عناصر الخطبة
1/ابتلاء الأمة بالفتن 2/عظم الفتنة بالخوارج وتحذير النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته منهم 3/المقصود بالخوارج وبعض صفاتهم 4/شدة عداوة الخوارج للأمة 5/بعض ما يجب على المسلمين تجاه الخوارجاقتباس
لقد ابتليتِ الأمةُ الإسلاميةُ عبرَ تاريخها الطويلِ بفتن عظيمة، ومحن وكروب، وكان من أشدها ضراوةً وفتكاً بالمسلمين: تلك الفتنة الكبرى التي حذر منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصفها وصفا جلياً، وبينها بيانا شافيا، كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في عدد كبير من الأحاديث الصريحة الصحيحة؛ إنها فتنة الخوارج. الخوارج الذين...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فتح بابه للطالبين، وأظهر غناه للراغبين، وبسط يده للسائلين؛ قصَدَتْه الخلائق بحاجاتها فقضاها، وتوجهت له القلوب بلهفاتها فهداها، وضجت إليه أصوات ذوي الحاجات فسمعها، ووثقت بعفوه هفوات المذنبين فوسعها، وطمعت بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها، بابه الكريم مناخ الآمال، ومحط الأوزار، لا ملجأ للعباد إلا إليه، ولا معتمد إلا عليه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله -تعالى- به من الضلالة، وبصر به من الجهالة، وكثر به بعد القلة، وأغنى به بعد العيلة، ولمّ به بعد الشتات، وامّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فإنها أعظم الوصايا، وبها تكمل العبادات، وتزكو الأعمال والطاعات، وإنما (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27].
أيها المسلمون: أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ قَالَ: "دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا (يعني فتفرقنا) إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الصَّلَاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ: الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ" قال الراوي: "فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ، وَقَالَ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي" في هذا الحديث العظيم إخبارٌ من النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يكون في أمتهِ آخرَ الزمان من الفتنِ العظيمةِ والمحنِ البلاءِ الكبير.
ولقد ابتليتِ الأمةُ الإسلاميةُ عبرَ تاريخها الطويلِ بفتن عظيمة، ومحن وكروب، وكان من أشدها ضراوةً وفتكاً بالمسلمين: تلك الفتنة الكبرى التي حذر منها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ووصفها وصفا جلياً، وبينها بيانا شافيا، كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في عدد كبير من الأحاديث الصريحة الصحيحة؛ إنها فتنة الخوارج.
الخوارج الذين حذر منهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ووصفهم أبين الوصف، وقال فيهم ما لم يَقُلْهُ في طائفة سواهم، وحذر منهم ما لم يحذر من غيرهم، فمَن هؤلاء الخوارج؟ وما صفاتهم؟ وما حكم الله ورسوله فيهم؟
هذا ما نستعين الله في بيانه اليوم فنسأله العون والتسديد.
يطلق مصطلح الخوارج على من يكفرون المسلمين بالكبائر، ثم يستبيحون دمائهم وأموالهم ونساءهم، ويخرجون على ولاةِ أمورِ المسلمينَ بالسلاح، فهم شرُّ الخلق والخليقة، وفتنتهم من أعظم الفتن؛ لأنهم يُلبسونها لباس الدينِ والجهادِ وإنكارِ المنكرِ، والغيرةِ على المحارم، فتميل إليهم قلوبُ حُدثاءِ الأسنان وسفهاءُ الأحلام فيوردونهم المهالك، فكم جرُّوا على أمة الإسلامِ من المصائبِ والبلايا، فأفسدوا الدين والدنيا، وخربوا البلاد وروعوا العباد، وخالفوا عقيدة أهل السنة والجماعة، وانتهكوا حرمات المسلمين بأدنى الشبه، بل وبلا شبه وإنما بالهوى والهوى فقط؛ أخرج البخاريُ ومسلمُ في صحيحيهما من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ -رضي الله عنه- قَالَ: "بَيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ: (رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاشِزُ الْجَبْهَةِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ مُشَمَّرُ الْإِزَارِ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: اعْدِلْ فإنك لم تعدل! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِل" فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَتَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنْ النَّاسِ" قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي نَعَتَ".
وعن علي -رضي الله عنه- قال: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلِهُمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(متفق عليه)، وفي حديث آخر قال: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ".
أيها المسلمون: كما رأى أكثركم وسمع فإن فتنةَ الخوارجِ من أعظمِ الفتنِ، ووجودَهم في الأمة خطرُ فتَّاكٌ، وشرٌ وبيلٌ، وكارثةٌ عظمى، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"(متفق عليه)، وقد بوب الإمام مسلم في صحيحه: "بابٌ التحريض على قتل الخوارج"، وذكر فيه الأحاديث السابقة، وذكر فيها قول عليٍ -رضي الله عنه- لأصحابه الذين قاتلوا معه الخوارج في معركة النهروان، قال لهم: "لولا أن تبطروا (أي تغتروا وتتكلوا) لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد -صلى الله عليه وسلم"، قال الراوي: قلت: آنت سمعته من محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة" ثلاثاً.
وفي قول الله -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الكهف: 103-105] قال الحافظ ابن كثير: "روى الضحاك وغيره عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنهم "هم الحرورية" أي الخوارج، ثم قال: "ومعنى هذا أن علي رضي الله عنه- يرى: أن هذه الآية الكريمة تشمل الخوارج، كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم" انتهى كلامه.
وقال القرطبي: "ورُوي أن ابن الكوَّاءِ وكان من الخوارج سأل عليَ بن أبي طالب -رضي الله عنه- عن الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا" فقال: أنت وأصحابُك".
أيها الأحبة: ومن أشهر صفات الخوارج: الوقاحة والجرأة على علماء الأمة وسادتها، واحتقارُهم وقلةُ احترامِهم، بدأً بالجرأة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كما قال ذلك الرجل: "يا محمد اعدل"، وقال: "يا رسول الله، اتق الله" ثم آلت بهم الوقاحة والجرأةُ إلى تكفير المسلمين بأدنى شبهة، ثم استباحة دماءهم وأموالهم وأعراضهم، كما فعلوا في قتالهم لأكابر الصحابة وساداتهم، فقد كفَّروا خيرةَ الصحابة -رضي الله عنهم-، واستباحوا دماءَهم، فهم الذين تجرؤا على قتل الخليفتين الراشدين الثالث والرابع، وهما عثمانُ بنُ عفانٍ وعليُ بنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنهما- خيرةُ أصحابِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد الشيخين وأعظمُ ساداتِ هذه الأمة، كلاهما رضي الله عنهما قُتِلَ بأيدي هؤلاء الخوارج المجرمين، فأيُ انحرافٍ أشدَ من هذا الانحراف، وأي خطرٍ على الإسلام والمسلمين أشدُ من خطرِ هؤلاءِ الخوارجِ البغاة.
وانظروا -أيها المسلمون- إلى خوارج هذا الزمان وما يرتكبونه من الجرائم والإفساد في الأرض، فقد دخل هؤلاء الخوارج إلى بلاد الشام، وكان الجهاد الإسلامي قائمٌ على أصوله، والمجاهدون في سبيل الله يجتاحون معاقل الرافضة والنصيرية، ويلحقون بهم أكبر الهزائم والنكبات، فما إن دخلت هذه الفرقةُ المارقةُ بلاد الشام إلا وأفسدت الجهاد على المجاهدين، وفرقت صفوفهم، وأصبحت خنجرا مسموما تطعن في ظهور المسلمين، وتمنعهم من مواصلة انتصاراتهم، وأمست شراً عليهم من النصيرية والرافضة، فقد كفَّروا كل من لم يبايع خليفتهم المزعوم المتخفي، واستحلوا دماء إخوانهم المجاهدين، وقتلوا أعدادا كبيرة منهم غدراً بعد ما أمّنوهم، ثم ساحوا يعيثون في الأرض فساداً، لا غرضَ لأسلحتِهم إلا صُدورَ المُسلمين، ولا هدفَ لمُخطَّطاتهم إلا استباحة البلادَ والعباد، حتى تحوَّل معنى التحرير عند بعضِهم إلى الطعن في الظهر ومهاجمة ديار إخوانهم المُسلمين التي بها مساجِدُهم وبيوتُهم وأسرهم وأطفالهم، حين يتركها الرجال للقتال في أماكن أخرى، وصارَ القتلُ عند الكثيرين منهم تسليةً ومُتعةً، وتفاخراً واستعراضا، نحراً وسلخاً وحرقاً، وألبَسُوا جريمةَ انتِهاك الأعراض لباسَ السَّبيِ.
يا لله العجب ومن يسبون؟ يسبون بيوت إخوانهم المجاهدين! نساءٌ مُسلماتٌ! قواعد البيوت! هوَسٌ وجنونٌ محض! ثم يستبيحُون ذلك باسمِ الله وشرعِه! بل ويصدرون في ذلك فتاوى شرعية! زعموا!
تالله لقد أساؤوا للدين إساءة عجزَ الأعداء أن يبلُغوا معشارها، وارتكبوا أعمالاً إجرامية فضيعة، تفوقُ ما عمِلَته كثير من الجيوشٌ المُتوحِّشةٌ.
يستحلُّون الدمَ الحرامَ بأدنى شبهة، ويسفكون الدم الحرام بأبشَع قِتلة، ويسلُبون المالَ بأدنَى حِيلة، ويُبيحُون انتِهاكَ العِرض بأوهَى سبب، في أحوالٍ تجلَّى معها استِحقاقُهم وصفَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هم شرُّ الخليقة".
والحق -يا عباد الله- إنما هم شِرذمةٌ من الجهال الأغرار، زالَ العقل من رؤوسهم، وتلاشى الدينُ من نفوسِهم، واختفت الإنسانيةُ من قواميسهم، أقربُ وأصدقُ ما يقبلهُ العقل فيهم أنهم صنيعة مُخابراتُ العدو، وجدَوا في خواءِ عقولِهم وانطماس بصيرتهم بُغيتَهم، فجندوهم ليخرجوا على أهلهم بالسلاح، وأمّروا عليهم شياطين في هيئة شُيوخٍ يُفتونَهم ليس بجهلٍ فحسب؛ بل وبتضليلٍ مُتعمَّد. فهلكوا وأهلكوا، وما يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه، ينطبق عليهم بحق قول بعض السلف: "ألا رب مهين لنفسه وهو يزعم أنه لها مكرم، ومذل لنفسه وهو يزعم أنه لها معز، وكفى بالمرء جهلا أن يكون مع عدوه على نفسه، يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه عدوه".
لقد أفسَدوا على المظلومين مطالِبَهم العادِلة في العيش الكريم، وعطلوا تحرُّر المظلومين ممن ظلمهم، وخدموا العدو الذي جاءوا يحاربونه، وخذلوا الصديق الذي جاؤوا ينصرونه.
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا)[الكهف: 103-106].
نسأل الله العظيم بعزته وقدرته أن ينتقم من أعداء الملة والدين، وأن يهدي ضال المسلمين، وأن يعصم شباب المسلمين من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله خلق فسوى، وقدر فهدى، بيده مقاليد الأمور يضل من يشاء، ويهدي من يشاء. لا إله إلا هو له الحكم وإليه المصير.
أما بعد: فاعلموا -عباد الله- أن هؤلاء الخوارج اعتبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من جملة أعداء الدين وتوعدهم لو أدركهم أن يقتلهم قتل عاد وثمود.
وعليه فلا يجوز لمسلم أن يتولى أعداء الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ولو رفعوا راية الجهاد في سبيل الله، وادعوا نصرة دين الله فإنهم أول من يهدم أركان الدين، ويستبيح دماء، وأعراض وأموال المسلمين، وليت شعري أيُّ جهادِ يدَّعون! وأي دين ينصرون! وهم أهلُ الجهلِ والحمقِ والشذوذِ عن جماعةِ المسلمين، وهم المستحلون لدماء المسلمين، ولا أمان للمسلمين في وجودهم.
إن أعظم صفات المجاهدين في سبيل الله: أنهم أذلةٌ على المؤمنين أعزةٌ على الكافرين، فأين الخوارج من هذه الصفة، وقد رأيناهم ينحرون إخوانهم المسلمين، ويقطعون رقابهم، ويحرقونهم أحياء، ويفرقون جماعتهم، ويخلخلون صفوفهم، ويمكنون لأعداء المسلمين؛ كما قال عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان" فكيف بعد لك يَظن ظان أن هؤلاء الخوارج مجاهدون في سبيل الله وأنصارٌ لدين الله؟!
لا والله! ما نصروا دين الله، ولا انتصر دين الله بهؤلاء الحمقى، بل هم حجر عثرة وحربة شرٍّ، وبابُ فتنةٍ وفساد، وإن هذا الفكرَ الضالَّ، وهذه الفئةَ المارقةَ خطرٌ عظيم على أمنِ ووحدة المسلمينَ، ولهذا فإن مواجهةَ هذا الفكرِ الضالِ ومحاصرتَه، والتصدي له، وتوعيةَ أبناءِ المسلمين بخطر هذا الفكر الدخيل، وبذلَ كافةِ الوسائلِ للقضاءِ عليه من أعظم الواجبات على الأمة جمعاء.
نسأل أن يحمينا وبلاد المسلمين من الفتن، وأن يرد ضال المسلمين إلى الحق والصواب، أبن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به.
البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان، كما تدين تدان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم