عناصر الخطبة
1/ فضائل الطفيل بن عمرو الدوسي 2/ سنة الظالمين في التحذير والتشويش والتشغيب على أهل الحق 3/ قصة إسلام الطفيل بن عمرو 4/ فضل الدعوة إلى الله تعالى وعظم أجور الدعاة 5/ من صور الولاء للدين الحق، والبراءة من الدين الباطل 6/ ثبات الطفيل على الإسلام حتى استشهاده.اقتباس
رجل من الطراز الأول، كان سيداً من سادات العرب في الجاهلية ثم الإسلام، وشريفاً من أشرافهم المرموقين، وواحدًا من أصحاب المروءات المعدودين، لا تنزل له قدرٌ عن نار، ولا يوصد له بابٌ أمامَ طارق، يُطعمُ الجائعَ، ويؤمِّن الخائفَ، ويجيرُ المستجيرَ، وهو إلى ذلك أديبٌ أريبٌ لبيب، وشاعرٌ مرهفُ الحس رقيقُ الشعور، بصيرٌ بِحُلوِ البيانِ ومُرِّه، حيث تفعل فيه الكلمةُ فعل السحر، وفوق هذا كله كانت فيه خصلةٌ شريفة عزيزة كريمة وهي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد..
حديثنا اليوم أيها الكرام عن رجلٍ من الطراز الأول، كان سيداً من سادات العرب في الجاهلية ثم الإسلام، وشريفاً من أشرافهم المرموقين، وواحدًا من أصحاب المروءات المعدودين، لا تنزل له قدرٌ عن نار، ولا يوصد له بابٌ أمامَ طارق، يُطعمُ الجائعَ، ويؤمِّن الخائفَ، ويجيرُ المستجيرَ، وهو إلى ذلك أديبٌ أريبٌ لبيب، وشاعرٌ مرهفُ الحس رقيقُ الشعور، بصيرٌ بِحُلوِ البيانِ ومُرِّه، حيث تفعل فيه الكلمةُ فعل السحر، وفوق هذا كله كانت فيه خصلةٌ شريفة عزيزة كريمة وهي حبُّه للدعوةِ إلى الله، وهدايةِ الناس للتوحيد، ونبذِ الشرك والضلال والانحراف.
إننا نتحدث عن الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه، ورحمه وأكرمه-، نموذج فريد للداعية المسدَّد الموفَّق، الحريص المشفق على قومه، وهو الذي لمْ يألُ جهداً ولم يدَّخِرْ وُسعاً في دعوتهم إلى الإسلام، مع الرحمة والشفقة والصبر، حتى نال مرادَه، وتحققت أغلى أمنياته بهدايتهم وإسلامهم.
ألا ما أعظمها من همة، حملتها نفسُه الأبيةُ التواقةُ لمعالي الأمور.. فيا ليته وأمثالَه يجعلهم الشبابُ المسلمُ نبراساً في طريق سيرهم إلى الله والدار الآخرة، ويجعلونهم قدواتٍ.. في زمنٍ قُزِّمتْ فيه القامات، وعزَّتْ فيه القدوات، وقُدِّمتْ فيه الأصاغرُ على الأكابر، وأُبرزتْ فيه قدواتٌ من الزيف والبهرج ستذهب كالزَّبدِ جفاءً.. وسينتهي بها المطافُ إلى مزبلة التاريخ.
أيها المسلمون: كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يبذلُ النصيحةَ لقومه على ما يرى منهم، ويدعوهم إلى النجاةِ مما هم فيه، وقريشٌ تواصل الصَّدَ والبُعد، وتصعّد الحربَ عليه وعلى أصحابه الكرام، حتى جعلتْ تحذِّرُ الناسَ من الجلوس إليه، والسماع منه، حتى قدم الطفيلُ بن عمرو الدوسي مكة، فمشى إليه رجالٌ من قريش، فقالوا له: إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا، قد أعضل بنا، وفرق جماعتنا، وقوله كالسحرة يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمع منه.
وقريشٌ في هذا التحذير والتشويش والتشغيب على أهل الحق.. لم تأتِ بجديد، فهذه سنةُ فرعون والمجرمين من بعده، فرعونُ يحذّر قومَه من موسى قائلاً: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]، ويقول: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء: 27]، ويقول عن السحرة المؤمنين: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 123].
وهذا التشغيب والتشويش على أهل الحق مستمر طالما استمر الصراع بين الحق والباطل.. يشغّب أهلُ الباطل، ويحذرون من أهل الحق، ويتهمونهم بما هم منه براء، ويزورون تأريخهم ومبادئهم ومواقفهم.. وهيهات هيهات:
كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكمْ *** وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ
يَا نَاطَحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيَكْلُمَهُ *** أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
قال الطفيلُ: "فو الله ما زالوا بي حتى أجمعتُ على ألَّا أسمعَ منه شيئًا، ولا أكلمَه، حتى حشوتُ أذني حين غدوتُ إلى المسجد كرسفًا خشية أن يبلغني من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه".
قال: "فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- قائم يصلي عند الكعبة، قال فقمتُ قريبًا منه، فأبى الله إلا أن يسمعني بعضَ قوله: قال: فسمعت كلامًا حسنًا.
قال: فقلتُ في نفسي: واثكل أمي.. إني لرجلٌ لبيبٌ شاعرٌ ما يخفى عليَّ الحسنُ من القبيح، فما يمنعني أنْ أسمعَ من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته".
قال: "فمكثتُ حتى انصرفَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، فاتبعته، حتى إذا دخل بيتَه دخلتُ عليه، فقلتُ: يا محمد، إنَّ قومَك قالوا لي كذا وكذا للذي قالوا لي، فوالله ما برحوا يخوفنني أمرك حتى سددتُ أذني بكرسف لئلا أسمعَ قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعنيه، فسمعتُ قولاً حسنًا، فاعرض عليّ أمرك، قال: فعرض عليَّ الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فوالله ما سمعتُ قولاً قط أحسنَ ولا أمرًا أعدلَ منه، قال: فأسلمتُ وشهدتُ شهادةَ الحق.. وهكذا الإيمانُ الحقُ لن يحول دونه حائل، حتى إذا دخلت بشاشتُه القلوب.. فلزوالُ الجبالِ الشمِّ عن مواضعها أسهلُ من زواله من القلوب.
أسلم الطفيلُ في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات.. ودعا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- أن يذهب معه إلى قومه، وقال: يا رسول الله: هل لك في حصن حصين ومنعة؟ وهو حصن كان لدوس في الجاهلية، فأبى ذلك النبيّ -صلى الله عليه وسلم- للذي ذخر الله للأنصار، وبعثه -صلى الله عليه وسلم- إلى قومه داعياً، فقال: يا رسول الله.. اجعل لي آية تكون لي عونًا، فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجعل اللهُ في وجهه نورًا، فقال: يا رسول الله إني أخاف أن يجعلوها مُثلة، فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصار النورُ في سوطه، وكان يضئُ في الليلة المظلمة، ولذا يُسمى ذو النور رضي الله عنه.
لما وصل الطفيلُ إلى قومه ابتدأ من فوره بالدعوة إلى الله.. وهكذا الداعيةُ يتحرق شوقاً للدعوة، ويتقطع ألماً على حال الأمة، فلا يملك سوى مباشرة الفِعال، وترك الأقوال، والنزول إلى الميدان، والتشمير عن ساعد الجد.
يقول: فلما نزلتُ، أتاني أبي وكان شيخًا كبيرًا. قال فقلتُ: إليك عني يا أبت فلستَ مني ولستُ منك، قال: ولِمَ يا بني؟ قال: قلت أسلمتُ وتابعتُ دينَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال أبوه: دِيني دِينُك، فاغتسل وطهّر ثيابَه ثم جاء، فعرضتُ عليه الإسلامَ فأسلم، قال: ثم أتتني صاحبتي، فقلتُ لها: إليك عني، فلستُ منك ولستِ مني، قالت: لِمَ.. بأبي أنت وأمي؟ قال: قلتُ: فرّق بيني وبينك الإسلام، فأسلمتْ، قال: ودعوتُ دوسًا إلى الإسلام فأبطأوا عليّ.. لما تأخر قومُه عن الإسلام ولم يدخلوا فيه.. لم ييأس ولم يترك دعوتهم، بل رجع إلى النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- مستأنساً مسترشداً بتوجيهاته.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ، فَادْعُ اللهَ عَلَيْهِمْ. فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ النَّاسُ: هَلَكُوا. فَقَالَ: "اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ، اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ" (أخرجه الشيخان وأحمد واللفظ له).
ثم أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يعود إليهم، وقال: "اخرج إلى قومك فادعهم وارفق بهم"، قال: فخرجت أدعوهم حتى هاجر النبيُ -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة، ومضتْ بدرٌ وأحدٌ والخندقُ ثم قدمتُ بمن أسلم، ورسولُ الله بخيبر، حتى نزلنا المدينة بسبعين أو ثمانين بيتًا من دوس، ولحقنا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بخيبر، فأسهم لنا مع الناس، وقلنا: يا رسول الله اجعلنا في ميمنتك واجعل شعارنا مبرورًا، ففعل.
وها هنا وقفة عظيمة.. هل تعلم أنَّ ممن أتى بهم الطفيلُ ضمن هؤلاء السبعين عائلة الذين أتى بهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحابيُ الجليلُ أبو هريرة -رضي الله عنه وأرضاه-.
فكل ما جاء من الخير العظيم على يدِ أبي هريرة، يُكتب في ميزان حسنات الطفيل، فهل رأيتم أربح وأنجح من هذه التجارة؟
كلُّ الأحاديث التي نقلها أبو هريرة للأمة عن النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- وهي أكثرُ من خمسة آلاف حديث تدور في مجالس العلم وحلقاته إلى أن يرث الله الأرضَ ومَن عليها كلها ستكون في ميزان حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا" (رواه مسلم).
فهنيئًا لكم معاشرَ الدعاة إلى الله.. الأجرَ والمغنمَ والثناءَ الحسن، فالزموا تقوى الله وطاعته، وجدوا واجتهدوا، وأخلصوا نياتكم، وتوكلوا على ربكم، فمن يتوكل على الله فهو حسبه، ومن ينصر الله ينصره، والعاقبة للتقوى، وجندُ الله هم الغالبون، والأرضُ لله يورثها من يشاء من عباده، والله المستعان، عليه توكلنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين..
فتوبوا إليه واستغفروه إنه كان غفارًا..
الخطبة الثانية:
بعد فتح مكة في السنة الثامنة، بدأ النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث رسله لهدم الأصنام وحرقها.
قال الطفيلُ: "فقلت يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكَفَّين حتى أحرقه، وهو صنم عمرو بن حُمَمَة الدوسي، وهو الصنم الذي كان يعبده في الجاهلية".
فقال: أجل، فاخرج إليه فحرّقه.
قال: فخرجتُ حتى قدمتُ عليه. قال: فجعلتُ أوقدُ النار وهو يشتعل بالنار، وأنا أقول :
يا ذا الكَفَّين لست من عِبَادِكا *** ميلادنا أكبر من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادك
قال: فلما أحرقته أسلموا جميعًا.
وهذه صورة جلية من صور الولاء للدين الحق، والبراءة من الدين الباطل وأهله ومعبوداتهم، حين طلب أن يهدم صنم قومه بيده نصرة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-.
عباد الله: لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- وارتد مَن ارتد مِن العرب عن دين الله، واتفق الصحابة على قتال المرتدين، وبدأ أبو بكر -رضي الله عنه- يبعث الجيوش لقتالهم، كان الطفيلُ -رضي الله عنه- ممن ذهب لقتال مسيلمة الكذاب، وخرج معه ابنه عمرو.
قال: حتى إذا كنا ببعض الطريق، رأيت رؤيا، فقلت لأصحابي: إني رأيت رؤيا، عبّروها.
قالوا: وما رأيت؟ قلت: رأيتُ رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأن امرأة لقيتني وأدخلتني في فرجها، وكان ابني يطلبني طلباً حثيثاً فحيل بيني وبينه.
قالوا: خيراً.
فقال: أما أنا والله فقد أوّلتها؛ أما حلق رأسي فقطعه، وأما الطائر فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي وأدفن فيها، فقد رجوت أن أقتل شهيداً، وأما طلب ابني إياي فلا أراه إلا سيغدو في طلب الشهادة ولا أراه يلحق بسفرنا هذا.
فقتل الطفيل -رضي الله عنه- شهيداً يوم اليمامة، وأصيب ابنه، ثم خرج عام اليرموك في خلافة عمر فقتل شهيداً.
فهذه معالمُ يسيرةٌ – عباد الله – من سيرة هذا الصحابي الداعية الموفَّق ينبغي أن تكون نبراساً لنا في دعوتنا وحياتنا، فرضي الله عن الطفيل، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرَ الجزاء وأوفره وأطيبه.
وصلوا وسلموا.. على الهادي البشير.. والسراج المنير.. فقد أمركم بذلك ربكم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صل على سيدنا محمد وآله وأزواجه وذريته.. وبارك على سيدنا محمد وآله وأزواجه وذريته.. وسلم تسليمًا كثيرًا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم