الخوف من الله

الشيخ د صالح بن مقبل العصيمي

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ العبد بين الخوف والرجاء 2/ فضائل الخوف من الله في القرآن والسنة 3/ صفات الخوف النافع 4/ ثمرات الخوف من الله في الدنيا والآخرة.

اقتباس

عِبَادَ اللهِ، اعْلَمُوا أَنَّ لِلْخَوْفِ مِنَ اللهَ، ثِمَارًا عَظِيمَةً، وَآَثَارًا حَمِيدَةً، فَكَمْ فَكَّ الخَوْفُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ أَسِيرِ شَهْوَةٍ مَلَكَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهُ، وَأَبْعَدَتْهُ عَنْ رَبِّهِ!، وَكَمْ أَطْلَقَ مِنْ سَجِينِ لَذَّاتٍ أَطْبَقَتْ عَلَيْهِ سُرَادِقَهَا! وَكَمْ أَطْفَأَ مِنْ نَارِ حَسَدٍ وَحِقْدٍ وَغَيظٍ!، وَكَمْ رَدَّ عَاقًّا إِلَى وَالِدَيْهِ! وَكَمْ مَنَعَ مِنْ إِسَاءَاتٍ وَتَعَدٍ وَظُلْمٍ!، وَكَمْ فَكَّ مِنْ رَقَبَةِ عَبْدٍ دُيُونًا وَمُسْتَحقاتٍ! وَكَمْ مِنْ زَانِيَةٍ بِالخَوْفِ عَفَّتْ، وَغَانِيَةٍ تَنَسَّكَتْ! وَكَمْ أَلَانَ مِنْ قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ، فَأَذْهَبَ عَنْهَا سُحُبَ الغَفْلَةِ، فَأَمْطَرَتْ دُمُوعَ الخَشْيَةِ! وَكَمْ مِنْ مُذْنِبٍ مَا ظُنَّ أَنْ يَتُوبَ، وَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ، فَجَاءَهُ الخَوْفُ مِنَ اللهِ، فَتَابَ وَأَنَابَ...

 

 

 

 

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إنَّ الحمدُ للهِ، نَحْمَدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، مَنْ يهدِ اللهُ فلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وأشهدُ أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، وَخَلِيلُهُ - صَلَّى اللهُ عليهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.

 

أمَّا بَعْدُ... فَاتَّقُوا اللهَ- عِبَادَ اللهِ- حقَّ التَّقْوَى؛ واعلَمُوا أنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى. وَاِعْلَمُوا بِأَنَّ خَيْرَ الْهَدْيِّ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثُاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مِنْ عَلَامَاتِ أَهْلِ التُّقَى وَالصَلَاحِ، وَالفَوْزِ وَالفَلَاحِ، الإِيمَانَ بِالتَّنْزِيلِ، وَالخَوْفَ مِنَ الجَّلِيلِ. إِنَّ أَهْلَ التُّقَى وَالصَّلَاحِ، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى أَسْرَارِهمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُمْ، يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ؛ فَخَشَوْهُ أَشَدَّ الخِشْيَةِ، وَرَجَوهُ أَعَظَمَ الرَّجَاءِ. فَقَادَهُمْ خَوْفُهُمْ إِلَى الصِّدْقِ وَالإِخْلَاصِ، وَالمُتَابَعَةِ لِلْرَحْمَةِ المُهْدَاةِ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، فَهُوَ أَشَدُّ الخَائِفِينَ، وَأَعْظَمُ الرَّاجِينَ، وَسَيدُ المُخْلِصِينَ، فَلَا سَلَامَةَ إِلَّا بِالإِخْلَاصِ، قَالَ تَعَالَى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5].

 

 عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ خَلَقَ اللهُ، -جَلَّ وَعَلَا-، جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الكَوْنِ لِحِكْمَةٍ، فَمَا خَلَقَ شَيْئاً عَبَثاً، وَلِمَ لَا؟ وَهُوَ أَحَكْمُ الحَاكِمِينَ، خَلقَ الخَيْرَ وَالشَّرَ، لِيَخْتَبِرَ العِبَادَ، وَيُمَيِّزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيبِ، وَلِيَعلَمَ الشَّقِيَ مِنَ السَّعِيدِ. إِنَّ الذُّنُوبَ، وَالمَعَاصِيَ، وَالمَلَذَّاتِ، وَالشَّهَوَاتِ، ابْتِلَاءَاتٌ، يَبْتَلِي اللهُ بِهَا العِبَادَ؛ لِيَعْلَمَ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ.

 قَدْ يُنعمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ*** وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ القَوْمِ بِالنِّعَمِ

 

 عِبَادَ اللهِ، إِنَّ النَّاسَ لَا يَرَوْنَ اللهَ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ يَخَافُونَهُ؛ وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ، فَأَفْئِدَتُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ تَعْرِفُهُ وَتَخَافُهُ بِالْغَيْبِ، وَفَرَائِصُهُمْ تَرْتَعِدُ إِذَا مَا هَمُّوا بِمَعْصِيَتِهِ؛ إِنَّهُمْ يَخْشَوْنَهُ وَيَحْذَرُونَ وَعِيدَهُ، وَلَمْ يُشَاهِدُوهُ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِإِيمَانِهِمْ بِهِ، وَبِمَا غيَّبَهُ عَنْهُمْ مِنَ الوَعْدِ وَالوَعِيدِ؛ وَخَشْيَتهُمْ حَاصِلَةٌ لَهُ سُبْحَانَهُ، سَوَاءً كَانُوا فِي السِّرِ، أَمْ فِي العَلَنِ، وَلَيْسَتْ لِرُؤْيَةِ النَّاسِ لَهُمْ. فَمَا جَعَلُوهُ أَهْونَ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِمْ.

 إِذَا مَا قَالَ لِي رَبِّي أَمَا *** اسْتَحَيَيْتَ تَعْصِينِي

 وَتُخْفِي الذَّنْبَ عَنْ غَيْرِي *** وَبِالعِصْيَانِ تَأْتِينِي

 

 عِبَادَ اللهِ، إِنَّ مَنْ يَخْشَى اللهَ بِالغَيْبِ، بِصِدْقٍ وَإِخْلَاصٍ، لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِسَبَبِ حُضُورِ أَحَدٍ أَوْ غِيبَتِهِ. قَالَ ابْنُ القَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- -: "إِنَّ الخَوْفَ عَلَامَةٌ عَلَى صِحَّةِ الإِيمَانِ، وَتَرحَلُّهُ عَنِ القَلْبِ عَلَامَةُ تَرَحُّلِ الإِيمَانِ مِنْهُ".

 

 إِنَّ الخَوْفَ مِنَ اللهِ، سِرَاجُ القَلْبِ، وَكُلُّ أَحَدٍ إِذَا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنْهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّكَ إِذَا خِفْتَهُ فَرَرْتَ إِلَيْهِ. إِنَّ الخَائِفَ الوَجِلَ، يَعْمَلُ العَمَلَ وَيَخَافُ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ، أَنَّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)، فَقَالَتْ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: "لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ ".

 

قَالَ الإِمَامُ الأَلْبَانِي -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَالسِّرُ فِي هَذَا الخَوْفِ، لَيْسَ خَشْيَةَ أَلَّا يُوَفِّيهِمْ اللهُ أُجُورَهُمْ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَخْلِفُ وَعْدَهُ، وَإِنَّمَا السِرُّ أَنَّ القُبُولَ مُتَعَلِّقٌ بِالقِيَامِ بِالعِبَادَةِ، كَمَا أَمَرَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَهُمْ لَا يَجْزُمُونَ بِأَنَّهُمْ قَامُوا بِهَا عَلَى مُرَادِ اللهِ، بَلْ يَظُنُونَ أَنَّهُمْ قَصَّرُوا فِيهَا، فَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا تُقْبَلَ مِنْهُمْ".

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الخَوْفَ مِنَ اللهِ، صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ اللهِ الأَتْقِيَاءِ، وَحِزْبِهِ النُّبَلَاء، فَهَا هُوَ الرَّسُولُ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، أَعْظَمُ المُتَّقِينَ، وَأَشَدُّ الخَائِفِينَ بِشَهَادَةِ القُرْآنِ الكَرِيمِ يَعْلِنُ خَوْفَهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر: 11- 13]؛ فَلَيْسَ الخَائِفُ مِنَ اللهِ مَنْ يَبْكِي وَيَمْسَحُ عَيْنَيْهِ دُونَمَا قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، لَيْسَ المُرَادُ بِهِ مَا يَخْطُرُ عَلَى البَالِ مِنَ الرُعْبِ، فَالْخَائِفُ الْحَقِيقِيُ، كَمَا قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-،: "الخَائِفُ مَنْ رَكِبَ طَاعَةَ اللهِ تَعَالَى، وَتَرَكَ مَعْصِيتَهُ. وَقَاَل مُجَاهِدٌ: هُوَ الرَّجُلُ يُرِيدُ الذَّنْبَ فَيَذْكُرُ اللهَ فَيَدَعُ الذَّنْبَ"، فَالخَائِفُ حِينَمَا يَهُمُّ بِالمَعْصِيَةِ، يَذْكُرُ مَقَامَ الحِسَابِ بَيْنَ يَدَيَ رَبَّ الأَرْبَابِ، فَيَفِرُّ مِنْهَا فِرَارَهُ مِنَ المَجْذُوِمِ. لِذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "لَا يَعَدُّ خَائِفاً مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْذُنُوبِ تَارِكًا".

 

 فَالخَوْفَ مِنَ اللهِ، هُوَ الحَاجِزُ الصُّلْبُ، أَمَامَ دَفَعَاتِ الهَوَى العَنِيفَةِ، لِتَعَاطِي المَعْصِيَةِ. إِنَّ الخَوْفَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، يَنْهَى النَّفْسَ عَنْ الهَوَى.

 

 عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ قَادَ الخَوْفُ مِنَ اللهِ، الخَائِفِينَ إِلَى التُّقَى، فَاسْتَوَى تُقَاهُمْ فِي سِرِّهِمْ وَنَجْوَاهُمْ، إِنْفَاذاً لِوَصِيَّةِ نَبِيهِمْ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، لِمُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "اتِقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ" ر(َوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

إِنَّ الخَائِفَ حِينَمَا يُصَابُ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ، بِسَبَبِ طُغْيَانِ شَهْوَةٍ، يَقُودُهُ خَوْفُهُ وَتُقَاهُ إِلَى النَّدَمِ، وَالاسْتِغْفَارِ، فَسُرْعَانَ مَا يَرْجِعُ إِلَى رَبِّهِ وَيَأْوِي إِلَى رَحْمَتِهِ، فَرَاراً مِنْ شَيْطَانِهِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].

 

عِبَادَ اللهِ، اعْلَمُوا أَنَّ مَنْ خَاضَ فِي بَحْرِ المَعَاصِي وَالآَثَامِ، وَاسْتَمْرَأَ المُنْكَرَاتِ، وَتَعَاطَى المُحَرَّمَاتِ، وَأَدْمَنَهَا، لَا يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ، فَالخَائِفُونَ مِنَ اللهِ لَا يُصِرُّونَ عَلىَ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَيَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، لَيَعْجَبُ أَشَدَّ العَجَبِ مِنْ ذَهَابِ الخَشْيَةِ وَالرَّهْبَةِ، فَكَمْ مِنْ مُحَرَّمَاتٍ قَدْ هُتِكَتْ!! وَمَعَاصٍ قَدْ ارْتُكِبَتْ!! أَمَا فَكَّرَ أَصْحَابُهَا فِي سُرْعَةِ تَوْبَةٍ، أو عَاجِلِ أَوْبَةٍ.

 

 عِبَادَ اللهِ، أوَ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ تَعَاطَى الزِّنَا وَاسْتَمْرَأَهُ؟! أَوَ يُعَدُّ مِنِ الخِائِفِينَ مَنْ اسْتَهَانَ بِالمُحَرَّمَاتِ وَأَهْمَلَ العِبَادَاتِ؟!، وَفَرَّطَ فِي الجَمْعِ وَالجَمَاعَاتِ؟! أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ؟! أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ اسْتَبَدَّ وَظَلَمَ، وَطَغَى وَاسْتَكْبَرَ؟!

 

 أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنِ المُنْكَرِ؟! أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ تَعَاطَى المُسْكِرَاتِ وَالمُخَدِّرَاتِ؟! أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ أَكَلَ الرِّبَا أَوْ أَطْعَمَهُ غَيْرَهُ؟! أوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ رَشَا وَارْتَشَى، وَأَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ؟!

 

أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ سَلَبَ النَّاسَ حُقُوقَهمْ، وَجَحَدَ أَمْوَالَهُمْ وَلَمْ يُسَدِّدْ دِيوُنَهمْ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ؟! أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ هَتَكَ الأَعْرَاضَ، وَسَعَى بِالنَّمِيمَةِ لِلْإِفْسَادِ؟!

 

أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، أَوْ أَتَى الكُهَّانَ وَالعَرَّافِينَ؟! أَوْ يُعَدُّ مِنَ الخَائِفِينَ مَنْ قَطَعَ الأَرْحَامَ، أَوْ أَكَلَ أَمْوَالَ الخَدَمِ وَالعُمَّالِ، أَوْ اسْتَغَلَّ وِلَايَتَهُ لِأَكْلِ أَمْوالِ أُمِّهِ وَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ.

 

 عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الخَائِفَ مِنَ اللهِ، إِذَا تَعَاطَى شيَئْاً مِمَّا سَبَقَ، ذَكَرَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ مِن مَعْصِيَتِهِ. قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135]، فَبِهَذِهِ الإِنَابَةِ، وَسُرْعَةِ العَوْدَةِ صَحَّتِ التَّوْبَةُ وَالأَوْبَةُ، فَانْتَقَلَ صَاحِبُهَا، مِنْ مُؤَخِّرَةِ القَافِلَةِ، وَذَيْلِ القَائِمَةِ إِلَى أَعْلَى المَقَامَاتِ، وَأَرْفَعِ الدَّرَجَاتِ، قَالَ تَعَالَى: (أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) [آل عمران: 136].

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

 الخطبة الثانية:

 

 الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ وَاِمْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شريكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشَهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدَهُ وَرَسُولُهُ، وَخَلِيلَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً.

 

أمَّا بَعْدُ...... فَاِتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَاِسْتَمْسِكُوا مِنَ الْإِسْلَامِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَاِعْلَمُوا أَنَّ أَجْسَادَكُمْ عَلَى النَّارِ لَا تَقْوَى.

 

 عِبَادَ اللهِ، اعْلَمُوا أَنَّ لِلْخَوْفِ مِنَ اللهَ، ثِمَارًا عَظِيمَةً، وَآَثَارًا حَمِيدَةً، فَكَمْ فَكَّ الخَوْفُ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- مِنْ أَسِيرِ شَهْوَةٍ مَلَكَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهُ، وَأَبْعَدَتْهُ عَنْ رَبِّهِ!، وَكَمْ أَطْلَقَ مِنْ سَجِينِ لَذَّاتٍ أَطْبَقَتْ عَلَيْهِ سُرَادِقَهَا! وَكَمْ أَطْفَأَ مِنْ نَارِ حَسَدٍ وَحِقْدٍ وَغَيظٍ!، وَكَمْ رَدَّ عَاقًّا إِلَى وَالِدَيْهِ! وَكَمْ مَنَعَ مِنْ إِسَاءَاتٍ وَتَعَدٍ وَظُلْمٍ!، وَكَمْ فَكَّ مِنْ رَقَبَةِ عَبْدٍ دُيُونًا وَمُسْتَحقاتٍ! وَكَمْ مِنْ زَانِيَةٍ بِالخَوْفِ عَفَّتْ، وَغَانِيَةٍ تَنَسَّكَتْ! وَكَمْ أَلَانَ مِنْ قُلُوبٍ قَاسِيَةٍ، فَأَذْهَبَ عَنْهَا سُحُبَ الغَفْلَةِ، فَأَمْطَرَتْ دُمُوعَ الخَشْيَةِ! وَكَمْ مِنْ مُذْنِبٍ مَا ظُنَّ أَنْ يَتُوبَ، وَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ، فَجَاءَهُ الخَوْفُ مِنَ اللهِ، فَتَابَ وَأَنَابَ.

 

 عِبَادَ اللهِ، إَنَّ الخَوْفَ مِنَ اللهِ هُوَ النَّارُ المُحْرِقَةُ لِلْشَهَوَاتِ المُحَرَّمَاتِ، فَبِالخَوْفِ يَحْصلُ الأَمْنُ فِي الآَخِرَةِ، جَزَاءً وِفَاقاً. وَلِذَا كَانَ مَنْهَجُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ الْخَوْفُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الزمر: 13].

 

 وَفِي الحَدِيثِ القُدُسِي الحَسَنِ قَالَ اللهُ -تَعَالَى-: "وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَمْنَينِ وَلَا خَوْفَيْنِ إِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا؛ أَخَفْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ عِبَادِي، وَإِنْ هُوَ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا؛ أَمَّنْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ عِبَادِي".

 

دَخَلَ النَّبِيَ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-، عَلَى شَابٍ وَهُوَ فِي المَوْتِ، فَقَالَ: "كَيْفَ تَجِدُكَ؟" فَقَالَ: أَرْجُو اللهَ، يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ، -صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ-،: "لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُؤْمِن، فِي مِثْلِ هَذَا المَوْطِنِ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ مَا يَرْجُو، وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَاِبْنُ مَاجَه، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ).

 

 إِنَّ الخَائِفِينَ مِنَ اللهِ، لَهُمْ الأَمْنُ يَومَ القِيَامَةِ، وَلَهُمْ الجَزَاءُ العَظِيمُ، وَالثَّوَابُ الجَزِيلُ؛ وَالنَّعِيمُ المُقِيمُ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40- 41]، فَكَتَبَ اللهُ لَهُمْ بِهَذَا الجِهَادِ الشَّاقِ لِلْنَفْسِ، وَالخَوْفِ العَظِيمِ، الجَنَّةَ مَثَابَةً وَمَأْوَى؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ عِظَمَ هَذَا الجِهَادِ، وَمَا فِيهِ مِنْ عَظِيمِ البَّلَاءِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) [إبراهيم: 14]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [الأنبياء: 102- 103].

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ. الَّلهُمَّ اِحْمِ بِلَادَنَا وَسَائِرَ بِلَادِ الإِسْلَامِ مِنَ الفِتَنِ، وَالمِحَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، الَّلهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا، لِمَا تُحِبُ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، الَّلهُمَّ اجْعَلْهُ سِلْمًا لِأْوْلِيَائِكَ، حَرْباً عَلَى أَعْدَائِكَ، الَّلهُم ارْفَعْ رَايَةَ السُّنَّةِ، وَأَقْمَعْ رَايَةَ البِدْعَةِ، الَّلهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَ أَهْلِ الإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

 

 "اللهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ".

 

اللهُمَّ أَكْثِرْ أَمْوَالَ مَنْ حَضَرَ، وَأَوْلَادَهُمْ، وَأَطِلْ عَلَى الْخَيْرِ أَعْمَارَهُمْ، وَأَدْخِلْهُمُ الْجَنَّةَ. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

 

 وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

 

المرفقات

من الله5

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات