عناصر الخطبة
1/ للوسائل حكم المقاصد 2/ الحيل الموصلة إلى الحرام مخادعة 3/ مدار الخداع المحرم وحقيقته 4/ سوء التحايل على إسقاط ما فرضه الله 5/ قصة أصحاب الجنة.. دروس وعبر 6/ اليهود هم رأس الضلالة في الحيل المحرمة 7/ احتيال أصحاب القرية على حرمات الله 8/ وجوب الحذر من استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيالاقتباس
إن الله سبحانه إذا حرّم شيئاً حرّم كل وسيلةٍ تفضي إليه، وحرم كلَّ حيلةٍ يُحتال بها إليه، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه الذي هو وسيلة تحصيله، ولذا قرر أهلُ العلم أن للوسائل حكم المقاصد، فإذا كان الشيءُ حراماً فيحرم معه كل الوسائل المفضية إليه، وإنْ كانت في ظاهرها حلالاً ..
أما بعد: فإن الله سبحانه إذا حرّم شيئاً حرّم كل وسيلةٍ تفضي إليه، وحرم كلَّ حيلةٍ يُحتال بها إليه، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه الذي هو وسيلة تحصيله، ولذا قرر أهلُ العلم أن للوسائل حكم المقاصد، فإذا كان الشيءُ حراماً فيحرم معه كل الوسائل المفضية إليه، وإنْ كانت في ظاهرها حلالاً.
وكان الصحابة يُسمون الحيل الموصلة إلى الحرام مخادعة، جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثاً، أيُحِلُّها له رجلٌ؟ فقال: من يخادعِ اللهَ يخدعْه.
وصح عن أنس وعن ابن عباس أنهما سُئلا عن بيع العينة، وهو من الحيل على القرض الربوي بأن يبيع شخص لآخر محتاج للنقد سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بثمن حالٍ أقل، فقالا: إن الله لا يُخدَع، هذا مما حرم اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم ، فسميا ذلك خداعاً؛ لأنه موصل للحرام، ولأن المقصود منه الحرام لا الحلال.
ومدار الخداع على إظهار فعل أو قولٍ لغير مقصوده الذي جعل له، وهذا متحقق في الحيل المحرمة.
وفي القرآن قصص ظاهرة أظهر الله فيها شدة عقابه بالمحتالين على شرعه لإسقاط واجب، أو لتحليل محرم، فمن ذلك قصة أصحاب الجنة الذين تواطئوا ليلاً أن يصرموا جنتهم مصبحين قبل أن يتوافد عليهم المساكين لأخذ ما فرضه الله لهم، فلما أنْ تحايلوا على إسقاط ما فرضه الله في ثمارهم عاجلهم جل جلاله بعقوبة على مجرد تلك النية الخبيثة التي تواطئوا عليها.
فإذا كانت هذه هي عقوبة من عزم على الحيلة المحرمة فكيف بعقوبة من يفعلها مراراً مُصِراً عليها إصراراً، ( فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) [القلم: 19] فأبادها وأتلفها ( فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) [القلم: 20] أي: كالليل المظلم، ذهبت الأشجار والثمار، هذا وهم لا يشعرون بهذه العقوبة، فلما أصبحوا تنادوا: ( أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ) [القلم: 22- 24] يتخافتون بينهم بخفت أصواتهم خشية أن يسمعهم أحد فيخبر المساكين بما تواطئوا عليه من قصد حرمانهم من ثمار جنتهم.
( وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) [القلم: 25]، أي وغدوا صباحًا على قصد قادرين على صرمها قبل أن يطلع عليهم المساكين.
(فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) [القلم:26]: أي مخطئو الطريق، فما هذه جنتنا الموقِرة بالثمار. ولكنهم لما تأملوها أكثر استدركوا، وعلموا أن الله قد كاد لهم قبل أن يكيدوا بالمساكين، فحرمهم ثمارَ جنتهم كلَّها قبل أن يَحرِموا منها المساكين.
وليس هذا بالعذاب الوحيد الذي ينتظر المحتالون على شرع الله، ولكنه العذاب الأدنى في الدنيا، ثم ينالهم عذابٌ أكبرُ يوم القيامة، (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) [القلم: 33].
أيها المسلمون: واليهود هم رأس الضلالة في الحيل المحرمة، وهم أشهرُ من تحايل على استحلال الحرام ، فكل من تحايل على الحرام بأدنى الحيل فله شبهٌ باليهود، وهم سلفه وأئمته في الضلالة، يقول صلى الله عليه وسلم : "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود ، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل".
ومن حيلهم في استحلال ما حُرِّم عليهم أن الله لما حرَّم عليهم شحوم بهيمة الأنعام أذابوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه، والشحم إذا أُذيب يسمى ودكاً، فقالوا: إنما حرم علينا الشحم، ونحن إنما نبيع الودك، فاستحلوا محارم الله بأدنى الحيل.
ومن حيلهم في استحلال ما حُرِّم عليهم، ما حكاه الله في كتابه عن أصحاب السبت من اليهود، وكانوا من أهل قريةٍ ساحلية يقتاتون على صيد السمك، فاستحلوا محارم الله بحيلة لم تزدهم إلا إثماً على إثم.
وكان موسى عليه الصلاة والسلام قد أمر اليهود بتعظيم يوم الجمعة؛ لأنه أعظم الأيام عند الله سبحانه، فأبوا وقالوا: يا موسى، إن الله لم يخلق يوم السبت شيئاً، وزعموا أن الله لما خلق السموات والأرض في ستة أيام استراح يوم السبت، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وفي ذلك يقول سبحانه رداً عليهم : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) [ق: 38].
والمقصود أنهم قالوا: يا موسى اجعل لنا يوم السبت، فلما لم يطيعوه عاقبهم الله، فصرفهم عن يوم الجمعة الفاضل إلى يوم السبت المفضول، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فُرض عليهم يومُ الجمعة فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع".
وفي رواية لمسلم : " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة". وفي ذلك يقول الله: (إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) [النحل: 124].
وكان من تشديد الله عليهم لما خالفوا أمر نبيه موسى عليه الصلاة والسلام أن حرّم عليهم العملَ يوم السبت جزاءً وفاقاً، فكان حراماً على أهل هذه القرية الحاضرةِ للبحر أن يصيدوا السمك يوم السبت، وفي ذلك يقول سبحانه: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) [النساء: 134].
ثم ابتلاهم بأن جعل الحيتان تأتيهم إلى شاطئ قريتهم يوم السبت ظاهرةً مُشرعة بكثرة، فإذا ذهب يوم السبت ذهبت الحيتان، فلم يروا حوتاً صغيراً ولا كبيراً. وهذا من عظيم ابتلاء الله لهم؛ جزاءَ تعنتهم على نبيهم الذي دعاهم إلى تعظيم يوم الجمعة فأبوا إلا السبت، فلما طال عليهم الأمدُ وقست قلوبهم عمدت طائفة من هذه القرية إلى حيلة خبيثة أرادوا بها استحلالَ ما حرم الله سبحانه.
فكانوا إذا دنا يوم السبت نصبوا الشباك، وجعلوا الحفر وأقاموا الحواجز، فإذا أتت الحيتان يومَ السبت حوّطوا عليها واصطادتها الشباك، فإذا جاء يوم الأحد استخرجوها، وقالوا: إنما اصطدناها يوم الأحد، ولم نصطدها يوم السبت.
كانوا يقولون ذلك وهم في دواخل نفوسهم مستيقنون أنهم إنما يستحلون محارم الله بحيلة باطلة، ويدل لذلك أن طائفتين من أهل قريتهم لم يتابعوهم على حيلتهم، بل كانوا ينكرون عليهم فعلهم، فطائفة كانت تنكر عليهم إنكار القلب دون اللسان، وأخرى كانت تواجههم بالإنكار باللسان.
وفي ذلك يقول سبحانه: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [الأعراف: 163- 166]، وهؤلاء هم الذين عناهم الله بقوله: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة: 65].
يقول ابن القيم: "فلما مسخ أولئك المعتدون دينَ الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته - مسخهم الله قردةً تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاءً وفاقاً، ويقوي ذلك أن بني إسرائيل أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل وهو أعظم من الصيد في يوم بعينه، ولم يعاقب أولئك بالمسخ كما عُوقب به من استحل الحرام بالحيلة؛ لأن هؤلاء لما كانوا أعظم جرمًا كانت عقوبتهم أعظم ".
اللهم اجعلنا لشرعك عاملين، ولكتابك محكمين، ولحرماتك معظِّمين، وعند حدودك وقّافين، ولعهدك موفين غير ناكثين ولا ناكصين ولا مبدلين ولا محتالين.
أقول ما تسمعون ....
الخطبة الثانية:
أما بعد: فحقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال. وأن يعلم أن لله يومًا تقع فيه الرجال وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح، وتبلى فيه السرائر، وتظهر فيه مضمرات القلوب، ويصير الباطل فيه ظاهراً، والسرُ علانية، والمستورُ مكشوفاً، والمجهولُ معروفاً، ويحصَّل ما في الصدور، ويبعثر ما في القبور، وتجري أحكامُ الله تعالى هنالك على القصود والنيات؛ كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات، وهنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
اللهم آت نفوسنا تقواها... اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي.. اللهم اجعلنا أغنى خلقك بك وأفقر عبادك إليك، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم