الخطيب و علم الخطابة

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

اقتباس

الخطيب و علم الخطابة

 

 

د/ ياسر حمدي –استاذ الدراسات الإنسانية

 

من المناسب هنا، ونحن نكتب عن الخطابة، أن نعرف بها؛ حتي يكون القارئ على بينة من أمرها، فإذا قرأ كان مدلول الكلمة واضحا جليا، إذ أن فهم الشيء فرع عن تصوره.

فهاك البيان :

 

التعريف اللغوي :

الخطابة : مصدر من الفعل خطب: يقال: خطب يخطب خطبة: بضم الخاء وخِطبة بكسرها، فإن كانت بالضم فهي من خطب على المنبر خطبة، وقائلها خطيب وجمعه خطباء، وإن كانت بالكسر فهي من خطب الرجل المرأة فهو خاطب وجمعه خُطَّاب.

الخطبة : قال الأزهري : … وذهب أبو إسحاق إلى أن الخطبة عند العرب هي: «الكلام المنثور المسجوع» وقال الفراء: الخطبة مثل الرسالة التي لها أول وآخر.

الخطيب : قال أبو إسحاق: …….. ورجل خطيب أي حسن الخطبة.

يقال: فلان خطيب القوم، إذا كان هو المتكلم عنهم.

 

التعريف الاصطلاحي :

للعلماء عدة تعريفات اصطلاحية للخطابة منها:

أ- تعريف أرسطو : هي قوة تتكلف الإقناع الممكن، في كل واحد من الأمور المفردة.

هنا تري الخطابة قوة صانعة للإقناع الذي وصفه أرسطو بالممكن، ليشير إلى أن صنعة الخطابة تعد النفوس لعمل الإقناع، وإن لم تبلغ غايتها الكبرى شأن الصناعات والفنون الأخرى التي تعد النفوس لعمل معين وإن تفاوتت درجات الناس في الإقناع.

وقول أرسطو: «في كل واحد من الأمور المفردة» يشير إلى أن الخطابة تتناول كل الفنون وتدخل في كل شيء صغيرا كان أو كبيرا، معقولا أو محسوسا، مما يلزم الخطيب أن يكون ملمًّا بالعلوم والفنون ما استطاع، وأن يسعى دائما إلى أن يزداد في كل يوم علما.

ب- تعريف ابن رشد : «هي القدرة على النظر في كل ما يوصل إلى الإقناع، في أي مسألة من المسائل».

 

والمدقق في هذين التعريفين يجدهما يدوران حول الخطيب صاحب الملكة النفسانية القادرة علي الإقناع والتأثير في المستمعين، كما يجدهما أدخلا في التعريف أفراداً ليسوا من المعرف، فكون الخطابة قدرة على النظر في كل ما يوصل إلى الإقناع في مسألة من المسائل، أو أنها القوة التي تتكلف الإقناع في كل واحد من الأشياء المفردة يعني أن كل من يأتي بإقناع في قضية من القضايا صار خطيبا، وما قاله خطبة، فإذا رأيت مدرسا مقنعا في شرحه، أو محاضرا مقنعا في محاضراته، أو كاتبا مقنعا في كتابته، أو كتابا مقنعا في بابه وفائدته، كان لك أن تعتبر هؤلاء جميعا خطباء وما قالوه خطبة وهذا ما لم يقل به أحد.

ومن ثم فإن هذين التعريفين ليس أي منهما تعريفا منطقيا، إذ التعريف المنطقي يكون جامعا مانعا.

 

ت- عرفها الدكتور أحمد الحوفي بأنها : فن مشافهة الجمهور وإقناعه واستمالته. ولكن هذا التعريف يصدق على علم الخطابة نفسه.

 

ث- تعريف العلامة الشيخ محمد أبو زهرة : هي صفة راسخة في نفس المتكلم، يقتدر بها على التصرف في فنون القول، لمحاولة التأثير في نفوس السامعين وحملهم على ما يراد منهم بترغيبهم وإقناعهم.

 

ج‍- وبعد هذا العرض لتعريفات العلماء نستطيع أن نعرف الخطابة بأنها: «الكلام المنثور الذي يشافه به الجمهور قصد الاستمالة والإقناع والتأثير»، فقولنا: الكلام المنثور يخرج به الشعر، لأنه لا يُعد خطابة وإن قصد به التأثير، وخرج بالمشافهة كل كلام مكتوب وإن قصد به الاستمالة.

 

تعريف علم الخطابة

علم الخطابة، مركب إضافي عرفنا طرفه الثاني «الخطابة» وبقي أن نعرف الطرف الأول «علم»، ثم نعرفهما على اعتبارهما مركبا إضافيا فنقول وبالله التوفيق.

العلم في اللغة : «مصدر يرادف الفهم والمعرفة، كما يرادف الجزم في رأي».

 

وهو في اصطلاح علماء التدوين، يطلق على المسائل المضبوطة بجهة واحدة- كالنحو والصرف، سواء أكانت وحدة الموضوع أو وحدة الغاية، وسواء أكانت تلك المسألة تصورات كعلم البديع، أم تصديقات، وسواء أكانت تلك التصديقات قضايا كلية- وهو الغالب- أم جزئية أم شخصية كعلم الحديث رواية.

 

وبعد هذا نصل إلى أن علم الخطابة هو: «فن ذو قواعد وأصول، يعين ذا الموهبة الخطابية على مشافهة الجماهير، وإقناعها والتأثير فيها، والسيطرة على عواطفها».

 

ولنا وقفة مع هذا التعريف :

أ- علم الخطابة فن من الفنون الهامة للجماعة البشرية، نشأ مع الإنسان، وتطور عبر العصور، واستخدمته الأمم على اختلاف ألسنتها وأوطانها، في حربها وفي سلمها، وتعتمد عليه الدول اليوم في الدعاية لأهدافها، وفي غزو غيرها بأفكارها ومبادئها.

ومن ثم نعرف أن الخطابة ليست عملية عشوائية تتفق لأي إنسان، وإنما هي علم وفن له أصول وقواعد من الدراسة والتجربة، وقراءة أحوال الأمم والشعوب، والجماعات، وما يشكل عقلها وثقافتها، وما يستهويها وما ينفرها، ومعرفة البيئة التي ينطلق فيها الخطيب، إذ الخطبة بنت البيئة منها تنطلق، وفيها تعمل للإصلاح والتغيير، لذلك لابد من إدراك هذا المفهوم جيدا.

 

ب- وهو علم يعين ذا الموهبة الخطابية على مشافهة الجمهور لإقناعه، ومن ثم يتكون الموقف الخطابي من عدة عناصر:

(1) الخطيب... وبدونه لا يكون موقف خطابي، فهو الأساس فيه.

 

(2) الجمهور… وبدونه أيضا لا يكون موقف خطابي، إذ أنه لو وجد شخص يشافهه الخطيب فذلك ليس من الخطابة في شيء، إنما هو محادثة أو حوار لا يشترط فيه ما يشترط في الموقف الخطابي من الانفعال، أو الإلقاء بصيغة معينة، أو وقفة معينة بل يكفي الكلام العادي في هذا الموقف.

 

(3) المشافهة والإلقاء : يستلزم الموقف الخطابي أن يكون الخطيب ساعة المشافهة أو الإلقاء على هيئة معينة في ترتيب الأفكار، وفي عرضها متسلسلة وفي صوته وتوزيعه الهندسي من علو وانخفاض، ومن سؤال أو استفهام، ومن وعد أو وعيد، ومن استخدام الإشارة باليد لتأكيد بعض المعاني.

 

(4) إقناع الجماهير غرض علم الخطابة، وهو هدفها الذي تسعى إليه، ومن ثم على الخطيب الذي يحب نجاح موقفه الخطابي، أن يؤيد ما يقول بالبراهين القاطعة والأدلة الساطعة، حتى يقتنع المستمع بما يقوله، ولا يتحول الموقف الخطابي إلى صوت عال، وصراخ متتال، يصك آذان الناس، ولا يرون فيه وجه إقناع، فيفرون من الخطيب، نادمين على أوقاتهم التي بذلوها دون فائدة.

 

(5) الخطابة لابد فيها من السيطرة على العواطف واستمالة الجمهور والتأثير فيه. فإما أن تؤدي إلى تهدئة نفوس ثائرة، أو إثارة حماس ذوي النفوس الفاترة، فقد تكون الجماهير ثائرة بغير وعي فتحتاج إلى من يهدئ ثورتها بوعي، أو تكون نائمة في غفلة قاتلة، تحتاج فيها إلى من يحييها لتدرك نفسها، وتعرف مصيرها، وفي كلتا الحالتين يحتاج الموقف الخطابي إلى خطيب جيد يستطيع أن يملك القلوب بعبارته، ويسيطر على العواطف بحسن إلقائه وجميل بيانه، ومن ثم فإن الخطابة حين تخلو من العاطفة وإثارتها تصبح موضوعا إنشائيا جافا لا يأبه له المستمع ولا يتأثر به.

 

كم رأينا من خطباء موهوبين يستطيع الواحد منهم أن يبكي الجمهور في لحظة ويضحكه في الأخرى ببراعة فائقة، والقلوب في الحالتين متعلقة به، والأحداق ناظرة إليه.

ورأينا آخرين تخرج الكلمات من أفواههم ميتة لا روح فيها ولا حركة، ومن ثم لا أثر فيها على المستمع، حتى ماتت عواطف الناس في كثير من المواقف الخطابية.

 

ثانياً : ما يقابل الخطابة

يقابل الخطابة عدة فنون :

(1) البرهان: وهو القياس المؤلف من أقوال يقينية كأن نقول: الدولة الفلانية دولة حرة، لأنها تملك فأسها وتأكل من أرضها وبالتالي تملك قرارها.

والدولة الفلانية غير حرة، لأن طعامها من خارج أرضها وقرارها بيد غيرها.

وإنما كان هذا القياس برهاناً لأن العقل لا يتصور لأمة حرية إلا أن يكون طعامها من أرضها وقرارها بإرادتها.

(2) الجدل : وهو القياس المؤلف من أقول مشهورة مسلمة بين الناس، أو أقوال يسلمها المخاطب ولو لم تكن في نفسها صادقة، ومثال ما كان مؤلفا من أقوال مشهورة مسلمة بين الناس أن تشير إلى قوانين أو محاكم ترفع الأقوياء على المستضعفين درجة أو درجات وتقول:

هذه القوانين قبيحة الوضع، أو هذه المحاكم قبيحة الهيئة لأنها لا تقوم على أساس المساواة بين الناس، وهذا الاستدلال يرجع إلى أقوال عرفها الناس وتعاقدوا على صحتها، وهي أن عدم المساواة بين الناس ظلم، وأن قبح الظلم شديد.

ومثال القياس المؤلف من أقوال يسلمها المخاطب ولو لم تكن في نفسها صادقة أن تحاور من لا يعرف الحق والباطل، أو الضار والنافع، وإنما يعرف الجديد والقديم، فتقول له: الخمر غير لائقة لأن أحدث قانون وضع لها في الدول الغربية يمنع من تناولها، وهذا القياس يعتمد على قول يُسَلِّمُه مخاطبك الذي يدور مع الجديد أينما دار، وهو أن كل شيء يوضع له قانون جديد يمنع من تناوله فهو غير لائق.

ولو قلت الخمر غير لائقة لأن علماء الاجتماع في أمريكا قرروا أنها قذي في عين المدنية، وعثرة في مستقبل العمران، كان قياسك هذا من قبيل الخطابة.

(3) السفسطة : وهي القياس الذي لم تستوف أقواله شرائط الإنتاج، ومثاله أن يقول من في قلبه مرض:

إن نبذ آداب الدين تطور من تطورات العصر، وتطورات العصر لا تأتي مقاومتها بشيء.

وإنما كان هذا القياس من نوع السفسطة لأن التطورات التي لا تقاوم هي الناشئة عن سنن كونية ثابتة، أو التطورات التي يأتيها الناس برجاحة عقل، وسلامة ذوق.

أما التطورات الحادثة عن أهواء أو جهالة فهي التي تجيء الشرائع، وتؤلف الكتب، وتلقي الخطب، لمحاربتها وتطهير الأرض من أرجاسها، وإن لبَّسها الرؤساء ومن في الأرض جميعا.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات