، ويأتي المال على قمة الوسائل التي تحولت إلى غايات وأهداف مستقلة، وهذا الخلط والتوهان أوجد عند كثير من الناس أنواعًا شتى من الارتباك والتخبط في التعامل مع المال، فبعضهم أهلكه طلب المال واللهث خلفه ليل نهار، ولا يبالي من أين حصّله؟! وكيف اكتسبه؟! ولذلك قال الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا، فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، خُذُوا مَا حَلَّ، وَدَعُوا مَا حَرُمَ"، وبعضهم يمنع حق الله والفقراء في ماله فيمنع الزكاة والصدقة والمواساة، ويتحول إلى بشري شحيح يقتله الشح والبخل والطمع في تكديس الأموال، والبعض الثالث يطغى ويتجبر بماله ويفقد كثيرًا من آدميته ويتحول لنموذج إنساني مشوه معدوم الضمير والخلق والدين.
والخلاصة أن المال ما دام أنه من أهم محاور الحياة الحديثة فلابد إذًا من العمل على بناء علاقة متوازنة ورشيدة في كيفية التعامل معه، والعمل على ترشيد إنفاقه والعمل على تثميره وتنميته، والتخلص من آفات النفس البشرية تجاه المال من عشق جامح وتبذير كالح وإسراف فادح، وتوظيف المال العام والخاص في المجتمعات المسلمة بما يعود بالنفع والإغناء للجميع، وعلى الأغنياء أن يعلموا أنهم كانوا قبل الغنى فقراء فأغناهم الله وبسط لهم في أرزاقهم، وأن بين أيديهم وديعة استودعهم إياها مالك الملك، وأنها نعمة واختبار من الله وابتلاء لهم بالمسرات، هم مسؤولون عنها يوم القيامة، والإجابة تتلخص في قوله -عز وجل-: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) [الليل: 5 ـ 11].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم