الخشوع في الصلاة

خالد بن سعود الحليبي

2017-09-29 - 1439/01/09 2017-10-01 - 1439/01/11
عناصر الخطبة
1/فضل الصلاة ومنزلتها 2/تعظيم قدر الصلاة عند الصحابة والتابعين 3/شتان بين صلاتنا وصلاتهم 4/أهمية حُسن الأدب والخشوع في الصلاة 5/من أسباب الخشوع في الصلاة

اقتباس

والصلاة أعظم عبادة يتقرب بها العبد إلى مولاه، وقد طغت عليها فتن العصر وبريقه، حتى لم تصف دقائقها القلائل من تكدير وتفكير، بل أصبحت - كما يشكو كثير جدًّا من الناس- غرفة عمليات هادئة، يخططون فيها لما بعد الصلاة، ويستعدون فيها نفسيًّا لمواجهة الآخرين، ويرددون بهمس ذهني ما قد يقولونه للناس، ولا ينتبه أحدهم إلا على السلام، فيحزن المخلِص، ويعتصر قلبه ألمًا لما قد فاته من أجر عظيم، وما نقص من صلاته من فضل كبير.

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي منَّ علينا بالإسلام وأمرنا بعبادته وحده لا شريك له، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام وحج البيت الحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

 

أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، وحافظوا على صلاتكم؛ قياماً بها في أوقاتها في المساجد، أقيموها بأركانها وواجباتها وسننها والطمأنينة والخشوع فيها، فإنَّ ذلك من علامات فلاح العبد وفوزه؛ قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)[المؤمنون:1-2]، قال الإمام السمعاني -رحمه الله-: "الْخُشُوع خوف الْقلب، وَحَقِيقَته هُوَ الإقبال فِي الصَّلَاة على معبوده، والتذلل بَين يَدَيْهِ، وَيُقَال: هُوَ جمع الهمة، وَدفع الْعَوَارِض عَن الصَّلَاة، وتدبر مَا يجْرِي على لِسَانه من الْقِرَاءَة وَالتَّسْبِيح والتهليل وَالتَّكْبِير"(تفسير السمعاني 3/462).

 

وقال الإمام ابن رجب -رحمه الله-: "وأصلُ الخشوع هو: لينُ القلبِ ورِقَتُه وسكونُه وخشوعُه وانكسارُه وحرقتُه، فإذا خشعَ القلبُ تبعهُ خشوعُ جميع الجوارح والأعضاءِ لأنَّها تابعة له"(تفسير ابن رجب الحنبلي2/8).

 

أيها المسلم: إنَّ الذي يُكتب لك من صلاتك مقدار خشوعك فيها، فكلَّما كنت خاشعاً كانت صلاتك أكمل، فانظر إلى صلاتك هل أنت خاشع فيها، أم أنَّك تهيم تفكيراً في الدنيا ومشاغلها وهمومها؟ هل أنت تتدبر ما تقول في صلاتك؟ هل استحضرت معنى: الله أكبر عندما تقولها، هل تدبرت الآيات التي تقرؤها؟ هل أنت حاضر القلب عندما تقول: سبحان ربي العظيم سبحان ربي الأعلى رب اغفر لي؟ هل انصرف قلبك إلى صلاتك وتركت الدنيا خلف ظهرك؟ هل شعرت وأنت تصلي أنَّك تقف بين يدي الله -تعالى-؟ قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "للْعَبد بَين يَدي الله موقفان: موقف بَين يَدَيْهِ فِي الصَّلَاة، وموقف بَين يَدَيْهِ يَوْم لِقَائِه، فَمن قَامَ بِحَق الْموقف الأول هوّن عَلَيْهِ الْموقف الآخر، وَمن استهان بِهَذَا الْموقف وَلم يوفّه حقّه شدّد عَلَيْهِ ذَلِك الْموقف"(الفوائد لابن القيم، ص:200).

 

عباد الله: من خشع في صلاته فإنَّها تكون قرَّة عينه، ويرزق حبها ويجد لذة عند قيامه بها، قال ابن القيم -رحمه الله-: "الصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة.. وبالجملة فمن كان قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه ولا أنعم عنده منها، ويودّ أَن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها"(ينظر كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين ص: 307).

 

معاشر المسلمين: إنَّ راحة المؤمن في صلاته، ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول لبلال -رضي الله عنه-: "قُمْ يَا بِلَالُ فَأَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ"(أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وصححه الألباني). قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "من أهم الأمور في الصلاة الخشوع فيها والإقبال عليها بالقلب والقالب حتى يؤديها المصلي خاشعاً مطمئناً خاضعاً لربه مُحضِراً قلبه بين يديه -سبحانه وتعالى- يرجو رحمته ويخشى عقابه، لا ينقرها كالمنافقين ولا يذهب قلبه ها هنا وها هنا، بل يجمع قلبه على الصلاة حتى يفرغ منها ويستحضرَ أنَّه بين يدي الله -عز وجل-" (مجموع فتاوى ابن باز 5/30).

 

عباد الله: إنَّ أول ما يُفقد من الدين الخشوع في الصلاة، عَنْ حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: "أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْخُشُوعُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلَاةُ"(أخرجه الحاكم:8448).

 

فعلى المرء أن يجاهد نفسه على الخشوع في الصلاة، ويبذل الأسباب الموصلة إليه، ومن تلك الأسباب: أن يذهب إلى المسجد مبكِّراً يمشي بطمأنينة وسكينة فيصلي ما كتب له من النافلة، ويدرك تكبيرة الإحرام، وأن يصلي صلاة مودِّع لا يعلم هل يصلي الصلاة التي بعدها أم يحول دونه الموت، "يروى عن حاتم الأصم -رحمه الله- أنه سئل عن صلاته فقال: إذا حانت الصلاة أسبغتُ الوضوءَ وأتيتُ الموضعَ الذي أريدُ الصلاة فيه فأقعُدُ فيه حتى تجتمعَ جوارحي ثم أقوم إلى صلاتي وأجعلُ الكعبة بين حاجبيَّ والصراطَ تحت قدميَّ والجنةَ عن يميني والنارَ عن شمالي وملكَ الموت ورائي أظنُّها آخرَ صلاتي ثم أقوم بين الرجاء والخوف وأكبر تكبيراً بتحقيق وأقرأُ قراءةً بترتيلٍ وأركعُ ركوعاً بتواضع وأسجُد سجوداً بتخشُّع وأقعُدُ على الورك الأيسر وأفرِشُ ظهرَ قدمها وأنصِبُ القدمَ اليمنى على الإبهام وأتبعها الإخلاص ثم لا أدري أقبلت مني أم لا".

 

عباد الله: احرصوا على تأدية الصلاة بخشوع، فإنَّ ذلك من أسباب تكفير الذنوب، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِن امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ"(أخرجه مسلم).

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-:"إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْصَرِفُ وَمَا كُتِبَ لَهُ إِلا عُشْرُ صَلاتِهِ تُسْعُهَا ثُمْنُهَا سُبْعُهَا سُدْسُهَا خُمْسُهَا رُبْعُهَا ثُلُثُهَا نِصْفُهَا"(أخرجه الإمام أحمد وحسنه الألباني)، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا-: "لَيْسَ لَكَ مِنْ صَلاتِكَ إِلا مَا عَقَلْتَ مِنْهَا"، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "لا نِزَاعَ أَنَّ هَذِهِ الصَّلاةَ لا يُثَابُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا إِلا بِقَدْرِ حُضُورِ قَلْبِهِ وَخُضُوعِهِ"(مدارج السالكين:1/132).

 

اللهم ارزقنا الخشوع في الصلاة وتقبلها منا يا رب العالمين.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي له الحمد كله وإليه يرجع الأمر كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.

 

أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله -عز وجل-؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102].

 

عباد الله: إنَّ الخشوع في الصلاة من سمات أهل الإيمان؛ فقد كان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- إذا قرأ القرآن في الصلاة لا يملك دمعه؛ فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ فِي مَرَضِهِ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ"، قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعِ النَّاسَ مِنَ البُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ.(أخرجه الشيخان)، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشوعه.

 

وقَالَ ثَابِتٌ البُنَانِيُّ: "كُنْتُ أَمُرُّ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ خَلْفَ المَقَامِ يُصَلِّي، كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ مَنْصُوْبَةٌ لاَ تَتَحَرَّكُ".

وكان علي بن الحسين -رحمه الله- إذا قام إلى الصلاة أخذته رِعدة فقيل له: ما لك؟ فقال ما تدرون بين يدي من أقوم ومن أناجي!

 

وكَانَ البخاري -رحمه الله- يُصَلِّي ذَاتَ لَيْلَةٍ، فلسعَهُ الزُّنْبُورُ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً، فَلَمَّا قضَى الصَّلاَةَ، قَالَ: انْظُرُوا هذا الذي آذَانِي في صلاتي. وكَانَ المُعَلَّى بنُ مَنْصُوْرٍ يَوْماً يُصَلِّي، فَوَقَعَ عَلَى رَأْسِهِ كُورُ الزَّنَابِيْرِ، فَمَا الْتَفَتَ وَلاَ انْفَتَلَ حَتَّى أَتَمَّ صَلاَتَه، فَنَظَرُوا، فَإِذَا رَأْسُهُ صَارَ هَكَذَا مِنْ شِدَّةِ الانْتِفَاخِ.

 

معاشر المسلمين: احرصوا على الخشوع في صلاتكم فإنكم بذلك مأمورون وعليه تثابون وليس لكم من صلاتكم إلا ما عقلتم منها.

 

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]؛ اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد، اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين.

 

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90]؛ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.

 

المرفقات

الخشوع في الصلاة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات