اقتباس
لا غنى للخطيب عن دراسة الجوانب السلوكية في علم النفس التعليمي, وبصفه خاصة دراسة الغرائز وتربيتها ومراحل نمو الطفولة وما يناسب كل مرحلة من معاملة, وبدون دراسة لهذا العلم لا يستطيع الخطيب أن يفهم نفسية سامعيه وهذا يعود عليه بضرر كبير فهو من ناحية لا يعرف أسباب الانحراف التي تطرأ على سلوكهم ولا كيف يكون علاجها والطب لها . وعلم النفس التربوي والسلوكي يمده بينبوع فياض من المعاني ويمنحه القدرة على لمس قلوب السامعين وتحريك عواطفهم وإثارة مشاعرهم. ولكن لا يجوز
الخطابة – كالشعر والتأليف وغيرهما – من المواهب الفطرية, التي تكون فيها للملكات الجبلية أثر كبير وواضح، فبعض الناس يخلق خطيباً أو شاعراً بفطرته, وهذه الطبيعة توفر عليه جهدا كبيرا ً في حصوله على كمال هذه الصفة.
ومن الناس من يحسن الكتابة وتشقيق الكلام، فيما يعبر عنه من المعاني ولكنه لا يحسن إلقاءه، ولا مواجهة الناس به.
ومنهم من يحصر ويعي أو يرتج عليه إذا وقف للخطابة، وإذا تحدث في مجلس أجاد الحديث, ومنهم من لا يستطيع هذا ولا ذاك، وهذا النوع يتجنب الخطابة أصلاً, أما الآخرون فيحتاجون إلى تدريب وتكوين عام حتى يحسنوا الخطابة, والشخص الموهوب أقوى وأقدر على أي حال، ولا يعني هذا أن الخطيب الموهوب يستغنى عن مؤهلات الخطابة، ومعرفة قواعدها وطرق إلقائها، فهناك أمور خاصة لا يكون الخطيب خطيبا مقنعاً بغيرها، وليس الإلقاء الجيد كافياً في جعل الخطبة ناجحة ومقنعة، حتى تقترن به الصفات الأخرى, ومن أهم هذه المكونات التي لا يستغني عنها الشخص المقنع :
1. درس اللغة العربية درساً يحول بينه وبين الخطأ واللحن, وهذا يرجع إلى دراسة قواعد اللغة وفنونها, وكان بين العرب جماعة لحانون وكانوا مضرب المثل والتندر, وكان الحلفاء يحتقرون المتحدث إذا أخطأ أو لحن وكان خالد بن عبد الله القسري من الخطباء المعروفين فقال مرة وهو فوق المنبر أطعموني ماء فاتخذها الناس سخرية حتى قال فيه الشاعر:
بلّ المنابر من خوف ومن هلع *** واستطعم الماء لما جد في الهرب
أما الخطأ النحوي فإنه أفحش وأسوا, وأشنع من هذا أن يستعمل الخطيب الغة العامية في خطبته أو في جمل كثيرة منها وإنما يسوغ كلمة أو جملة ليفسر بها شيئاً غمض على سامعيه.
2. سعة المحفوظات الأدبية من الشعر والنثر ومأثور كلام العرب من الحكم والأمثال والوصايا وهذا فضلاً عن حفظ الكثير من القرآن وحفظ الكثير من الأحاديث النبوية فهذا المحفوظ يمده بالعبارات التي يستغلها بسرعة ويمنحه قدرة على التصرف في تعبيراته وألفاظه كما أنه يسعفه بما يستشهد به على ما يقول, ولئن كانت المحفوظات الدينية ضرورية وحتمية للخطيب الديني إنها أيضاً من مكونات الخطيب أياً كان لذا نجد المحامين في المحاكم وأعضاء البرلمانات يستعينون بالآيات القرآنية والأحاديث في تأييد وجهة نظرهم وفي رفع أسلوبهم الخطابي, وليس الغرض من هذه المحفوظات هو الاستشهاد ولكن الغرض منها هو اللغة وسهولة التعبير, وكما سبق يحتاج الخطيب في كثير من المواقف أن يكرر المعنى الواحد وأن يعبر عنه بعدة عبارات مختلفة, فإذا لم يكن لديه هذه القدرة الكلامية صعب عليه هذا التعبير .
ولا ينبغي أن يكثر الخطيب من هذه الاقتباسات فإن ذلك يفقد الخطبة أثرها وذكرها يكون دائماً في الوقت المناسب, وفي المكان الذي يحسن وضعها فيه فإنها حينئذ تكون حجة ثانية مؤكدة لحجته الأولى.
3. لا غنى للخطيب عن دراسة الجوانب السلوكية في علم النفس التعليمي, وبصفه خاصة دراسة الغرائز وتربيتها ومراحل نمو الطفولة وما يناسب كل مرحلة من معاملة, وبدون دراسة لهذا العلم لا يستطيع الخطيب أن يفهم نفسية سامعيه وهذا يعود عليه بضرر كبير فهو من ناحية لا يعرف أسباب الانحراف التي تطرأ على سلوكهم ولا كيف يكون علاجها والطب لها . وعلم النفس التربوي والسلوكي يمده بينبوع فياض من المعاني ويمنحه القدرة على لمس قلوب السامعين وتحريك عواطفهم وإثارة مشاعرهم. ولكن لا يجوز أن يتخذ الخطيب ما درسه من علم النفس مادة لخطبته, وقد سمعت مرة خطيباً يتحدث من فوق منبر المسجد عن بعض العقد النفسية وكيف تتكون وكيف يكون أثرها في حياة الناس وهذا خطأ لأنه يجعل الخطبة شرحاً لموضوع نفسي .
يكفي على سبيل المثال أن يطلب من الوالدين ألا يختلفا في أمر ويتنازعا أمام طفلهما, ويكفي أن يطلب ألا يحرم الطفل مما تهفو إليه نفسه من المطعم والملبس والملعب فإن لم يكن ذلك ممكناً فلا يترك بين أطفال يتمتعون وهو بينهم محروم, وبالمثل إذا كان لأولاده ما يتمتعون به دون جيرانهم فلا يترك أطفاله يظهرون بما لديهم حتى يغيظوا به أولاد جيرانهم, وهو واجد في الآثار الإسلامية ما يكفي لهذا, أما أن يستطرد من هذا ليشرح عقداً نفسية أو نرجسية أو ما إلى ذلك فهذا غير سائغ كما أنه قليل الفائدة للسامعين .
4. من مكونات الخطيب الجرأة والشجاعة والثقة بما يقول وهذه صفات لكل واحدة منها مفهوم خاص بها، وليست مجرد مترادفات .
فالجرأة تعني عدم التهيب والتردد فيما يتحدث عنه الخطيب, وهناك مواقف يتعرض لها الخطيب قد توهنه وتجعله يغير مجرى خطبته أو يوجزها أو يحذف بعض عناصرها, ولكن الخطيب الجريء لا يتأثر بها .
قد يشرع الخطيب في خطبته، وبعد إلقاء بعض فقراتها يقوم من المجلس وربما من الصفوف الأمامية بعض الأشخاص ويخرجون, وقد يعرض عنه بعض السامعين فينظر يمنة ويسرة ، أو يعبث في مسبحته أو لحيته ، أو يكرر النظر في ساعته في إشارة منه على استثقال الخطبة والسأم منها . وهذا كله يوهن قوة الخطيب ويترك أثرا ً كبيرا ً من الفتور في صوته وإلقائه ولكن ينفعه في هذه الحالة أن يولى وجهه إلى الآخرين وألا يبدي أي اكتراث بما حدث .
ومن نصائح الأقدمين: " إنك لا تتعلم الخطابة حتى تتعلم القحة ", والمراد بالقحة عدم المبالاة بأي شيء يكون معارضا ً له ويرجع ذلك إلى الجراءة وقوة الجنان .
ويراد بالشجاعة قوة الخطيب على فرض رأيه على سامعيه وخصوصاً حين يكون على غير رأيه, وربما قاطعه بعض السامعين بما هو ضد ما يقول, وفي المساجد قد يصفق بعض الحاضرين . وفي هذه الحالات لا يستطيع الخطيب أن يتخلص بمجرد الانصراف بوجهه إلى الآخرين ويتجاهل من يقاطعه ولكن عليه أن يكون ثابتاً هادئاً مبدياً للناس بمظهره وثباته أن هذا ليس بشيء يهتم به, ثم يستمر في سرد الأدلة على رأيه مضمناً كلامه رداً على المعترض في بساطة وهدوء فهذا موقف يعتمد على الشجاعة .
ويفيد الخطيب في هذه إشارة عابرة باليد أو الرأس لإظهار عدم اكتراثه وبيان أن ما عورض به ليس بشيء ذي بال, ويجدي في هذا مجرد ابتسامة, أو مد شفتيه مع استمراره في حديثه . ويفشل الخطيب كل الفشل إذا انفعل أو غضب أو بدت عليه سمات الضعف فهو بهذا يخسر الموقف كله .
وأما ثقة الخطيب بكلامه فتعني إيمانه بالمبادئ التي يدعو إليها, هذه الثقة تدفعه تلقائيا ً إلى تكييف صوته وانفعاله فتلهمه الحجج والبراهين, وتجعل الآخرين يتأثرون به, وقديماً قالوا: ما خرج من القلب وصل إلى القلب وما خرج من اللسان لا يجاوز الآذان ( أي لا يتجاوز أذن السامع إلى قلبه ), كما قالوا : ليست النائحة المأجورة كالنائحة الثكلى . وقد يبكي الخطيب سامعيه ويحرق قلوبهم بمواعظه ولا يفعل ذلك غيره ممن هم أبلغ منه ويرجع ذلك إلى إخلاصه وإيمانه بما يقول .
5. ويجر هذا إلى عنصر آخر يتوقف عليه نجاح الخطيب الديني أكثر من غيره, ذلك هو صلاح الخطيب حقاً وإخلاصه لله تعالى, وحرصه على الاستقامة التامة على تعاليم الدين, والخطيب الذي تتوافر فيه هذه الصفة تكون خطبته عبادة لأنها دعوة إلى سبيل الله, أما من لا يكون له هذه الصفة, فهو منافق وهو أيضاً عرضة للزلل والفتيا بما يرضي الناس لا ما يوافق الدين وكما قال الإمام علي : من نصب نفسه للناس إماما ً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تعليمه بسيرته قبل تعليمه بلسانه .
كما أن قراءة تاريخ الذين صمدوا بفكرهم الديني أمام خصومهم مثل الإمام مالك وأحمد بن حنبل وسعيد بن المسيب والحسن البصري ....... وغيرهم تفيد الخطيب كثيراً للاقتداء بهم في مواقفهم وبيان روعتها للسامعين .
6. لا بد للخطيب مع كل هذه الصفات من التدريب العملي وإعداد نفسه لمواجهة الجماهير, ولابد له أيضاً أن يتوقع الفشل مرات كثيرة فشأنه في هذا شأن كل متعلم, يسقط مرة وينهض أخرى حتى يتم تكوينه ودربته, وإنك واجد في تاريخ الخطابة أشخاصاً كانوا يخطبون للمقاعد الخالية وأمواج البحر ولأشخاص وهميين وقد أجدى عليهم ذلك وخرجهم خطباء موفقين ممتازين .
----------
المراجع والمصادر :
- فن الخطابة للحوفي
- الخطابة لأبي زهرة
- البيان والتبيان
- الخطابة لشلبي
- الصناعتين للعسكري
- الأسلوب للشايب
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم