اقتباس
فلما هزمت الجيوش الفاطمية جيوش الإمبراطور في الشام واستطاعت بذلك أن تثبت تفوقها العسكري؛ انتهز مدبر الدولة برجوان هذه الفرصة؛ ليعقد الهدنة مع الدولة البيزنطية، فبعث إلى الإمبراطور يقترح عقد الصلح والمهادنة، فاستجاب باسيل الثاني لدعوته، وأنفذ سفارة إلى بلاط القاهرة؛ واحتفى البلاط الفاطمي بالسفير البيزنطي احتفاء عظيما وزين الديوان الخلافي لاستقباله زينة تنوه الرواية بفخامتها وروعتها؛ وانتدب برجوان أريسطيس بطريرك بيت المقدس وخال الأميرة ست الملك ابنة العزيز بالله وأخت الحاكم بأمر الله للسير مع السفير البيزنطي وتقرير شروط الهدنة مع القيصر وعقد أواصر الصداقة بين الدولتين؛ فسار أريسطيس إلى قسطنطينية، وقام بالمهمة؛ وعقدت بين مصر والدولة البيزنطية معاهدة سلم وصداقة لمدة عشر سنين؛ وأقام أريسطيس في عاصمة بيزنطية أربعة أعوام حتى توفي؛ ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه السفارة ولكن المرجح أنها وقعت في أواخر سنة 389 أو أوائل سنة 390 (سنة 1000م).
تكلمنا في الجزء الأول عن تاريخ الدبلوماسية في العهد النبوي، وعناية الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتفعيل القنوات الدبلوماسية واستغلالها في تبليغ رسالة الإسلام، كما تكلمنا عن أهم السفارات النبوية إلى ملوك وأمراء المعمورة وقتها، وكيف أن الدبلوماسية الإسلامية اعتمدت في عملها على خطة ذات أهداف سامية على رأسها تبليغ رسالة الإسلام في كل مكان، كما تكلمنا عن مؤهلات السفير اللازمة للقيام بهذه الوظيفة الحساسة. وفي هذا الجزء سوف نتكلم عن الدبلوماسية في العصور التي تلت الخلافة الراشدة وما بعدها من دول وممالك إسلامية عبر التاريخ، وأثر ذلك على وضعية الدولة الإسلامية على خريطة العالم وقتها. ولكن سوف نتكلم في البداية عن أهم حقوق العاملين في الحقل الدبلوماسي في الشريعة الإسلامية.
أولاً: حقوق الدبلوماسيين في الإسلام:
أرسى الإسلام مبدأ المعاملة بالمثل في كثير من قضايا العلاقات الدولية، ومن ذلك ما يتصل بالدبلوماسيين وضرورة تأمين كافة أشكال "الحصانة" لهم، وبيان ذلك على النحو الآتي:
1-الحصانة الشخصية في النفس والمسكن والمقتنيات: وهذا حق من حقوق الدبلوماسي وأسرته؛ لأنه جاء باتفاقية وعهد وأمان، وبموافقة من سلطات الدولة المضيفة، فلا يجوز التعرض له، أو الاعتداء عليه، أو مضايقته، أو تفتيش أمتعته الشخصية، أو التعرض لأسرته، وهذا عرف إنساني قديم، أقره الإسلام من باب المعاملة بالمثل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمبعوثي مسيلمة اللذين ارتدَّا عن الإسلام واتَّبعا مسيلمة:" لو لا أن الرسُل لا تُقْتَل لضربت أعناقكما".أي: لكفرهما بعد أن كانا مسلمين. والحديث رواه أبو داوود والحاكم.قال ابن القيم: مضت السنَّة أن الرسول -أي: الدبلوماسي- لا يُقْتَل ولو ارتد عن الإسلام.
2-الحصانة المالية والإعفاء من الضرائب والرسوم في حدود معينة: ذكر أبو يوسف القاضي في كتابه: " الخراج ": أنه لا تؤخذ من الرسول ضرائب كالعُشر ونحوه، إلا ما كان معه من بضاعة وسلع للتجارة، أما غير ذلك من أمتعته الخاصة وحاجاته الشخصية فلا ضرائب فيها ولا عُشر.
3-الحصانة القضائية والعدلية: للفقه الإسلامي في هذا الصدد موقف مستقل عن غيره، وأساس هذا الموقف تحميل المعاهد أو المستأمن، ومثله المبعوث الدبلوماسي ونحوه المسؤولية المدنية المالية، والمسؤولية الجنائية الجزائية عما يرتكبه من أعمال في بلاد الإسلام؛ لأنـه ملزم بأحكامها حال إقامته فيها أو وجوده على أراضيها الإقليمية، وبيان هذا –إجمالاً-على النحو التالي:
أ-اتفق الفقهاء على وجوب استيفاء الحقوق والحدود من المعاهد والمستأمن والدبلوماسي ونحوه إذا تعلقت بالأفراد، ويعبر عن هذه الحقوق في الفقه الإسلامي بحقوق العباد، كالضرب والشتم والسرقة والقذف والقتل، وتقوم هذه الفكرة على مبدأ فطري هو: أن حقوق الأفراد قائمة على المفاتشة والمشاححة، بخلاف حقوق الله -تعالى- القائمة على المسامحة.
ب-اختلف الفقهاء في وجوب استيفاء الحقوق والحدود من المعاهد والمستأمن والدبلوماسي ونحوه إذا تعلقت بالحق العام أو النظام العام، ويعبر عن هذا في الفقه الإسلامي بحقوق الله -تعالى-: فقال الجمهور: لا تقام حدود الحق العام ولا عقوباته على هؤلاء ونحوهم، لئلا تُخِلَّ إقامتها بإبلاغهم مأمنهم المأمور به في الآية: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) [التوبة: 6]. وقال أبو يوسف القاضي وبعض الشافعية: تقام حدود الحق العام وتستوفى عقوباته على هؤلاء إحقاقا للحق والعدل، وقياساً على المواطن الذمي في بلاد الإسلام، ولأن المعاهد ونحوه ملتزم ضمناً بمجمل أنظمة الدولة حال مكوثه فيها. والقول الأخير هو المتعارف عليه والمستقر التعامل به بين الدول في الجملة، وذلك لضمان الأمن والاستقرار، وفرض هيبة القوانين الإقليمية. علماً. بأن البعض يرى أن تبلغ الدولة المضيفة دولة الموفد بإجراءات محاكمته في أراضيها، كما أن لها أن تعتبره شخصاً غير مرغوب فيه، وتطرده من البلاد للمحافظة على سيادتها وسلامتها.
ثانياً: الدبلوماسية في الدولة الأموية:
كانت الدولة الأموية دولة الفتح والتوسع الأفقي بالنسبة للدولة الإسلامية، فلم يتسع وقتها لتنظيم العلائق السلمية؛ وكانت تقف طوال عهدها من جارتها اللدود -الدولة البيزنطية- موقف الخصومة والتربص، فلا نقف في هذا العصر على كثير من أخبار السفارات المتبادلة بين الدولتين؛ فعجلة الفتح الإسلامي لم تكف عن الدوران طوال العهد الأموي حتى في أحلك الفترات، ورغم كثرة خصوم الدولة الأموية، ومحاربتها لأعدائها في كل اتجاه، فإن الحملات العسكرية في المشرق والمغرب لم تتوقف إلا بعد اشتداد المواجهة مع المنافسين الجدد؛ العباسيين.
ولكنا نجد -بعد حوادث حصار قسطنطينية الأول وإخفاق الخلافة الأموية في مشروعها؛ لاقتحام الدولة الشرقية (58هـ - 678م)- سفراء الإمبراطور قسطنطين الرابع يستقبلون في دمشق بحفاوة؛ ليعقدوا مع الخليفة معاوية -رضي الله- عنه معاهدة الصلح التي ارتضى بها معاوية كعنوان المهادنة والمسالمة من جانب الخلافة. وفي خلافة سليمان بن عبد الملك تردد على دمشق رسل الدولة الشرقية؛ ليقفوا على أمر الأهبة الهائلة التي تتخذها الخلافة للسير إلى قسطنطينية ومحاولة اقتحامها كرة أخرى، وعاد سفير الدولة الشرقية إلى بلد قسطنطينية يحمل عن أهبة الخلافة أروع الأخبار والروايات.
ثالثاً: الدبلوماسية في الدولة العباسية:
قامت الدولة العباسية وتوطدت أركانها، على أنقاض الدولة الأموية وبعد سلسلة من الأحداث المروعة التي تركت أثراً بالغاً على الحالة السياسية. ولم يكد يمر على قيامها أعوام بسيطة حتى قامت دولة أموية جديدة في الأندلس، كانت بغداد في المشرق، وقرطبة في المغرب، كلتاهما قطباً للتجاذب السياسي والعمل الدبلوماسي بين الإسلام والنصرانية. وكانت مملكة الفرنج القوية بزعامة الإمبراطور " بيين " قد قامت يومئذ في الطرف الآخر من أوربا؛ لتتزعم أمم الغرب إلى جانب الدولة الرومانية الشرقية؛ فكان ذلك عاملاً جديداً في إذكاء التجاذب السياسي بين الشرق والغرب؛ ومنذ خلافة المنصور ثاني خلفاء الدولة العباسية نرى مملكة الفرنج تحاول أن تأخذ بنصيبها في عقد الصلات السياسية مع زعيمة الإسلام في المشرق، وفي إقامة التوازن السياسي في العالم الجديد، ونرى ملك الفرنج "بيين" يبعث رسله إلى عاصمة الخلافة الإسلامية الجديدة (بغداد) في سفارة إلى المنصور. ويضع مؤرخو الفرنج تاريخ هذه السفارة في سنة 765م (148هـ)، وتقول لنا الرواية إن السفراء الفرنجيين لبثوا مدى حين في بغداد، وعادوا بعد ثلاثة أعوام إلى فرنسا يصحبهم رسل أو سفراء من قبل الخليفة إلى ملك الفرنج، ونزلوا بثغر مرسيليا؛ فاستقبل ملك الفرنج سفراء الخليفة أحسن استقبال، ودعاهم إلى تمضية الشتاء في مدينة متز التي كانت يومئذ منزل البلاط الفرنجي، ثم دعاهم للتنزه والإقامة مدى حين في قصر (سلس) على ضفاف اللوار؛ ثم عادوا بعد ذلك إلى بغداد بطريق مرسيليا أيضاً مثقلين بالتحف والهدايا.
واستمرت هذه الصلات السياسية بين الخلافة العباسية ومملكة الفرنج عصراً؛ وزادت أواصرها في عصر الرشيد قوة وتوثقاً. وهنا نعطف بإيجاز على ذكر تلك السفارات الشهيرة التي تبادلها الرشيد، وشارلمان إمبراطور الفرنج المعروف باسم " شارل الأكبر "، والتي تنفرد بذكرها الروايات الفرنجية أيضاً؛ فإن هذه الروايات تقول لنا: إن شارلمان جرياً على سياسة أبيه، أرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها يهودي يدعى إسحاق؛ ليؤكد بينهما الصلات الودية، وليسعى لدى الخليفة في نيل بعض الامتيازات الخاصة بالنصارى والأماكن النصرانية المقدسة، فأكرم الرشيد وفادة السفراء الفرنج وردهم إلى شارلمان بهدية فخمة منها فيل وخيمة عربية وساعة مائية وحرائر وعطور شرقية وغيرها، وبعث إلى ملك الفرنج سفراءه بتحياته وتأكيد صداقته. وقد سر شارلمان بنتائج سفارته الأولى، فأوفد إلى الرشيد سفارة أخرى على رأسها مبعوثه إسحاق أيضاً؛ وتبالغ الرواية الفرنجية في نتائج هذه المراسلات بين الرشيد وشارلمان، فتقول: إن الرشيد أرسل إلى ملك الفرنج مفاتيح الأماكن النصرانية المقدسة، ومنحه حق رعايتها وحمايتها، وهذا ما لم يتثبت تاريخياً من أي وجه، مما يؤكد على فكرة التعامل الحذر مع هذه الروايات. هذه العلاقات الدبلوماسية بين بغداد ومملكة الفرنج، استمرت بعد وفاة الرشيد وشارلمان؛ وأن المأمون ولد الرشيد بعث إلى (لويس) ولد شارلمان وملك الفرنج من بعده سفارة أخرى؛ لتأكيد الصداقة.
أما على الجانب الآخر، فقد كان على عرش قسطنطينية امرأة وافرة الذكاء والعزم هي الإمبراطورة إيريني زوج الإمبراطور ليون الرابع، وكانت وصية على ولدها قسطنطين أثناء طفولته؛ ولكنه لما كبر وحاول أن يقبض على زمام السلطة، ناوأته وقاومته حتى ظفرت به، وزجته إلى ظلام السجن بعد أن سملت عيناه بأمرها؛ فانتهز المسلمون فرصة هذه الاضطرابات وغزوا آسيا الصغرى مراراً حتى اقتربوا من البوسفور، وقاد هارون الرشيد (وهو يومئذ ولي عهد أبيه المهدي) بنفسه معظم هذه الحملات، فاضطرت إيريني إلى التماس الصلح، وبعثت رسلها إلى هارون، وهو يعسكر بجيشه على مقربة من البوسفور، تطلب الصلح والهدنة؛ فأجابها الرشيد إلى ما طلبت وعقدت بين الفريقين معاهدة تعهدت إيريني بمقتضاها أن تدفع إلى الخلافة جزية سنوية مقدارها سبعون ألف دينار، وتبادل الرشيد والإمبراطورة بهذه المناسبة بعض الهدايا والتحف الملوكية سنة (782م - 166هـ)، ولما تولى الرشيد الخلافة بعد أبيه، كانت إيريني قد خلعت وجلس على عرش القسطنطينية نيكيفروس (ويسميه العرب نقفور) كبير الخزائن؛ فما كاد يجلس على العرش حتى بادر بإعلان الخصومة على الخلافة وبطلان معاهدة الصلح، ورفض أداء الجزية والمطالبة بما أدى منها؛ وتنقل إلينا الرواية الغربية صورة الإنذار الذي وجهه نيكيفروس على يد سفرائه إلى الرشيد وفيه يخاطب الرشيد بما يأتي: "من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقياً بحمل أضعافه إليها، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا"، وألقى سفراء الروم أمام عرش الرشيد حزمة من السيوف إشارة بإعلان الحرب، فغضب الرشيد لهذه الجرأة أيما غضب؛ وكتب بنفسه على ظهر كتاب ملك الروم؛ أما بعد:"فقد فهمت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام"، وبادر الرشيد إلى غزو آسيا الصغرى على رأس جيش ضخم، فاجتاحها حتى هرقلية (806م) فاضطرب نيكيفروس إلى طلب الصلح، وأرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها أسقف سينادا، وعقدت بين الفريقين معاهدة جديدة، يتعهد فيها القيصر باصطلاح الحصون المخربة، وبأن يدفع جزية سنوية قدرها ثلاثون ألف دينار، وأن يدفع عن نفسه ثلاث قطع ذهبية من نوع خاص وثلاث أخرى عن ولده عنواناً لخضوعهما لأمير المؤمنين.
وأحيانا كان الفشل الدبلوماسي يتحول إلى حروب طاحنة، مثلما حدث أيام المعتصم العباسي عندما حاول إمبراطور بيزنطة " توفيل " أن يعقد هدنة دائمة مع الدولة العباسية، ولكن المعتصم رفض الأمر، فاستشاط " توفيل" غضبا من هذا الرفض، واستغل فرصة انشغال المعتصم بقتال بابك الخرمي، وهجم على مدينة " زِبَطرة " الحدودية وخربها وقتل الكثير من أهلها ومثّل بجثثهم، فقرر المعتصم الانتقام بأروع صورة، فخرج على رأس جيش جرار، وهاجم أشرف مدن الروم "عمورية" (أنقرة اليوم)، وحاصرها بشدة ودافع الروم عنها ببسالة ، ولكنه صمم على اقتحامها ، وبالفعل بعد شهرين من الحصار اقتحمها ودمرها بالكلية ، وتركها قاعا صفصفا ، بعد أن قتل رجالها وسبى نساءها وأطفالها ، جزاء وفاقا على عدوان " توفيل " وغدره وذلك سنة 223 هـ .
رابعاً: الدبلوماسية في الدولة الفاطمية العبيدية:
كانت بغداد محور السياسة الإسلامية في المشرق يوم كانت الدولة العباسية في ذروة قوتها وفتوتها؛ وكانت الدولة البيزنطية تتجه –يومئذ- ببصرها إلى بغداد قلب الإسلام النابض، ترقب حركاتها ومشاريعها، وتتحوط لفوراتها وغزواتها. وكانت المعارك تضطرم بين الدولتين بلا انقطاع –تقريباً- أيام الرشيد والمأمون والمعتصم؛ ولكن فتوة الدولة العباسية لم يطل أمدها؛ فمنذ أواخر القرن الثالث الهجري والتاسع الميلادي تسري إليها عوامل الانحلال والوهن، وتخبو فيها فورة النضال والغزو، ويتجه بصر الدولة البيزنطية إلى قوة ناشئة أخرى على مقربة من حدودها الجنوبية. ذلك أن مصر، التي بقيت زهاء قرنين ونصف قرن ولاية خلافية، غدت في ظل الولاة الأقوياء دولة شبه مستقلة، وأخذت تجيش بمختلف الأطماع والمشاريع، وألفت الدولة البيزنطية في قيام الدولة الحمدانية بالشام، وقيام الدولة الطولونية ثم الدولة الإخشيدية بمصر، مواطن جديدة للخطر يجب اتقاؤها. وأخذ ميدان النضال بين الإسلام والنصرانية يتحول من سهول أرمينية وأواسط الأناضول إلى سهول كليكية وشمال الشام. ولما قامت الدولة الفاطمية بمصر، رأت الدولة البيزنطية من قوتها وغناها ووفرة جيوشها وأساطيلها ما ينذر بتفاقم الخطر، وأدركت أنها قد تواجه على يد هذه الدولة القوية ثورة إسلامية جديدة تضطرم قوة وفتوة وطموحاً، وأخذت ترقب حركات الدولة الجديدة ومشاريعها في يقظة وجزع.
وشغلت الدولة الفاطمية مدى حين بخطر القرامطة الذي كان يهددها في موطنها الجديد، ويكاد ينذرها بالمحو والفناء العاجل. وألفت الدولة البيزنطية من جانبها فيما أثارته غزوات القرامطة للشام من الاضطراب والفوضى، فرصة للإغارة على الشام ودفع حدودها إلى الجنوب؛ وكانت الدولة الحمدانية في حلب قد اضمحلت ولم تقو بعد على رد الغزاة من الشمال، ولم تلبث أن انضوت تحت لواء الروم (البيزنطيين) وتعهدت لهم بأداء الجزية استبقاء لحياتها، واتقاء لسطوة الدولة الفاطمية الجديدة. وبينما كان القرامطة يزحفون على مصر، وجيوش المعز الفاطمي تدفعهم عنها، غزا الروم الشام، وعاثوا في سواحله ورست على إنطاكية، وهزموا الجيوش الفاطمية أولاً، ثم عادوا فارتدوا أمامها تحت أسوار طرابلس، واختتم عهد المعز لدين الله، والروم يبسطون سلطانهم على قسم كبير من شمال الشام.
وفي عهد العزيز بالله استؤنف النضال بين الدولتين؛ وكان خطر القرامطة قد خبا وتحطم تحت ضربات الدولة الفاطمية. وألفى الفاطميون والروم أنفسهم في سهول الشام وجها لوجه؛ وكانت الدولة البيزنطية تجوز في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر مرحلة جديدة من القوة والنهوض في عصر الأسرة البسيلية، ولاسيما في عهد الإمبراطور باسيل الثاني (976 - 1025م)، معاصر العزيز بالله وولده الحاكم بأمر الله؛ وكانت السياسة البيزنطية كعادتها تشجع كل عناصر الانتقاض أو الخروج في المملكة الإسلامية؛ فلما همت الجيوش الفاطمية بغزو حلب واستغاث بنو حمدان بحلفائهم الروم، سار الروم لقتال المصريين ونشبت بينهما معركة طاحنة على مقربة من إنطاكية (381هـ - 991م)، فهزم الروم هزيمة شديدة؛ وخشيت السياسة البيزنطية عواقب هذا الفشل، فسار الإمبراطور باسيل الثاني بنفسه إلى الشام وغزا حمص وأعمالها، وبسط سلطانه على معظم سواحل الشام؛ وارتاعت الدولة الفاطمية لهذا التطور الخطير في حوادث الشام، وهم العزيز بالمسير بنفسه إلى قتال البيزنطيين، ولكن الموت أدركه في الطريق؛ وخلفه ولده الحاكم بأمر الله طفلاً، وتولى تدبير شؤون المملكة وصيه برجوان الصقلى؛ واضطربت حوادث الشام حيناً، وشجعت السياسة البيزنطية قيام الثورة في صور، وسار الروم في البر والبحر لمؤازرة الثوار؛ ولكن برجوان كان رجل الموقف، فبعث إلى الشام بجيش كبير، استطاع أن يخمد الثورة، وأن يهزم البيزنطيين في عدة مواقع (378هـ - 998م)، واضطر باسيل الثاني أن يسير بنفسه إلى الشام مرة أخرى. ولكنه ما لبث أن اضطر إلى العودة إلى قسطنطينية؛ ليتأهب لرد خصومه البلغار الذين هددوه بالغزو من الشمال.
الدولة الفاطمية عملت من جانبها على توطيد حدودها الشمالية ورد الخطر البيزنطي عنها، ولم تكن تجيش في ذلك بأكثر من نزعة دفاعية، بينما كانت الدولة البيزنطية تجيش في عهدها الجديد بنزعة إلى الفتح والتوسع. وكانت الدولة الفاطمية تتوق إلى اتقاء الأحداث والحروب الخارجية؛ لتتفرغ إلى تنظيم شؤونها الداخلية؛ فلما هزمت الجيوش الفاطمية جيوش الإمبراطور في الشام واستطاعت بذلك أن تثبت تفوقها العسكري؛ انتهز مدبر الدولة برجوان هذه الفرصة؛ ليعقد الهدنة مع الدولة البيزنطية، فبعث إلى الإمبراطور يقترح عقد الصلح والمهادنة، فاستجاب باسيل الثاني لدعوته، وأنفذ سفارة إلى بلاط القاهرة؛ واحتفى البلاط الفاطمي بالسفير البيزنطي احتفاء عظيما وزين الديوان الخلافي لاستقباله زينة تنوه الرواية بفخامتها وروعتها؛ وانتدب برجوان اريسطيس بطريرك بيت المقدس وخال الأميرة ست الملك ابنة العزيز بالله وأخت الحاكم بأمر الله للسير مع السفير البيزنطي وتقرير شروط الهدنة مع القيصر وعقد أواصر الصداقة بين الدولتين؛ فسار اريسطيس إلى قسطنطينية، وقام بالمهمة؛ وعقدت بين مصر والدولة البيزنطية معاهدة سلم وصداقة لمدة عشر سنين؛ وأقام اريسطيس في عاصمة بيزنطية أربعة أعوام حتى توفي؛ ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه السفارة ولكن المرجح أنها وقعت في أواخر سنة 389 أو أوائل سنة 390 (سنة 1000م).
وشغلت الدولة البيزنطية مدى حين بشؤونها الداخلية وحروبها في البلقان وأرمينية. وقنعت من الشام بإنطاكية، وهدأ النضال بين الدولتين حيناً، وتحسنت العلائق بينهما؛ ولكن سياسة الحاكم بأمر الله المتقلبة إزاء النصارى، واشتداده في مطاردتهم، وما اتخذه من الإجراءات العنيفة لهدم الكنائس والأديار، ولاسيما كنسية القيامة (القبر المقدس) ببيت المقدس أثارت حفيظة السياسة البيزنطية، وحفيظة الكنيسة الشرقية التي كانت تعتبر نفسها حامية النصرانية في المشرق؛ بيد أن الدولة البيزنطية لم تستطع يومئذ أن تتدخل في سير الحوادث. وكانت الأميرة ست الملك أخت الحاكم تخشى عواقب هذه السياسة العنيفة وتجاهد في تلطيفها، وكان لها حسبما تؤكد الرواية أكبر يد في تدبير مصرع أخيها وإنقاذ الدولة الفاطمية من عواقب هذه السياسة الخطرة. فلما انتهت المأساة بذهاب الحاكم، وقام ولده الظاهر في عرش الخلافة بتدبير ست الملك ورعايتها، عادت الخلافة الفاطمية في الحال إلى تسامحها المأثور نحو النصارى، وردت إليهم حرياتهم وحقوقهم، وسمح لهم بتجديد ما درس من كنائسهم، ولاسيما كنيسة القيامة، وألفت ست الملك الفرصة سانحة لتجديد الصداقة والمهادنة مع الدولة البيزنطية، فبعثت نيقفور بطريرك بيت المقدس سفيرا إلى باسيل الثاني؛ ليعمل على عقد أواصر التفاهم والصداقة بين الدولتين سنة 414هـ (1024م) ويطلعه على ما اتخذه بلاط القاهرة من الإجراءات؛ لتحرير النصارى ورفع الإرهاق عنهم وحمايتهم في أموالهم وأنفسهم؛ ولكن الأميرة ست الملك توفيت قبل أن يستطيع السفير تأدية مهمته، ورده بلاط قسطنطينية بلطف، فعاد أدراجه، ولم يمض قليل حتى توفي باسيل الثاني (1025م).
ولكن الخلافة الفاطمية آثرت أن تمضي في سياستها الودية نحو الدولة البيزنطية؛ ومع أن الجيوش البيزنطية اشتبكت في الأعوام التالية في عدة معارك وحروب محلية في حلب وإنطاكية مع الأمراء العرب المحليين، وهزمت أمامهم غير مرة، فإن حكومة القاهرة لم تشأ أن تتدخل في تلك المعارك ولا أن تنتهز تلك الفرصة لمحاربة البيزنطيين؛ ووقعت المفاوضات بين الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله والإمبراطور رومانوس الثالث؛ لعقد معاهدة صداقة بين الدولتين، واشترط الإمبراطور لعقدها أن يتولى إعادة تعمير كنيسة القيامة وأن يعمر النصارى ما شاءوا من كنائسهم الدراسة، وأن يقيم بطريركا من قبله لبيت المقدس، وأن تمتنع حكومة القاهرة من التعرض لشؤون حلب باعتبارها داخلة في حماية الإمبراطور وتؤدي له الجزية، وأن تمتنع عن نجدة صاحب صقلية المسلم إذا هاجمته الجيوش البيزنطية؛ ولكن الظاهر الفاطمي رفض التخلي عن حلب باعتبارها عاصمة إسلامية جليلة؛ وطالت المفاوضات بين الفريقين، وانتهت بعقد معاهدة صداقة بينهما، سمح فيها للإمبراطور أن يتولى تعمير القبر المقدس، وللنصارى أن يعمروا كنائسهم وأن يعود منهم من أسلم كرها إلى دينه؛ وأن يطلق الإمبراطور سراح الأسرى المسلمين لديه، وأن يعيد مسجد قسطنطينية كما كان ويسمح فيه بالآذان وبالخطبة للظاهر؛ بيد أن الكنيسة الشهيرة لم يجدد بناؤها إلا بعد ذلك بنحو عشرة أعوام في عهد المستنصر بالله.
وفي عهد الخليفة المستنصر بالله ولد الظاهر اضطربت شئون الدولة الفاطمية، واضطربت العلائق بين مصر وبيزنطية، وعانت مصر في أوائل هذا العهد أروع مصائب الغلاء والقحط والوباء مدى أعوام ثمانية تعرف بالشدة العظمى (446 - 544هـ)، وأرسل المستنصر بالله إلى الإمبراطور قسطنطين التاسع أن يمده بالغلال والأقوات، وتم الاتفاق بينهما على شروط هذه المعاونة، ولكن الإمبراطور توفي قبل تنفيذ الاتفاق، فخلفته الإمبراطورة تيودورا، واشترطت لتنفيذ الاتفاق شروطاً جديدة رفضها المستنصر، واضطربت علائق الدولتين، واشتبك الفريقان في عدة معارك شديدة في البر والبحر؛ وفي سنة 447هـ (1055م)؛ أرسل المستنصر سفيراً إلى تيودورا هو القاضي والمؤرخ الكبير أبو عبد الله القضاعي؛ ليحاول تسوية العلائق واستئناف الصداقة؛ ولكن السياسة البيزنطية آثرت جانب السلاجقة ورأت أن تتفاهم معهم، وأخفق سعي السفير المصري؛ وكانت ثورة السلاجقة قد اضطرمت قبل ذلك بالمشرق، وأخذت تنذر باجتياح الشام، وتطورت حوادث الشام في الوقت نفسه تطورا سيئاً، واستولى الزعماء العرب على قواعده وثغوره، فانتزعت حلب من يد الخلافة الفاطمية نهائياً، وكادت دمشق وفلسطين تخرج عن قبضتها، وتضعضعت قوى الدولة في الداخل والخارج؛ ثم كانت وثبة السلاجقة نحو المشرق واستيلاؤهم على فلسطين ودمشق؛ وأعقبت ذلك ثورة من الغرب كانت أخطر ما عرفت الأمم الإسلامية: تلك هي ثورة الحروب الصليبية التي اضطرمت منذ أواخر القرن الحادي عشر، وسرعان ما ظفرت بانتزاع الشام وفلسطين من قبضة الإسلام؛ وحلت المملكة اللاتينية في بيت المقدس مدى حين، وقامت الإمارات النصرانية في الشام حاجزاً بين الدولة الفاطمية والدولة البيزنطية، وتحول مجرى العلائق الدبلوماسية بين الإسلام والنصرانية، وافتتح بينهما عهد طويل من النضال المضطرم؛ وانحدرت الدولة الفاطمية إلى مرحلة الانحلال الأخير، كما انحدرت الدولة البيزنطية خصيمتها ومنافستها القديمة إلى مرحلة مماثلة من الضعف والانحلال.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم