اقتباس
احتكم إلى عقل سامعيك، ودع المخاطَب يُعْمِل فِكْرَه؛ فبدلًا من أن تُحدِّثه عن التدخين ومضاره حديثًا مجردًا ساعة أو ساعات، اضرب له مثلًا فقل: "لو رأيت سيارة قد فسد محركها فهو ينفث الدخان الكثيف، أكنت تجلس لتستنشقه! أم أنك تحاول الفرار منه؟... إذن فكيف تُدخل بإرادتك دخانًا إلى داخل صدرك، بل وتنفق على ذلك مالك؟!"، فإن فعلت ذلك -أيها الخطيب- فقد سلكت أقصر الطرق إلى عقله وقلبه؛ ذاك طريق يقال له: "ضرب الأمثال".
يطمح كل خطيب أن يصل إلى قلوب سامعيه فيسكن فيها، وأن يسبي عقول مخاطبيه فيستميلها نحوه، وأن يبتني لنفسه بيتًا في عمق وجدانهم، وأن يطوِّع ناصية الفصاحة والبلاغة، وأن يمتلك من أدوات الإقناع ومن أساليب التأثير ومن طرائق البيان والإيضاح والتفهيم أنجحها وأفلحها.
ووسائل تحقيق هذا الأمل العزيز كثيرة متكاتفة، ونحن نقدم لزملائنا من الخطباء اليوم واحدة من تلك الوسائل، وهي وسيلة معتمدة مجربة، يطلق عليها: "فن ضرب الأمثال"، وهي أداة خطيرة ووسيلة ناجحة للتأثير والتعليم والتقريب والتفهيم... إذا ما أُحسن استغلالها واستثمارها.
وإنني أقرر في ثقة أنه بقدر تمكن الخطيب من تلك الأداة وإتقانه لها، بقدر ما يكون مقنعًا ومؤثرًا في سامعيه.
وضرب الأمثال منهج قرآني ونبوي؛ فقد استخدمه القرآن واستخدمته السنة بغزارة، وإننا لو جمعنا الأمثال التي ضربها الله -عز وجل- للناس في كتابه لطال بنا المقام: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [الزمر: 27]، بل إننا لن نستطيع أن نجمع الأمثال التي ضربها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للأمة إلا بجهد جهيد؛ لكثرتها وتنوعها، وهذا عبد الله بن عمرو يقول: "حفظت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ألف مثل"([1]).
وما ذلك إلا لما لهذه الأداة الإقناعية من فوائد وأهمية بالغة، ومن تلك الفوائد:
(1) ضرب الأمثال أداة تعليمية وترغيبية ناجحة: وقد استخدمها نبي الله يحيى -عليه السلام- حين جمع الناس فقال لهم: "...وآمركم بالصدقة، ومثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه وقربوه ليضربوا عنقه فجعل يقول: هل لكم أن أفدي نفسي منكم، وجعل يعطي القليل والكثير حتى فدى نفسه.
وآمركم بذكر الله كثيرًا، ومثل ذكر الله كمثل رجل طلبه العدو سراعًا في أثره حتى أتى حصنًا حصينًا، فأحرز نفسه فيه، وكذلك العبد لا ينجو من الشيطان إلا بذكر الله..."([2]).
(2) تيسير الفهم على العقول: "وذلك أن المعاني الكلية تعرض للذهن مجملة مبهمة فيصعب عليه أن يحيط بها وينفذ فيها فيستخرج سرها، والمثل هو الذي يفصِّل إجمالها ويوضح إبهامها، فهو ميزان البلاغة وقسطاسها، ومشكاة الهداية ونبراسها"([3]).
(3) تزيين المعاني وتقويتها حتى تؤثر في النفس: "واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه، أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابةً وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبةً وشغفًا"([4]).
(4) رفع القدرات العقلية والعلمية لمتلقيها: حيث أنها تستدعي إعمال العقل لإدراكها، وقد كان بعض السلف إذا مر بمثل لا يفهمه يبكي ويقول: "لست من العالمين"([5])؛ إشارة إلى قوله -تعالى-: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [العنكبوت: 43].
(5) الاختصار: فكم من المعاني قد اختصره قولهم: "رب أكلة منعت أكلات" وقولهم: "رب عجلة أورثت ريثًا"، وكم من المعاني اختصرها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمن مثل النحلة، لا تأكل إلا طيبًا، ولا تضع إلا طيبًا"([6]).
(6) البيان والإيضاح: فما لا يوضحه الأسلوب المجرد، يبيِّنه المثال بيانًا شافيًا، فلو سألت عن أعمال الكفار في الدنيا أجابك القرآن في وضوح: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) [النور: 39]، ولو استزدته توضيحًا، أجابك بمثال آخر: (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) [النور: 40].
(7) سرعة وصول المعنى المراد: فالمثل يدخل إلى النفس من مداخل عدة، حيث يشترك في فهمه أكثر من حاسة، فبالتالي يكون فهمه أيسر وأسهل وأسرع إلى العقل، ونموذج ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم- عن تتابع علامات الساعة: "الآيات خرزات منظومات في سلك، فإن يقطع السلك يتبع بعضها بعضًا"([7])، فهل أوضح في تصوير تتابعها من عِقْد ينفرط فتتسارع حباته في الوقوع؟
(8) إزالة الملل من نفس المخاطب: فإن الكلام المجرد غالبًا ما يكون رتيبًا ملولًا، بعكس الأمثال المحبوكة فإنها تشوق النفس وتخلب اللب وتجذب الانتباه.
وسوف يتضح لنا كثير من تلك الفوائد -إن شاء الله- بنماذجها، أثناء تدربنا على استخدام هذه الأداة الفعالة.
والآن، وقد أدركنا أهمية "ضرب الأمثال" فالسؤال الأهم هو: كيف نُحسن استخدام فن "ضرب الأمثال" في الأداء الخطابي؟
ونجيب على هذا السؤال من خلال البنود التالية:
أولًا: احتكم إلى عقل سامعيك:
نعم، دع السامع يستخدم عقله؛ فبدلًا من أن تُحدِّثه عن التدخين ومضاره ساعة أو ساعات حديثًا مجردًا، اضرب مثلًا فقل: "لو رأيت سيارة قد فسد محركها فهو ينفث الدخان الكثيف، أكنت تجلس لتستنشقه! أم أنك تحاول الفرار منه؟ إذن فكيف تُدخل بإرادتك دخانًا إلى داخل صدرك، بل وتنفق على ذلك مالك؟!".
وبدلًا من أن تعمل أمدًا على إقناعه بصلاة الجماعة، اضرب مثلًا فقل: "لو دعاك وزير أو رئيس أو أمير إلى لقائه، فهل تتأخر عن مقابلته؟ فكيف وقد دعاك رب العالمين!".
وبدلًا من أن تحثه بكلام مجرد على تدبر معاني القرآن، اضرب له مثلًا فقل: "لو قرأت خبرًا في جريدة ما، وكنت شارد الذهن فلم تَدْرِ عما يدور ذلك الخبر، أيصح أن نقول أنك قد قرأته حقًا! وهل تَعُدُّ نظرك في هذا الخبر شيئًا؟!".
وبدلًا من أن تحثه -بأسلوب مجرد- على العمل بما يحفظه ويجوده من القرآن، اضرب له مثلًا فقل: "لو كنت مريضًا فكتب لك الطبيب وصفة الدواء (الروشته) أيكفي لتشفى أن تحفظ أسماء الأدوية التي خطها فيها الطبيب وتحقق نطق حروفها، أم لا بد أن تشتري الدواء وتتناوله؟! فكذا لا بد كي تنتفع بالقرآن أن تطبقه وتعمل به".
فاجعل السامعين يُعْمِلون فِكْرَهم، واجعل من عقولهم حكمًا في القضية التي تطرحها عليهم عن طريق ضربك للمثال، قدوتك في ذلك القرآن الكريم حين احتكم إلى عقول البشر في حال من يعبد ربًا واحدًا ومن يعبد أربابًا متعددة قائلًا: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا) [الزمر: 29].
ثانيًا: صوِّر تصويرًا مقنعًا:
يعلم خطباؤنا ويدركون أن من موانع الاقتناع عند المخاطَبين عدم استيعابهم لما يتحدث عنه الخطيب، وعدم فهمهم لما ينهاهم عنه أو لما يحثهم عليه، فقد يصول الخطيب ويجول على منبره لتقرير أو لنهي أو لتحذير، دون أدنى فائدة؛ إذ السامعون لم يدركوا ما هو الشيء الذي يصول ويجول من أجله أو ضده! وهنا يأتي دور "ضرب الأمثال" كأداة تصويرية توصل إلى الأذهان ما قد يعجز الأسلوب المجرد -أو يطول به الأمد- في توصيله.
فلتنظر -مثلًا- كم اتضحت لنا وتبلورت صورة الطريقين؛ طريق الهدى وطريق الضلالة وتصارعهما علينا، حين نقل إلينا النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المثال قائلًا:
"ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، على كتفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داع يدعو يقول: يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا، وداع يدعو على الصراط فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب قال: ويلك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه.
فالصراط: الإسلام، والستور: حدود الله، والأبواب المفتحة: محارم الله، والداعي الذي على رأس الصراط: كتاب الله، والداعي من فوق: واعظ الله يذكر في قلب كل مسلم"([8]).
فكم كنا نحتاج من كلمات مجردة ومن شروح مطولة لنوصل هذا المعنى إلى السامعين، وإننا لنوقن أن الأسلوب المجرد كان يعجز أن ينقل تلك الصورة المجسمة الرائعة المؤثرة الواضحة التي نقلها هذا المثال.
وما أبلغ وما أروع تلك الصورة المتكاملة التي تدفع دفعًا إلى القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعًا"([9])، فالسفينة: المجتمع، والخرق: المعاصي والمجاهرة بها، وغرقها: هلاك المجتمع بعذاب أو بوباء...، والأخذ على أيديهم: بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
وهذا ابن قدامة المقدسي يصوَّر "مسوف التوبة" بصورة منطقية مقنعة فيقول: "وما مثال المسوف إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة، فرآها قوية لا تنقطع إلا بمشقة شديدة، فقال: أؤخرها سنة ثم أعود إليها، وهو لا يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها، وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه، فالعجب من عجزه مع قوته عن مقاومتها في حال ضعفها، كيف ينظر الغلبة إذا ضعف وقويت"([10])، ويقصد بالشجرة هنا الذنب والمعصية، كلما أجَّل التوبة منها تأصَّلت في نفسه كما تزداد الشجرة صلابة كلما مر عليها الزمن.
فلو تحدثت -أيها الخطيب- عن خصلة ذميمة تريد النهي عنها فصورها في أبشع الصور، وألبسها أردأ الحلل، وأغرقها في أشنع الأوصاف، حتى تتكشف حقيقتها للسامعين وينفروا منها، وإن كانت منقبة تريد ترويجها بين المسلمين فلتصنع عكس ذلك حتى يتمسكوا بها...
ثالثًا: اسخر من الباطل وتهكم به:
كان وما زال وسيظل أفضل أسلوب لمهاجمة الباطل وبيان زيفه: التهكم والاستخفاف والسخرية منه؛ فإن الباطل هش واهٍ ضعيف مبني على غير أساس، يزلزله أي ريح من رياح الحق.
وإنك -أيها الخطيب- إن ناقشت الأباطيل التافهة وفصَّلت أمرها أعطيتها قوة وقدرًا لا تستحقه، وكنت مساهمًا في ترويجها ونشرها، فمثلًا: قد سمعنا في بعض الأقطار بـ"عبدة الشيطان"([11])، فلو اضطر الخطيب إلى الحديث عنهم فليكن ساخرًا متهكمًا متندرًا، يضرب لهم أتفه الأمثال وأكثرها سخرية، فله أن يضرب لهم مثلًا بـ"عبدة البقر" ثم يتهكم قائلًا: "لقد كان عبدة البقر أعقل؛ ففيها فائدة اللحم واللبن، أما هؤلاء فهل عساهم يذبحون شيطانهم فيأكلوا لحمه أو...؟!"، أو يضرب مثلًا بإبليس نفسه، ثم يتهكم قائلًا: "ليتهم اتخذوه قدوة؛ فقد أمره الله بالسجود لآدم فأبى، وسجدوا هم له ولم يأمرهم بذلك أحد".
وهذا ما فعله القرآن الكريم مع كل ما عبده الضالون من دون الله: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) [الحج: 73]، "وهذه الآية أعظم آية في القرآن في إذلال المشركين وتحقيرهم، وضرب المثل الواضح -نظرًا وسمعًا ودليلًا وبرهانًا- على سخف عقول الظالمين المشركين الضالين المضلين"([12]).
وليس بعيدًا عنه قوله -تعالى- ممثلًا لعابديها: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: 41].
ومن ذلك أيضًا قوله -تعالى-: (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان: 48-49] "أي: قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ"([13]).
ومنه رد إبراهيم الخليل على قومه: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) [الأنبياء: 63]؛ "تهكمًا بهم وتعريضًا بأن ما لا ينطق ولا يعرب عن نفسه غير أهل للإلهية"([14]).
ومنه خطاب القرآن لكارهي النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) [الحج: 15] أي: من كان يظن أن الله لن ينصر نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فليمدد بحبل إلى سقف بيته فليختنق به حتى يموت ثم ليقطع الحبل ولينظر؛ هل ذهب عنه غيظه([15])، وما هذا إلا استهزاءً وسخرية وتهكمًا منهم.
رابعًا: حذِّر واكشف الحقائق:
إذا أراد الخطيب أن يحذِّر من شيء اغتر به الناس، وأن يكشفه على حقيقته ليراه الناس عاريًا بلا تزيين، فأقرب طريق لذلك هو ضرب المثال.
فمثلًا: إذا أراد الخطيب أن يزهِّد الناس في الدنيا ويقبحها في أعينهم وينبههم على فنائها، فربما قال: احذروا من هذه الدنيا فإنها لا تدوم على حال وهي خداعة تغر من ركن إليها... إلى كلام كثير يطول سرده.
ويغني عن ذلك الكلام الطويل أن يضرب الخطيب مثالًا لخداع الدنيا وغرورها فيقول: "مَثَلُ الدنيا مثل الحية؛ تخلبك جميل ألوانها فإن اقتربت منها لدغتك"، ومثالًا آخر لقلة عقل الراكن إليها يقول: "من الذي يبني على موج البحر دارًا، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قرارًا"([16])، ومثالًا لزوالها وفنائها بعد جمالها وفتنتها يقول: (مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) [الكهف: 45]، ومثالًا لتفاهة متاعها الزائل يقول: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه -وأشار يحيى بالسبابة- في اليم، فلينظر بم ترجع؟"([17]).
ولدناءة الدنيا وهوانها وحقارتها ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا بجدي أسك([18]) ميت، تناوله فأخذ بأذنه ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: "فوالله للدنيا أهون على الله، من هذا عليكم"([19]).
فهذه الأمثلة الخمسة قد لخصت أغلب صفات الدنيا وأحوالها مع البشر، وهي أبلغ تأثيرًا وأوضح دلالة وأدل على المراد من كثير شرح وكلام مجردين.
وهذه المرة يكشف -صلى الله عليه وسلم- حقيقة التحدث بأسرار الفراش بضرب المثال حيث قال: "مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة في ظهر الطريق فغشيها والناس ينظرون"([20])، فما أقبح هذا الأمر حين فضح حقيقته المثال.
بل لقد ضرب الله -عز وجل- للغيبة مثلًا كشف حقيقتها، قائلًا -عز من قائل-: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) [الحجرات: 12]، فهذه حقيقة الغيبة قد اتضحت بالمثال، فعجبًا لمن يجعلها "فاكهة المجالس"!
خامسًا: حُلَّ المشكلات، وأجب الأسئلة:
يتمنى ذلك كل خطيب؛ أن يُعطى ما به يصحِّح أفهام الناس ويحل مشاكلهم في سرعة، وفي يسر، وفي وضوح، وذلك ممكن إذا ما أفلح في تطويع هذه الأداة الخطيرة؛ أداة "ضرب الأمثال".
فإن جاءك رجل يشكو خُلقًا في زوجته، فاضرب له هذا المثال: "المرأة كالضِّلَع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج"([21]).
وقد استخدم النبي -صلى الله عليه وسلم- ضرب الأمثال في حل مشكلة كادت تودي بأسرة، فعن أبي هريرة أن أعرابيًا أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، وإني أنكرته، فقال: "هل لك من إبل؟" قال: نعم، قال: "فما ألوانها؟"، قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق؟([22])" قال: إن فيها لورقًا، قال: "فأنى ترى ذلك جاءها؟" قال: يا رسول الله، عرق نزعها، قال: "ولعل هذا عرق نزعه"([23]).
وكم كانت زوجة أبي طلحة حصيفة ذكية عندما مات ولده فضربت له هذا المثال لتخفف عنه مصيبته: "يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك"...([24]).
ولما قيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ -يريد أن يتواكل عليها- أجابه: "بلى، ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك، وإلا لم يفتح لك"([25])، وأسنانه أداء الفرائض واجتناب النواهي.
ففي كل النماذج السابقة لم يكن أي أسلوب آخر ليؤدي ما أداه ضرب الأمثال، في روعة الإقناع وسرعته، وفي قوة الإيضاح، وفي اختصار الأوقات والكلمات.
سادسًا: قرِّب البعيد:
قد يتفق أن يتكلم الخطيب عن شيء يفوق قدرة السامع على الإدراك والاستيعاب، فيريد الخطيب أن يقرِّب وييسِّر ويسهِّل الأمر عليه، وليس شيء يسعفه في ذلك كضرب المثال.
فلو سألك -أيها الخطيب- أحد من العامة: ما الفرق بين الفقه وأصول الفقه؟ فقل: "أصول الفقه كالفأس التي يحرث بها الأرض، أما الفقه فنفس الحرث".
وإن سألك أخرى: لماذا نهانا الله أن نفكر في ذاته، مع ما أعطانا من عقل ذكي؟ فقل له: "لو أعطيتك ملعقة وقلت لك: اصنع بها نفقًا في جبل، فهل تستطيع؟! ولو صنعت لك طائرة ورقية وأمرتك أن تصعد بها إلى السماء، فهل تقدر؟!... الجواب: كلا، فإنهما لم يصنعا لذلك! فكذا العقل إنما خُلق ليتفكَّر في مخلوقات الله، لا في ذاته؛ فالأمر فوق طاقته".
وإن سألك ثالثة: ولماذا نعجز عن رؤية الجن والملائكة؟ فأجبه: كما نعجز عن رؤية أرواحنا ونحن نوقن أنها داخل أجسادنا! بل لا نعرف في أي مكان هي في جسمنا! وكما عجزنا إلى الآن أن نتعرف على وظيفة "الزائدة الدودية" في الجسم، وهي جزء من بنياننا!
وإن سأل رابعة: ولما لا يهتدي الإنسان إلى القبلة إذا وضع في حجرة مغلقة لم يدخلها قبل ذلك؟ فإن لم يفقه ما هو الخداع الجغرافي، فاضرب له مثالًا وقل: "لأنه يكون كنملة وضعت في قارورة معتمة، وسُوفِرَ بها أيامًا، ثم سئلت: أين أنت؟ فهل تدري؟!".
يقول الحكيم الترمذي: "فالأمثال مرآة النفس، والأنوار أنوار الصفات مرآة القلب، وإن الله تعالى جعل على الأفئدة أسماعًا وأبصارًا، وجعل في الرؤوس أسماعًا وأبصارًا، فما أدركت أسماع الرؤوس وأبصارها أيقن به القلب واستقرت النفس واتسعت في علم ذلك وانشرح صدره بذلك... فضرب الله الأمثال لنفوس العباد حتى يدركوا ما غاب عن أسماعهم وأبصارهم الظاهرة، بما عاينوا"([26]).
وقد فعل الله -عز وجل- ذلك مع عقولنا القاصرة التي تساءلت عن نور الله -تعالى- الحسي والمعنوي، فأجابنا مقرِّبًا الأمر من عقولنا: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [النور: 35].
وهذا مثال يقرِّب للعقول عدم تناهي كلمات الله -تعالى-: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [الكهف: 109]...
يتبع بإذن الله
----
([1]) أمثال الحديث للرامهرمزي (9)، الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية بيروت، الطبعة الأولى 1409هـ.
([2]) الحاكم (1534)، والطبراني في الكبير (3427)، وصححه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 1724).
([3]) تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (1/198)، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990م.
([4])أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني (115)، الناشر: مطبعة المدني بالقاهرة، دار المدني بجدة.
([5])مفتاح دار السعادة لابن القيم (1/51)، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت.
([6])النسائي في الكبرى (11214)، وابن حبان (247)، وصححه الألباني (الصحيحة: 355).
([7]) أحمد (7040)، والحاكم (8461)، وصححه الألباني (الصحيحة: 1762).
([8]) الحاكم (245)، والترمذي (2859)، وصححه الألباني (المشكاة: 191).
([9]) البخاري (2493).
([10]) مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة المقدسي (267)، مكتبة دار البيان دمشق، عام النشر 1398هـ.
([11])وهم شباب ماجن تافه، استخفهم الشيطان فأطاعوه، يقيمون الحفلات الماجنة تقربًا إلى الشيطان!
([12]) انظر: تفسير القرآن الكريم لمحمد المنتصر بالله الكتاني [الحج:73]، نقلًا عن موقع شبكة الإسلام.
([13]) تفسير ابن كثير (7/260)، الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1420هـ.
([14]) تفسير التحرير والتنوير (17/101)، الدار التونسية للنشر تونس، سنة النشر: 1984م.
([15])انظر: تفسير الخازن (3/250 وما بعدها).
([16]) إحياء علوم الدين للغزالي (3/205-206) من قول نبي الله عيسى -عليه السلام-، الناشر: دار المعرفة بيروت.
([17]) مسلم (2858).
([18]) (جدي أسك) أي: صغير الأذنين.
([19]) مسلم (2957).
([20]) أحمد (27583)، والطبراني في الكبير (414)، وحسنه الألباني (صحيح الجامع الصغير وزياداته: 4008).
([21]) البخاري واللفظ له (5184)، ومسلم (1468).
([22]) (أورق) الأغبر الذي في لونه بياض إلى سواد.
([23]) البخاري (7314)، ومسلم (1500).
([24]) البخاري (5470)، ومسلم واللفظ له (2144).
([25]) البخاري (أول باب ما جاء في الجنائز).
([26]) الأمثال من الكتاب والسنة للحكيم الترمذي (14-17)، الناشر: دار ابن زيدون / دار أسامة - بيروت - دمشق.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم