الخبيئة الصالحة وحاجتنا إليها

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/تعريف الخبيئة الصالحة وأهميتها 2/الترغيب في الخبيئة الصالحة وفضائلها 3/صور ونماذج من الخبيئة الصالحة 4/بعض الأمور المعينة على التوفيق لعبادة الخفاء

اقتباس

الخبيئة الصالحة هي زينة العبد في خلوته، وزاده لآخرته، بها تُفرَج الكربات وتسمو الدرجات، وتكفّر السيئات، دافعها الإخلاص، ويزيّنها الصدق، يلفّها الكتمان، يفعلها العبد بعيداً عن العيون والأنظار، في موقف إيمانيّ صافي لا يشوبه طلَب سمعة ولا شهرة..

الخطبة الأولى:

 

أيها الإخوة: عَنْ الزُّبَيْر بْن الْعَوَّامِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَبْءٌ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ"(أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ، والضياء في المختارة، وصحَّحه الألباني).

 

والخَبْءُ: أَيْ: شيءٌ مَخْبُوء، أي: مُدَّخَر، وكلٌّ يستطيعُ ذلك؛ فالموفَّقُ مَن ادَّخرَ له عملاً صالحاً لا يطَّلع عليه أحد حتى أقرب الناس إليه، ويسمى كذلك بالخبيئة الصالحة، وهي أن يجعل العبد بينه وبين الله -تعالى- طاعة أو عبادة من غير الفريضة، أو عملاً صالحاً لا يطلع عليه أحد حتى أهله إلى أن يَلْقَى الله -تعالى-.

 

الخبيئة الصالحة -أيها الإخوة- هي زينة العبد في خلوته، وزاده لآخرته، بها تُفرَج الكربات وتسمو الدرجات، وتكفّر السيئات، دافعها الإخلاص، ويزيّنها الصدق، يلفّها الكتمان، يفعلها العبد بعيداً عن العيون والأنظار، في موقف إيمانيّ صافي لا يشوبه طلَب سمعة ولا شهرة، ولا تعلّق بمدح وثناء ولا دافع رياء.

 

وهي كنز من كنوز الحسنات، يوفّق الله لها بعض عباده الصالحين الذين أخلصت قلوبهم لله -تعالى-، فلا يستطيعها المنافقون ولا المراؤون. رغَّب فيها الإسلام لتكون للمؤمن فرجاً عند الكربات، وطوقاً للنجاة من النيران، وغرساً طيباً في فسيح الجنان.

 

رغَّب فيها سيِّد الأنام ورتَّب عليها عظيم الأجر والإكرام؛ من ذلك حثّه -تعالى- على صدقة السِّرّ، وأنها سبب لتكفير السيئات وإطفاء غضب الرّبّ -سبحانه وتعالى-، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ"(رواه الطبراني في المعجم الكبير وحسَّنه الألباني)؛ أي: أنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تكون سبباً لذلك فينبغي لمن أغضب ربه بمعصية أن يتدارك ذلك بصدقة السِّرّ.

 

وقبل ذلك جعل رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدداً من أعمال السِّرّ سبباً في أن يظلّ الله من عملها بظلِه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ -تعالى- فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ وَذَكَرَ مِنْهُم: رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ؛ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ"(رواه البخاري ومسلم).

 

فالعفة عن دعوة للزنا في الخفاء، وإخفاء الصدقة، وذكر الله في الخفاء مع البكاء من خشيته؛ أسباب من أسباب إظلال الله في ظله في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنة، عندما تدنو الشمس من الناس على قدر ميل، ويعرق الناس عرقاً شديداً يُلجم بعضهم إلجاماً هنا هنا يتميز الأخفياء في تعبُّدهم ويظلهم الله بظلّه.

 

أما عموم الخلق فهم في حرّ الشمس ولهيبها، ولو تأملنا الأعمال المذكورة بالحديث لوجدنا الصفة الجامعة لها الخفاء. فاللهم اجعلنا من الأخفياء، وارزقنا عبادة تكون سبباً في إظلالنا بظلك.

 

أيها الأحبة: وأخبرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن الله يحب مَن أخفى صدقته، ومن قام الليل بالخفاء. وهو في قوم يصعب معهم الاختفاء، فَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ.."، وَذَكَرَ منهم: "رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ بِقَرَابَةٍ بَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ فَأَعْطَاهُ سِرًّا لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلَتَهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، نَزَلُوا فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ يَتَمَلَّقُنِي وَيَتْلُو آيَاتِي"(رواه أحمد والحاكم وصححه الذهبي والأرناؤوط عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ).

 

وأخبرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ ثَلَاثةٌ وَيَضْحَكُ إِلَيْهِمْ، وَيَسْتَبْشِرُ بِهِمْ، وَذَكَرَ منهم: "الَّذِي لَهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ، وَفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ، فَيَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَذَرُ شَهْوَتَهُ، فَيَذْكُرُنِي وَيُنَاجِينِي -أي: الله- وَلَوْ شَاءَ لَرَقَدَ"(رواه أحمد والبيهقي عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني).

 

ومما أخبرَ به النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ عَنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ مِنْ بَيْنَ حِبِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلَاتِهِ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي.."(رواه أبو داود وابن حبان عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني).

 

أيها الإخوة: هل فكرنا بخبيئةِ عملٍ صالح نتاجر بها مع الله؟ هل تأملنا الأجور الكبيرة والربح والفلاح والرضوان، هيّا إلى دوحات البر والخير، من صلاة في دُجى الليل والأهل نيام، أو تلاوة لكتاب الله بتأمل وخشوع وخضوع، أو مناجاة لله بالأسحار فيها الاستغفار والتسبيح والدعاء بقلوب حرَّى، وبدموع الخوف والرجاء، أو لصيام لا يعلمه إلا الله، أو تفريج لمكروب، وإغاثة لملهوف أو صدقة في السر تطفئ غضب الرب، لتكن لنا خبيئة صالحة ندّخرها ليوم فقرنا وذُلّنا، ليوم تشخص فيه الأبصار، وتُبْلى فيه السرائر، ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولتكن تلك الخبيئة مغلّفة بالصدق، معطّرة بالإخلاص، محاطة بالكتمان، حتى لا تفقد أجرَها وثوابَها.

 

أيها الإخوة: هنيئاً للأخفياء محبة الله لهم؛ فَعَنْ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ"؛ المراد بالغنى هنا غني النفس فهو الغني المحبوب.

 

بارك الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: هذه المنزلة العظيمة والمكانة العلية الرفيعة تحتاج لبلوغها لمن يرومها، الدعاء وتحري ساعات الإجابة، والاستمرار في الدعاء، والإلحاح فيه، لا تملّ ولا تكلّ، ومما ينبغي أن ندعو به هذا الدعاء فَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَلشِّرْكُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ؟ قَالَ: قُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ"(رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني).

ولذلك احفظ هذا الدعاء وكرره كثيراً، واسأل الله بصدق أن يرزقك الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال.

 

ومما يعين على التوفيق لعبادة الخفاء: تدبر معاني الإخلاص لله -سبحانه-، وتذكير النفس به دائمًا، وهو الدافع الأول على عمل السرّ؛ ذلك إن الباعث على عمل السر هو أن يكون العمل لله وحده وأن يكون بعيدًا عن رؤية الناس. وأعظم معين عليه صدقة السرء، وهي طريقة عملية سهلة لتطبيق عمل السر عمليًّا، فبالإكثار من صدقة السر يُعَوِّد الإنسان نفسه على أعمال السر ويتشرّبها قلبه وتركن إليها نفسه.

 

أسأل الله أن يجعلنا من الأخفياء الأصفياء..

 

وصلوا وسلموا…

 

المرفقات

الخبيئة الصالحة وحاجتنا إليها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات