الخطباء وتناول النوازل الفكرية

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

من منطلق أن الخطيب الناجح أو مقومات الخطبة الناجحة هي التي تمس واقع الناس وتتصل بالعصر، وتنفتح على قضاياه الشاغلة، وتتجاوب مع آلامهم ومشاكلهم وما يتعرضون إليه كل يوم من مستجدات..

مما استقر في الأذهان، وأجمع على صدقه وصحته العقلاء، أن الخطابة في الإسلام من أهم أدوات البلاغ وبيان الدين وتذكير الناس بأمور دينهم وعقيدتهم؛ فالخطابة نافذة واسعة لعرض الإسلام بنصاعته الكاملة، وتوعية المسلمين بالمرحلة التي يعيشونها، وبالأخطار والتحديات التي تحيط بهم، وهي الوسيلة الهامة في توصيل الرسالة المحمدية، وهداية الناس، وتربية الأمة بعمومها، وتوعية المجتمع بشتى أطيافه، وصياغة الإنسان الإيجابي الصالح المصلح.

 

وحتى يستثمر الخطيب منبر الجمعة الاستثمار الأكمل عليه أن يطرح المواضيع التي تمس إليها الحاجة ضمن منهج متوازن شامل، يغطي المعاني والأفكار، ويترجم منهج الإسلام في صورة القيم النبيلة والمثل الرفيعة والأخلاق الفاضلة التي تصل من القلب إلى القلب، فتنتعش الروح، ويتجدد الإيمان، وتتسع المدارك، ويتعمق الوعي إزاء قضاياه المعاصرة.

 

ويوم أن يفقد الخطيب قدرته على ترجمة واقع الجماهير، وقراءة مشكلاته القراءة الصحيحة التي تمكنه من انتقاء المواضيع التي تهم الناس، وتعظم إلى معرفة رأي الإسلام فيها حاجتهم، عندها ينصرف الناس عن سماع هذا الخطيب، ويزهدون في بضاعته، وحتى لو حضروا خطبته حضروها كالأموات؛ أجساداً بلا أرواح ولا قلوب ولا عقول.

 

فرسالة الخطيب عظيمة، وأمانة التبليغ ثقيلة، وذلك من منطلق أن الخطيب الناجح أو مقومات الخطبة الناجحة هي التي تمس واقع الناس وتتصل بالعصر، وتنفتح على قضاياه الشاغلة، وتتجاوب مع آلامهم ومشاكلهم وما يتعرضون إليه كل يوم من مستجدات وأفكار وأطروحات ومناهج، وكلها نوازل يقف الناس أمامها حيارى، كيف يتفاعلون معها، فيتلهفون وقتها إلى خطاب أصيل وعصري، يقبس من مشكاة الوحي، ويتابع خطوات الحياة، ويجيب على موقف المسلم تجاه تلك النوازل والمستجدات بروح من وسطية الإسلام وشموليته وأصالته.

 

ومن ثم كان من أساسيات نجاح الخطيب في تأدية رسالته المقدسة؛ قدرته على وضع استراتيجية متوازنة في التعامل مع نوازل الأمة ومستجداتها، وعرضها من خلال منبر الجمعة من غير إفراط ولا تفريط، ولا إخلال ولا تطويل. ولن يتأتى ذلك للخطيب إلا من خلال الجمع بين ضرورتين متلازمتين:

الأولى: ضرورة المعرفة الصحيحة الشاملة للإسلام النقي كدين وكمنهج حياة متكامل، ونظام فكري وعقائدي متفرد يمتلك الإجابة الشافية على كل تساؤلات البشر القديمة والحديثة.

 

الثاني: ضرورة معرفة ظروف العصر ومتطلباته، والتفريق بين ما هو ناشئ عن التطور العلمي والصناعي، وبين ظواهر الانحراف وأسباب الفساد والانحطاط.

 

وهذا يستدعي ألَّا تنحصر ثقافة الخطيب في حدود تحصيله للعلم الشرعي فحسب، وإنما تتجاوزه إلى الإلمام بثقافة العصر والاطلاع على ما أمكنه من مستجدات زمانه ونوازله الملحة التي يبحث عن حقيقتها عموم الناس، وليسوا المتلبسين بها وحدهم؛ ليكون ذلك كله مكملًا لثقافته الشرعية، ومعينًا على استكمال متطلبات القيام بواجب الخطابة والوعظ والإرشاد والدعوة إلى الإسلام العظيم.

 

وثقافة منازلة النوازل عامة، والفكرية خاصة، والوعي بها وسبر أغوارها والوقوف على حقيقتها وحكمها وموقف الإسلام منها ستكون سلاح الداعية والخطيب الذي يواجه به حيرة الناس إزاء هذه النوازل، وجهلهم بقيم الإسلام وأحكامه، وانشغالهم المفرط بشئون دنياهم عن أمور دينهم، وغفلتهم عن اتخاذ الإسلام أساسًا لإصلاح الواقع وبناء المستقبل، وستكون هذه الثقافة عونًا له على حسن النظر في التسارع اللاهث لنمط الحياة الحديثة الذي تتلاحق فيه أنفاس الحياة، وتتعاقب فيه المستجدات والمتغيرات، وتدور فيه عجلة الأحداث بسرعة لا تمهل حملة الدعوة وصناع الرأي وفرسان المنابر من صناعة التوعية والتذكير.

 

مقدمة في فقه النوازل

 

من المعلوم أن القرآن الكريم قد نزل منجماً تبعاً للحوادث والمستجدات التي تعرض للأمة على مدار ثلاثة وعشرين سنة، ومن ثم كان هذا هو النهج النبوي في البيان والبلاغ، كلما عرض للمسلمين أمر جديد وطرأ عليها طارئ ومستجد لم يعهدوه من قبل هرعوا إلى النبي-صلى الله عليه وسلم-لبيان موقف الشرع منه. وهو ما قال عنه الإمام القرافي-رحمه الله-: "إخبار عن الله تعالى فيما يجده في الأدلة من حكم الله تعالى". وقال ابن القيم –رحمه الله تعالى-: "أول من وقع عن الله هو الرسول، وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ)[ص:86] فكانت فتاويه جوامع الأحكام ، ومشتملة على فصل الخطاب ، وهي في وجوب اتباعها ، وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب". وقال الإمام أبو شامة -رحمه الله-: "فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه".

 

فالنوازل لازم من لوازم التفاعل البشري، والنشاطات المتغايرة للبشر، ونتاج طبيعي لتغير الزمان والطبائع والعلوم والأفكار، ومن ثم كانت براعة الإسلام منذ البداية في بيان الموقف الصحيح والسليم تجاه هذه النوازل من خلال الأصول العامة والقواعد الكلية للشرع من وحي الكتاب والسنة.

 

والنوازل في اللغة: جمع نازلة، والنازلة تطلق لغة ويراد بها أمرين:

الأول: بمعنى الهبوط والوقوع والنزول والتسفّل، وفي المجمل الانتقال من الأعلى إلى الأدنى.

 

والثاني: الشديدة من شدائد الدهر ونوائبه ودواهيه مثل الحوادث الكونية العامة كالزلازل والأعاصير والبراكين، أو الجائحات مثل القحط والمجاعات والأمراض والأوبئة.

 

أما النوازل في الاصطلاح: فكل مستجد طارئ وحادث في الأمة بعد النبي-صلى الله عليه وسلم-ويحتاج لبيان الحكم الشرعي فيه، وموقف الإسلام منه.

 

وهذا المعنى مستنبط من كلام أهل العلم ومقالاتهم المختلفة عبر العصور.

 

قال الإمام مالك-رحمه الله-: "أدركت أهل هذا البلد-يقصد المدينة-وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه". وقال الإمام الشافعي-رحمه الله-: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها". وقال الإمام النووي-رحمه الله-: "الاعتناء بالاستنباط من آكد الواجبات المطلوبة، لأن النصوص الصريحة لا تفي إلا بيسير من المسائل الحادثة، فإذا أهمل الاستنباط فات القضاء في معظم الأحكام النازلة أو في بعضها".

 

والذي يعيننا في هذا المقام هو تعرض الخطيب لنوع محدد من النوازل؛ وهي النوازل الفكرية؛ فما المقصود بالنوازل الفكرية؟!

 

هي تلك المستجدات من الأفكار والمناهج والأطروحات والأيديولوجيات المعاصرة والحديثة والتي نشأت في الغرب ثم غزت بلاد الإسلام مع عصر الانفتاح الثقافي والإعلامي، ولاقت رواجاً وقبولاً عند الكثيرين من أبناء الإسلام وتأثروا وفتنوا بها، وتحتاج لبيان الحكم الشرعي منها، وموقف الإسلام وتقييمه لها.

 

مثال ذلك: الحداثة، الليبرالية، العلمانية، العصرانية، التغريب، الاستشراق، الإلحاد، النسوية، الجندرية، العولمة، الفردانية، القومية، الوطنية، الإنسانية، وحدة الأديان، الديمقراطية، إلى آخر القائمة الطويلة من مستجدات العقل البشري البعيد عن نور الوحي.

 

ومن هذا التعريف يتضح لنا عدة نقاط هامة قبل الشروع في كيفية تعامل الخطيب معها، منها:

1- اختصاص النازلة بالمجال الفكري والعقدي، وهذا من أخطر المجالات وأكثرها حساسية وأثراً، لأنها تتعلق مباشرة بإيمان الناس ومعتقدهم وعلاقتهم بربهم ونظرتهم للحياة، وتأسيس لمرجعيات حادثة ومغايرة لمرجعية الوحي وسلطة الشرع.

 

2- أن غالب هذه النوازل مستوردة وتشكلت في بيئة مغايرة تماماً لبيئة الإسلام، وكانت انعكاساً لحالة الفصام النكد بين الدين والحياة والعقل في المجتمعات الغربية في عصر الثورة الصناعية وظهور قوة العلم.

 

3-كل هذه النوازل تسربت إلى بلاد الإسلام وغزت عقول الكثير من أبناء الإسلام في فترات ضعف الأمة الإسلامية، وتفكك أوصالها، وغلبة العدو على أقاليمها، حيث لم تعرف بلاد الإسلام مثل هذه النوازل إلا في حقبة الاحتلال الأوروبي، ثم تسارعت وتيرة وتأثير هذه النوازل مع الانفتاح الثقافي وثورة وسائل الإعلام، ثم ما لبثت أن اجتاحت كل بيت بفعل مواقع التواصل والتقنيات الجبارة لنقل المعلومات، وهو ما أعطى هذه الأفكار والمناهج قوة النوازل الجائحة التي لا تقف عند حدود أو أقاليم بعينها.

 

4- معظم النوازل الفكرية ليس لا أصل ولا سلف تاريخي إنما هي طارئة خلال القرنين الماضيين فحسب، مما يجعل مسألة الرد عليها وبيان موقف الإسلام منها يحتاج إلى جهود متضافرة من أهل العلم في كل التخصصات، وتحتاج لنوعية خاصة من أهل العلم من ذوي المدارك المتسعة والاطلاع العميق على العقلية والبيئة الغربية التي أنتجت هذه الأفكار والمناهج.

 

استراتيجية الخطيب في تناول النوازل الفكرية

 

من خلال معرفة أهم سمات النوازل الفكرية نستطيع أن نتعرف على مدى خطورتها، واتساع قاعدة المتأثرين بها، مما يجعل مهمة الخطيب جسيمة وبالغة الأهمية، وتحتاج إلى الإعداد الجيد، والدراسة المستفيضة من أجل الإحاطة الكاملة بتلك النوازل، وعرضها على جمهور المستمعين بطريقة سلسة تمس العقول والقلوب وتحقق المراد. ويحضرني في هذا المقام ما قاله أحد أكبر مفكري العلمانية والتي تعد من أخطر وأبرز النوازل الفكرية التي أصابت العالم الإسلامي؛ وهو الدكتور فؤاد زكريا، فقد قال في إحدى محاضراته بمعرض الكتاب بالقاهرة سنة 1993: "جهود عام من أجل نشر العلمانية في مصر، يحبطها خطيب الجمعة في ساعة واحدة"، وذلك إن دلّ فيدل على مدى أهمية وخطورة دور الخطيب في التصدي لهذه النوازل الفكرية المعاصرة.

 

وأهم بنود استراتيجية الخطيب في تناول النوازل الفكرية:

أولاً: القراءة المستفيضة عن هذه النازلة. والاحاطة الكاملة عن حقيقتها ونشأتها وبيئتها وواضعها وروافدها وأصولها ومبادئها وأهم أهدافها، وأهم رجالها ودعاتها في بلاد الإسلام، وعدد وشرائح المتأثرين بها، ومدى نفوذها، وتاريخ دخولها إلى بلاد الإسلام. وكل ذلك انطلاقاً من القاعدة الأصولية: "الحكم على شيء فرع عن تصوره".

 

وهذا التصور الصحيح يمكن الخطيب من تعريتها وكشف زيفها ونزع الهالات الراقة التي تصاحب الدعاية لها. فما من نازلة فكرية إلا كالسم المدسوس في العسل لا يأتي إلا في أبهى هيئة وأشهى مذاق، فينخدع الكثيرون ويقعوا في حبائلها.

 

ثانياً: دراسة بيئة النازلة وواقعها. فليس كل النوازل الفكرية على قدم السواء في الأثر والانتشار، فبعض النوازل الفكرية مثل النسوية والجندرية لا تلق نفس الرواج التي تلقاه العلمانية والليبرالية والقومية والديمقراطية، ومن ثم فمعرفة وفقه بيئة النازلة وواقعها ومداها وأثرها تجعل الخطيب يحدد أولوياته ويرسم استراتيجيته ويبني خططه. قال ابن القيم-رحمه الله-: "فإنه لا يمكن من الحكم في النازلة إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.

 

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر".

 

ثالثاً: عرض النازلة على مصادر التشريع. فالحكم على النازلة لن يكون من خلال الهوى والتشهي، ولكن من خلال الأصول الشرعية والقواعد الكلية للدين. فتعرض النازلة الفكرية على الكتاب والسنة والإجماع والقياس وأقوال الصحابة والنظر والعقل الصحيح والفطرة السليمة وأعراف الناس الموافقة للشرع والمقارنة مع المناهج المتشابهة مع النازلة في القديم والمعاصر. ومن خلال هذه الأصول والمصادر الكلية للشريعة يستطيع الخطيب بناء رؤي متكاملة عن رأي الشرع في هذه النازلة.

 

والخطيب مهما أوتي من بلاغة وبيان لن يقنع السامعين بحل أو حرمة أو كراهة هذه النوازل الفكرية إلا من خلال سرد الآيات والأحاديث وسوق الأدلة الشرعية التي بني عليها حكمه وكلامه، ومن ثم توجب عليه عرض النازلة على مصادر التشريع ودلالات النصوص.

 

رابعاً: بيان نظرة الإسلام ورؤيته لنفس مضامين هذه النوازل الفكرية. فكما قلنا في تعريف النوازل الفكرية أنها تقدم نظرة خاصة عن الحياة والأخلاق والمعاملات بعيدة تماماً عن نظرة الإسلام. فالعلمانية مثلاً ترى الحياة بلا أي مؤثر ديني أو أثر سماوي وتنزع سلطة التشريع من الله-تعالى-وتضعها بيد البشر، ومن ثم توجب على الخطيب بيان نظرة الإسلام عن دور الدين في الحياة وأهمية التحاكم إلى شرع الله. والليبرالية مثلاً تري الحياة منفتحة دون أدنى قيود باسم الحرية والدفاع عن الحقوق، ومن ثم توجب على الخطيب بيان المفهوم الحقيقي للحرية في الإسلام وحدودها، فكما قالت العرب من قبل "وبضدها تتمايز الأشياء".

 

خامساً: عرض النازلة على مقاصد الشريعة. وذلك أن عرض النازلة على كليات الشريعة ودلالاتها يضبط مسيرة الحكم عليها من الانحراف إليها أو الوقوع في معارضتها دون أدلة واضحة. مع التنبيه أن هذا الإدراك هو ميدان تمايز العلماء وإنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين: أحدهما: فهم مقاصد الشريعة على كمالها. والثاني: التمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها.

 

سادساً: التشاور وتقليب الآراء. فمن العوامل المؤثرة في نجاح أي استراتيجية؛ التشاور عند وضعها. فالخطيب الناجح من يشاور إخوانه الخطباء، ومن يثق في علمهم ورجاحة عقولهم، ويشاور من له احتكاك بالشرائح المتأثرة بهذه النوازل الفكرية، وخاصة ممن افتتن بها من قبل ثم اكتشف حقيقتها فتاب منها، وهذا ظاهر من مواقف بعض أهل العلم الذين كانوا متلبسين ببدعة معينة أو يعتنقون بعض هذه الأفكار الضالة ثم تابوا منها، فقد كانوا أقدر وأجدر الناس على مناظرة المبتدعة وكشف عوارهم.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات