عناصر الخطبة
1/ كل نعيم إلى زوال 2/ تخويف النبي أمته من الآخرة 3/ الخوف من الله رأس الحكمة 4/ ثمرة الخوف من الله 5/ من أحوال الخائفين.اقتباس
إن من تأمل أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- وأحوال الســلف الصالح من بعدهم, وجدهم في غاية الجد في العمل مع غاية كبيرة من الخوف, ونحــن جمعنا بين التقصير بل التفريط والأمن, فهذا الصديق -رضي الله عنه- يقول: "وددت أني هذه شجرة تؤكل وتعضد"؛ وهذا من شدة خوفه من الله, وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قرأ مرة سورة الطور إلى أن بلغ قوله -تعالى-: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) فبكى وإشتد بكاؤه...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]
أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: مهما تنعم العبد في الدنيا بالصحة والمال والجاه والسلطة, وتحكم في رقاب الناس وتحـديد مصائرهم؛ فإن ذلك إلى زوال وإنتهاء, فالقرآن الكريم والسنة النبوية -هذان المنبعان الصافيان- يخبران أن العبد مهما طال به العمر, ومهما تنعم وتلذذ في هذه الدنيا بأنواع المتع الدنيوية؛ فإنه لامحالة ذاهب وتاركه, علم بهذا العبد أم لم يعلم, صدق ذلك أم لم يصدق, أحب ذلك أم كره, شاء ذلك أم أبى, والواقع أثبت هذا.
فكم من عبد كان من عظماء الدنيا, كان الآمر الناهي؛ يولى ويعزل, صاحب ثروة طائلة, محاط بالحرس والجنود, الناس لهم خدم وعبيد, في أثواب النعيم يتقلبون, وفي أغلب أيامهم مترفون حتى ظنوا أنهم مخلدون, وعندما عزلوا أو ماتوا خلفوا كل شيء وراءهم, وصدق من قال:
كتب الموت على الخلق فكم *** فل من جيش وأفنى من دول
أين نمرود وكنعان ومن *** ملك الأرض وولى وعزل؟!
أين من سادوا وشادوا وبنوا *** هلك الكل ولم تغنِ الحيل؟
أين أرباب الحجى أهل التقى. *** أين أهل العلم والقوم الأول؟
سيعيد الله كل منهم *** وسيجزي فاعلا ما قد فعل
ويقبل العبد بعدها على الله -تعالى- بما قدم من خير أوشر, فإن كان خيرا فإلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين, فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خـطر على قلب بشر, وإن كان شرا فإلى نار تلظى وقودها الناس والحجـارة, لوسيرت بها جبال الدنيا لذابت من شدة حرارتها, فيجد الإنسان فيها أسوأ وأشد مما كان عليه في الدنيـا من الآلآم والمتاعب, وينسى بذلك كل نعيم وكل شهوة محرمة تمتع بها في الحياة الدنيا.
أيها المؤمنون: ولشدة عظم الأمر وهول المنقلب, فقد خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه وأمته مما ينتظرهم من أهوال وخطوب وأحوال عظيمة؛ ليحثهم على الإكثار من العمل الصالح والتزود, فقال -صلى الله عليه وسلم-: "لو تعلمون ماأعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا, ولما تلذذتم بالنساء على الفرش, ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء", وفي رواية: "ولحثوتم على رؤوسكم التراب", فغطى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجوههم ولهم خنين.
والخوف من الله هو رأس الحكمة, وجوهر الإيمان, وهو التقوى, ومن عرف الله أكثر خافه أكثر, قال الله -تعالى-: (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر: 28].
ولا يكفي الخوف بلا عمل؛ لأن حقيقة الخوف تبعث على العمل, فمن خاف الله -تعالى- وقدره حق قدره, قام بفرائضه وإلتزم حدوده, واجتنب محارمه, وكان دائما وأبدا مراقبا مستشعرا حضوره, قال الله -تعالى- في محكم التنزيل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [المجادلة: 7].
ولقد رغب الله -عز وجل- بالخوف في كتابه الكريم: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن: 46], وقال في كتابه الكريم: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 40، 41], وفي الحديث القدسي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -تبارك وتعالى- يقول: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أبدا أمنين ولا خوفين, إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع فيه عبادي, وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي".
وسئل ابن عباس عن الخائفين فقال: "قلوبهم بالخوف فرحة, وأعينهم باكية, يقولــون: كيف نفرح والموت وراءنا, والقبر أمامنا, والقيامة موعدنا, وعلى جنهم طريقنا, وبين يدي الله موقفنا".
وأعظم الخائفين من الله هو رسولنا -صلى الله عليه وسلم-, فعن عبد الله بن الشـــخير -رضى الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دخل الصلاة يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم, ونفعني وإياّكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم, وهو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعهد, وآله وصحبه ومن تبعه, وبعد:
أيها الأحبة الكرام: إن من تأمل أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- وأحوال الســلف الصالح من بعدهم, وجدهم في غاية الجد في العمل مع غاية كبيرة من الخوف, ونحــن جمعنا بين التقصير بل التفريط والأمن.
فهذا الصديق -رضي الله عنه- يقول: "وددت أني شجرة تؤكل وتعضد"؛ وهذا من شدة خوفه من الله, وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قرأ مرة سورة الطور إلى أن بلغ قوله -تعالى-: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) [الطور: 7، 8], فبكى واشتد بكاؤه, وقال عبد الله بن عامر: رأيت عمر أخذ نبتة من الأرض فقال: "ليتني كنت هذه النبتة, ليتني لم أخلق, ليت أمي لم تلدني, ليتني لم أكن شيئا مذكورا, ليتني كنت نسيا منسيا", وكان في خد عمر بن الخطاب خــطان أسودان من البكاء, وهذا من شدة خوفه من الله, فرضي الله عن العمرين أعظم الرضاء.
وهذا عثمان بن عفان من شدة خوفه لله -عز وجل-, كان إذا وقف على القبر يبكي حتى تبتل لحيته وقال: "لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي؛ لاخترت أن أكون رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير".
واسمعوا إلى كلام إبن القيم الجوزية -رحمه الله-: "يامغرورا بالأماني! لُعن إبليس وأهبط من منزل العز بترك سجدة واحدة أمر بها, وأخرج آدم من الجنة بلقمة تناولها, وأمر بقتل الزاني أشنع القتلات بإيلاج قدر الأنملة فيما لايحل له, وأمر بإشباع الظهر سياطا بكلمة قذف أو بقطرة مسكر, وقطع عضو من أعضائك بثلاثة دراهم, فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيك, فلا يخاف عقباها, دخلت إمراة النار في هرة حبستها, وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقى لها بالا؛ يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب, وإن الرجل ليعمل بطاعة ستين سنة, فإذا كان عند الموت جار بالوصية؛ فيختم له بسوء عمله, فيدخل النار العمر بآخره والعمل بخاتمته".
قال الفضيل بن عياض: "إذا قيل لك هل تخاف الله؟ فاسكت فإنك إن قلت نعـــم كذبت, وإن قلت: لا كفرت", والكثير من أهل زماننا لو سئل لأجاب بالأول, وهومقيم على المعاصي مصر على الكبائر, معلن الحرب على الله, نسأل الله العافية.
فأين الخوف من الله؟ وأين الخشية من الله؟ وأين من يقدر الله حق قدره؟ وأين التفـكر في المآل والمعاد والجزاء والحساب, يقول الله -تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ * لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [الحشر: 19 - 22].
ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم