عناصر الخطبة
1/سيطرة الخوف من المستقبل على عقول بعض الناس 2/نماذج من التفكير السيء بالمستقبل 4/علاقة الخوف من المستقبل بالإيمان 5/علاج ظاهرة الخوف من المستقبلاقتباس
وتزدادُ مصيبةُ الخائفِ على مستقبلهِ حين يسعَى لرزقِ اللهِ بمعصيتهِ، فيكتسبُ مالاً محرماً ليربحَ ربحاً عاجلاً، بحجةِ تأمينهِ مستقبلَه، فتجِدُه يظلمُ ويسرقُ ويبغِي ويختلسُ ويغشُ، وكم ممن امتنعَ عن بعضِ الواجباتِ أو أخّرَها، وحجتهُ الواهيةُ خوفُه من نقصِ رزقهِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحمدُ لِلهِ، نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ تَسْلِيْماً كَثِيْراً.
أَمَّا بَعْدُ: فإن أكثرَ ما يَشغلُ بَالَ الناسَ هو خوفهُم على مستقبلِهم، فما أهمَّهم أمرٌ أكثرُ من تأمينِه، والعملِ على تحسينِه، حتى غدا الخوفُ مما سيكونُ، وما ستجرُه الأيامُ معها، ملازماً للبعضِ في تفكيرِهِ وحديثِهِ، وفي عامةِ مجالسهِ، فتراهُ يفكرُ في غدٍ لا يُعلمُ، ومستقبلٍ مجهولٍ، تراهُ يَفترضُ فيه أسوأَ الاحتمالاتِ، وأبعدَ التوقعاتِ!.
يفكرُ في كلِ شيءٍ سيءٍ، يفكرُ في غلاءِ المعيشةِ، وما يكونُ عليه حالُه بعدَ تقاعدِهِ، بل ربما تجدُهُ ينشغلُ بحالِ أبنائهِ بعدَ تخرجِهم، وفي زواجِ بناتهِ وهن لم يبلغنَ بعدُ، ويتخيلُ أنهن ربما يتطلقنَ، أو يتأيمنَ بعدَ أزواجِهِن.
وحتى المقبِلونَ على الزواجِ ذكوراً وإناثاً تجدُهم يترددونَ، خوفاً من الفشلِ في زواجِهم، وعندَ بعضِهم تشاؤمٌ ونفورٌ من زواجهِ من ابنةِ عمهِ وخالهِ؛ لأنه مستقرٌ في أذهانِ بعضِهم أنه زواجٌ فاشلٌ، وسيدعو للقطيعةِ، زعمُوا.
يفكرُ ذلك المسكينُ الصحيحُ لو دهمَهُ مرضٌ خطيرٌ، يفكرُ في اليومِ الذي يُتوفَى فيهِ رفيقُه، وكيفَ سيُصبحُ وحيداً بعدَه، ومن المتشائمينَ من يتوهمُ عقوقَ أولادِه له إذا كبِرَ، ولكنّ النتيجةَ الواقعيةَ أن أولادَه يَكبرونَ ويتزوجونَ ويستقلونَ، وييسرُ اللهُ أمورَهم، وهو لا زالَ في همومِه، ثم يكتشفُ أنه بقيَ لوحدِه في بيتِه هو وزوجتُه.
وكلُ هذهِ التفكيراتِ علامةٌ على ضعفِ الإيمانِ، وعلى الجهلِ وسوءِ الظنِ باللهِ -عزَ وجلَ-، فقد سمى اللهُ هذا الخوفَ من المستقبلِ جاهليةً، يقولُ اللهُ -سبحانَهُ-: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)[آل عمران: 154].
فما دامَ أن الأمرَ كلَه للهِ فلتظنَّ باللهِ الذي خلقَكَ ورزقَكَ ورَزَقَ أولادَكَ أنه سيكفِيكَ ما أهمكَ، وسيؤمنُ لكَ مستقبلَك، وتذكرْ أن دنياكَ عابرةٌ، فـ"إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرِ المَسَاءَ"(صحيح البخاري).
واعلمْ أن خوفَك على مستقبلِك هو من عملِ الشيطانِ وكيدِه، لا لشيءٍ إلا ليفسدَ على المرءِ يومَه وحياتَه، فلا يكونُ بيومِهِ انتفعَ، ولا بغدِه اقتنعَ، روَى الترمذيُ وحسنَهُ، أن رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "إِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً بِابْنِ آدَمَ وَلِلْمَلَكِ لَمَّةً، فَأَمَّا لَمَّةُ الشَّيْطَانِ فَإِيعَادٌ بِالشَّرِّ، وَتَكْذِيبٌ بِالحَقِّ، وَأَمَّا لَمَّةُ الْمَلَكِ فَإِيعَادٌ بِالخَيْرِ، وَتَصْدِيقٌ بِالحَقِّ، فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مِنَ اللهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ الأُخْرَى فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 268]"(سنن الترمذي).
فالشيطانُ إذا قرُبَ من ابنِ آدمَ وعدَه بالشرِ: ستَفتقرُ، ستَمرضُ، ستَموتُ، سيكونُ لك وسيكونُ!؛ فيجعلُه يُكذبُ بالحقِ الذي هوَ الإيمانُ بالقضاءِ والقدرِ.
وتزدادُ مصيبةُ الخائفِ على مستقبلهِ حين يسعَى لرزقِ اللهِ بمعصيتهِ، فيكتسبُ مالاً محرماً ليربحَ ربحاً عاجلاً، بحجةِ تأمينهِ مستقبلَه، فتجِدُه يظلمُ ويسرقُ ويبغِي ويختلسُ ويغشُ، وكم ممن امتنعَ عن بعضِ الواجباتِ أو أخّرَها، وحجتهُ الواهيةُ خوفُه من نقصِ رزقهِ، كمن يؤخرُ صلاتَه لأجلِ بيعٍ، أو يمتنعُ عن الصدقةِ بحجةِ خوفِ الفقرِ، وربُنا يقولُ: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)[البقرة: 268].
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ كثيرًا، والصلاةُ والسلامُ على مَن كان سراجاً منيراً.
أما بعدُ: فيا أيُها الخائفُ على مستقبلهِ ومستقبلِ أولادهِ، أيُها الأبُ المكلومُ بعقوقِ بعضِ ولدِه: أتريدُ علاجاً وسبباً يَصلحُ به حالُكَ وحالُ من عقَّكَ وأشقاكَ في دنياكَ؟
أيُها المبتلَى بدَينٍ أو فقرٍ أطارَ عنه بالليلِ نومَهُ، وبرَّحَ في النهارِ همَّهُ: ألا أدلُكَ على ما يُزيلُ همَكَ ويجعلُكَ تنامُ قريرَ العينِ، مرتاحَ البالِ؟.
أيُها المريضُ الذي أمضَّه الألمُ وأضناهُ المللُ: خُذها وصفةً من طبِ القرآنِ والسنةِ على ضوءِ فهمِ الذينَ يستنبطونَهُ، إن الجوابَ الصوابَ لزوالِ هذهِ الصعابِ هو بالتوكلِ على اللهِ مع فعلِ الأسبابِ؛ (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطلاق: 3].
والمتوكلونَ أقوى الخلقِ إيماناً، وأصلبُهم ثباتاً، وأرسخُهم يقيناً، وهم أحباءُ اللهِ، وأهلُ نصرتهِ وتأييدِه: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159]، والمتوكلونَ معصومونَ من تسلطِ الشيطانِ؛ (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)[النحل: 99].
فاللهم اجعلنا ممن توكلَ عليكَ فكفيتَه، واستهداكَ فهديتَه، اللَّهُمَّ أعْطِنَا من الخَيْرِ فوْقَ ما نَرْجُو واصْرِفْ عَنَّا من السُّوْءِ فَوْقَ ما نَحْذَر، اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا كَدَّا، اللهمّ أعطيتَنا الإسلامَ من غير ِأن نسألَكَ، فلا تَحرِمْنا الجنّةَ ونحنُ نَسألكَ، اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمونَ، اللهم يسّرْ أرزاقَنا وشؤونَنا واقضِ ديونَنا، وفرّج همومَنا، اللَّهُمُّ اِحْفَظْ بِلَادَنَا وبلادَ المسلمينَ بِالْأَمْنِ وَالْإيمَانِ وبالسَّلامَةِ مِنَ الآفَاتِ ومِنَ المُحْدَثَاتِ، اللَّهُمَّ احْفَظْ مَلِكَنَا ووَلِيَّ عَهْدِهِ وَسَدِّدْهُم وَارْزُقْهُم بِطَانَةً صَالِحَةً نَاصِحَةً، اللهم يا ذا النعمِ التي لا تُحصَى عددًا نسألكَ أن تصليَ وتسلمَ على محمدٍ أبدًا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم