عناصر الخطبة
1/ العبد بين الترغيب والترهيب 2/ أحوال الناس عند الموت 3/ أحوال الناس في قبورهم 4/ القبر حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة 5/ علاقة الروح بالجسد في الدنيا والآخرة 6/ تواتر الأدلة في الكتاب والسنة على إثبات عذاب القبر ونعيمهاقتباس
لو تكلم الموتى لسمعتم منهم أعاجيب، ولو وقفت عند المقبرة رأيت تحت جنادل ملوكا ومملوكين، ورأيت رؤساء ومرؤوسين بعدما كانوا في عز وشرف وخدم وحشم، وإذا هم طعام للدود والثرى.. لو تكلم هؤلاء وقاموا من قبورهم فنزعوا عنهم أكفانهم وأذن الله لهم أن يتحدثوا، أو قامت إليك عظامهم ورفاتهم لما أمرك أحدهم بزنا ولا بشرب خمر، ولا قال لك: اغتنم حياتك، اغتنم شبابك واعمل زنا وفجور...لا، ما أمرك إلا بصلاة وصوم وعبادة وقُربة ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جَلَّ عن الشبيه والند والنظير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله ربه رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، فهدى الله تعالى به من الضلالة، وبصَّر به من الجهالة، وجمع به بعد الشتات، وأمَّن به بعد الخوف، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغر الميامين، ما اتصلت عين بنظر، ووعت أذن بخبر، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: لقد نوَّع ربنا جل في علاه كلامه في كتابه العظيم ما بين زجر وتخويف وما بين ترغيب لعباده وثواب..
وقد كان نبينا صلوات ربي وسلامه عليه تتنوع أحاديثه وخطبه بين أصحابه؛ فتارة يحدثهم عليه الصلاة والسلام بأخبار الأمم السابقة، وتارة يتحدث في أمور فقهية تعبدية، وتارة يطرح النبي صلى الله عليه وسلم الشبهات التي يطرحها بعض الكافرين على أصحابه الكرام.
أما نحن اليوم فسوف نرسل رسالة إلى قلوبنا نتذكر فيها شيء من أمر آخرتنا، ننقي بها القلوب ونتذكر بها علام الغيوب لعل الله تعالى أن ينفع هذه القلوب بها.
روى الإمام أحمد في مسنده عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال " أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنازة رجل من الأنصار، قال فلما وصلنا إلى القبر فإذا هو قد حفر ولما يلحد.." يعني قد حفر القبر لكن لم يحفروا اللحد وهو الجانب من القبر.
قال " ولما يلحد، قال وقعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخذ عصى وجعل ينكت في الأرض وقعد أصحابه حوله، قال وكأن على رؤوسهم الطير، قال فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوهم الشمس معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة، قال: فيقعدون منه مد البصر"
وهذا يكون أيها المسلمون عند خروج الروح إلى بارئها، إذا احتضر المرء وجعلت روحه في تحشرج في حلقه لتخرج وقد أذن الله تعالى لها بالخروج وهذه أخر الأنفاس له في هذه الدنيا فهو يرى الذين حوله والله جل وعلا يعلم متى تخرج روحه وهو نفسه الميت لا يعلم ذلك..
والله تعالى قد وصف ذلك فقال جل في علاه (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة: 83- 87].
يقعد هؤلاء الملائكة منه مد بصره ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يقعد عن رأسه فيقول يا أيتها الروح الطيبة كنتِ في الجسد الطيب اخرجي إلى رحمة من الله ورضاه.. أنتِ روح طيبة لأنكِ لم تتعلقي بمعازف محرمة ولا بزنا وفواحش ولم تغتابي أحد ولم تحدثي صاحبك أن يفعل منكر، أنتي روح طيبة إنما تحثيه على الخير وتدلينه عليه، إنما تنبيه على الشر وتحذريه منه، أنت روح طيبة لم يفلح الشيطان في الوسوسة لكِ يومًا في أن تقودي الجسد إلى معصية..
كنتِ في جسد طيب ما عرفت يده إلا في دعاء وصلاة وصدقة، ولا عرف لسانه إلا بذكر وتسبيح وتهليل ولا عرف من عينه إلا النظر إلى الحلال، ولا عرف من جسده ورجله إلا المشي إلى الحلال والمساجد والجهاد والصدقة والكد على العيال والعمل الصالح..
أنتِ روح طيبة وأنت جسد طيب إذًا كيف ينبغي أن يتعامل معك قال: يا أيتها الروح الطيبة كنتِ في الجسد الطيب اخرجي إلى رحمة من الله ورضوان، قال فتخرج روحه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء..
يعني كما تسيل القطرة من القردة التي تكون من جلد فإذا قلبتها فخرج الماء كله مندفعا ثم لم يبقى إلا قطرة واحدة من ماء في أعلى هذه القربة فإنها تبدأ تسيل شيئا يسيرا رزينا هادئا ليس فيه عنف ولا فيه شدة تنزل هذه القطرة بيسر وسهولة حتى تصل إلى فم السقاء ثم تفارق هذا السقاء الذي كانت فيه.
يقول عليه الصلاة والسلام: "تخرج روح هذا المؤمن خروجا سهلا لينا" لأنها تبشر لما بعد الموت من روح وريحان ورب راضي غير غضبان، قال: تخرج روحه تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها ملك الموت، قال فإذا أخذها لم يدعها في يده طرفة عين..
ملائكة الرحمة التي نزلت بكفن من الجنة وبحنوط من الجنة، طيب من الجنة وألبسة من الجنة لا يرضوا أن تتأخر هذه الروح الطيبة في يد ملك الموت ولا طرفة عين.
قال: "ولا يدعوها في يده طرفة عين" فيأخذوها منه فيجعلوها في ذلك الحنوط يعطرونها ويطيبونها فقد طيبت هذه الروح نفسها في الدنيا بالذكر الحسن والطعام الحسن الحلال وبالكلام الحسن والريح الحسن، طيبت نفسها بالحضور في المساجد والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحمل هم الإسلام، روح تستحق الإكرام..
قال: فيأخذوها منه فيجعلوها في ذلك الحنوط ثم يجعلوها في ذلك الكفن ثم يصعدون بها ، إذا صعد بالروح وفارقت الجسد وصاح العيال ووزع المال وارتخت اليدان وزاغت العينان ثم أيقن أهله أنه مات بين أيديهم وقد فارقت روحه جسده ترتفع مع الملائكة إلى السماء ويقوم أهله إلى هذا الجسد يهيئونه بتغسيل وتكفين وينبئون الناس بموته ليجتمعوا للصلاة عليه.
أما روحه فلا يدرون ماذا يفعل بها لكن الله تعالى يدري ترفعها الملائكة إلى السماء فيصلون إلى السماء الأولى..
قال: فيستفتحون له فتقول الملائكة من؟ من هذا الذي تأمرنا الملائكة أن نفتح له من؟ ليس أي روح يفتح لها أبواب السماء من؟ قال فيقولون الملائكة التي تحمله بهذا الطيب الحسن والحنوط الطيب والكفن الحسن تقول هذه روح فلان بن فلان بأطيب أسمائه وأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا..
قال: فيفتحون له ثم يصعدون إلى السماء الثانية ومقصدهم الوصول إلى رب العباد جل وعلا، قال فيصلون إلى السماء الثانية فيستفتح له فإن قالوا من؟ فتقول الملائكة هذا فلان بن فلان بأحب أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا فيفتحون له..
رجل صالح تعرفه ملائكة السماء وتحب لقائه وتفتح له أبواب السماء له ذكر حسن، فله قبول في الأرض ومحبة في السماء، قال فيفتح له فيصعدون به إلى السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة إلى السماء السابعة فيستفتح له فيفتح له ثم يقول الله تعالى: أفرشوا لعبدي من الجنة وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى..
قال: فتعاد روحه في جسده وقد دفن جسده في الأرض ثم يأتيه ملكان فيقعدانه بأحسن طريقة وألين أسلوب، قال فإذا قعد نظر فخيل له أن الشمس تغرب فيقول لهما أنذراني حتى أصلي العصر، فيقولان له: إنك مصلِ، من ربك؟ فيقول ربي الله، ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، يقولون: من نبيك؟ فيقول: نبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيقولون: وما علمك؟ من أخبرك بهذا؟ من نبأك به؟ من علمك؟
هل هو فقط كلام تحفظه دون أن يؤثر في حياتك، دون أن يكون له تطبيق في واقعك، من علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فعرفته وفقهته.. قال: فيقول له الملكان وهما اللذان يرحمانه ويتلطفان معه ويختار أحسن وألين العبارات ليتكلما معه، يقولون له نم هانئا، فيقول الله تعالى: صدق عبدي، عبدي كان كادح في الدنيا، صدق عبدي فافرشوه من الجنة وأطعموه من الجنة وافتحوا له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وريحانها وينظر إلى مقعده من الجنة..
فيقول يا ربي أقم الساعة..أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، يا رب ما دام إني في الجنة وأن ذاك مقعدي في الجنة، يا رب أنا عندي عيال وذاك مالي في الجنة ينتظرني، ذاك قصري، وتلك زوجاتي، وذاك النهر، وذاك النعيم، يا رب أقم الساعة، أقم الساعة.. حتى أرجع إلى أهلي ومالي..
قال عليه الصلاة والسلام: ثم يأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح يأتيه بعدما وسع عليه قبره حتى صار مد البصر، فيقعد إليه هذا الرجل الصالح ويقول له: أبشر بالذي يسرك، فيقول: من أنت؟ فوجهك يجيء بالخير، ابتسامتك ونور وجهك وحسنك وبهائك وكلامك الحسن يأتي بكل خير، من أنت؟ فوجهك يجيء بالخير؟
فيقول: أنا عملك الصالح، أنا لست غريبا عليك أنا صلاتك والناس نيام، أنا صومك في اليوم شديد الحر، أنا صدقك لما كان الناس ينفقون أموالهم، أنا سعيك إلى المسجد في شدة الحر، أنا سجودك بين يدي الله، ألا تعرفني أنا أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، أتظن أنه ضاع سدى، أنا برك بوالديك، أنا ابتلاءك الذي ابتليت به، أنا جهادك في سبيل الله، أنا تلاوتك للقرآن، أنا عنايتك وتربيتك لأولدك، أنا سعيك وراء أولادك وأنت تقول احفظ قرآن وقم صلي، أنا أمرك زوجتك وبناتك بالحجاب، أنا عملك في الدعوة إلى الله، أنا خدمتك لدينك، أنا نفس جديدة عليك، أنا لم أنبت لك من الأرض ولم أنزل من السماء، أنا لست حجر منكر تحولت رجل فجأة..كلا، بل أنت طوال حياتك كنت تسمعني وكنت تسمعني..قال: أنا عملك الصالح..
ولا يزال الرجل يقول: ربي أقم الساعة، أنا غير خائف يا ربي من النفخ في السور لأنك أمنتني، غير خائف من لقائك أنا فرحان بلقائك يا ربي، يا رب أقم الساعة، يا رب عجل بالساعة أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: وأما العبد الفاجر أو الكافر فإذا حضره الموت نزل إليه ملائكة من السماء، سود الوجوه، قال يأتي معهم مسوح من النار وهو أغلظ وأشد ما يلبس كالثوب المليء بالشوك..
قال: فيجلسون منه مد البصر، لا يتشرفون بالاقتراب ولا بالنظر إليه ، قال فيأتي ملك الموت ثم يقول يا أيتها الروح الخبيثة كنتِ في الجسد الخبيث، رجل ما عرفت طريق المساجد، ويد ما عرفت إلا لمس الممسيات ومسك الخمور والوقوع في الفاحشة أو الكتابة المحرمة، أي يد هذا وأي رجل، كيف يكون حال هذا الجسد وهو يعمل على المعصية ومحاربة الدين والتضييق على الدعوة وعلى الخير..
يا أيتها الروح الخبيثة، روح خبيثة ما تأمرين صاحبك إلا بوسوسة محرمة واستجابة للشيطان، يا أيتها الروح الخبيثة كنتِ في الجسد الخبيث اخرجي إلى غضب من الله، اخرجي إلى لعنة من الله وغضب..
قال: فتفرق روحه في جسده، شدة الرعب لا تدري إلى أين تهرب، أتهرب إلى رجله اليمنى أو إلى اليسرى أو إلى يده، أو تكون في بطنه أو في رأسه، تتفرق روحه في جسده، قال: فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول..
السفود هو تلك المحشّ التي يقطع به العشب كأنك أخذته ثم لفتته بصوف مبلول بماء ثم نزعت هذه السكين من ذلك الصوف تتقطع تقطعا، يقول عليه الصلاة والسلام ثم ينزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول..
قال: فإذا انتزعها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك المسوح من النار، ثم يصعدون بها إلى السماء أما أهله يبكون عليه، وأما ماله فيقسم، وأما أطفاله فاطرحوا على صدره يبكون، ربما هناك من فرح بموته، ربما مظلوم يفرح بموت ظالمه، ورب مقهور يفرح بموت من قهره، ورب من أصيب بأذى ولم يستطع أن ينتصر ممن أذاه يفرح بموت مؤذيه..
أقوام إذا ماتوا اهتز لهم عرش الرحمن محبة لهم وبكت عليهم منابر المساجد، وأقوام يموتون فيستبشر الناس بموتهم..
قال: فيصعدون به فيستفتحون له، تقول الملائكة من؟ فيقولون هذا فلان بن فلان يسمونه بأقبح أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، أقبح اسم كان يلقى عليه تعييرا وإغاظة.. الاسم الذي يكره أن يسمعه في الدنيا يقال هذا فلان بن فلان، لا تستحق التكريم أنت ما كرمت جسدت فكنت من أهل الصلاة ولا كرمت يدك فتكون من أهل الصدقة، أنت ما احترمت نفسك فتحترمك الملائكة، ولا جعلت لنفسك قدر حتى يكون لك قدر في السماء..
قال: فلا يفتح له، فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في سجين فأعيدوه إلى الأرض، وقد قال ربنا عن المؤمن اكتبوا كتاب عبدي في عليين، أما هذا اكتبوا كتاب عبدي في سجين واعدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدوهم ومنها أخرجهم تارة أخرى..
قال : فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فينتهرانه، ما يحركانه تحريكا يسيرا لطيفا سهلا لينا.. لا، يأتيه ملكان فينتهرانه، فيقوم فزعا فيقولان له من ربك؟ فيقول: ها ها كأنه يتذكر هذا السؤال أنه حفظه في الدنيا، أنه سمعه في الدنيا، أنه قيل له في الدنيا، لكنه أغلق عليه وتحير فكره واضطرب ، شدة الهول، ها ها لا أدري..
فيقال له: ما دينك؟، على أين دين كنت؟ كنت تعبد من في الدنيا؟هل كنت عبدا لله حقيقة؟ أم عبدا لفرجك وعبدا لكاسك وعبدا لمالك عبدا لكرسيك وعبدا لمنصبك، لذلك كنت تقتل الناس وتظلمهم، ما دينك؟ أين دين كنت عليه..؟ ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري.. فيقول: من هذا الرجل الذي بعث فيكم هل تعرفه؟ تعرف أخلاقه؟ تعرف سننه؟ هل تحبه؟ هل تتبعه؟ هل تدافع عنه؟ هل تعرف صفاته؟ هل قرأت عنه؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ها ها لا أدري.. فيقول الملك: لا دريت ولا تليت أصلا أنت منذ أن كنت في الدنيا وأنت ضايع لا تقرأ ولا تتلو ولا تدري همك شهوتك ومالك ومنصبك وكرسيك وملكك وعرشك، هذا همك أما أمر أخرتك فتحت قدميك..لا دريت ولا تليت.
قال عليه الصلاة والسلام: ثم يضرب بمرزبة، مطرقة لو ضرب به جبل لدكته، قال: فيغوص في الأرض سبعين ذراعا، قال: فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويقول الله تعالى: قد كذب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها ويسمع عذاب أهلها وصراخهم..
ثم يأتيه رجل قبيح الوجه منتن الريح، لا النظر إليه محتمل ولا رائحته تحتمل، فيقول هذا الرجل المنتن القبيح أبشر بالذي يسوؤك، الذي يأتيك أعظم مما ترى الآن، الآن ضربت بمرزبة هذا لا شيء، الآن ضيق عليك حتى اختلفت أضلاعك هذه ليست شيئا، ترى النار وترى مقعدك منها ويأتيك من حرها وريحها وسمومها هذا ليس بشيء..
أبشر بالذي يسوؤك فينظر إليه فإذا قبحا في الوجه ونتن في الريح فيقول من أنت؟ فوجهك يجيء بالشر، فيقول له الرجل: أنا عملك القبيح، أنا لست غريبا عليك، هو زناه الذي زناه وقد تحول أمامه، هو شربه للخمر، هو أكله لأموال الناس بالباطل، هو ظلمه للضعفاء إذا استطاع ظلمهم، هو عقوقه لوالديه، هو شربه للخمر، هو نومه عن الصلاة، هو قتله للناس، هو حكمه بغير ما أنزل الله، هو سكوته عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو كتاباته المحرمة، هو غيبته، هو نميمته، اجتمعت حتى كادت أن تكون جبلا فصارت رجلا..
قال: أنا عملك الخبيث فلا يزال يجالسه يرى من قبح منظره ومن نتن ريحه ما لا يحتمل، فيقول: ربي لا تقم الساعة، يا رب لا تقم الساعة، يا رب لا تقم الساعة مما ينتظره من العذاب في الآخرة..
أيها المسلمون: هذه أحوال الناس في قبورهم، فلو تكلم الموتى لسمعتم منهم أعاجيب، ولو وقفت عند المقبرة رأيت تحت جنادل ملوكا ومملوكين، ورأيت رؤساء ومرؤوسين بعدما كانوا في عز وشرف وخدم وحشم، وإذا هم طعام للدود والثرى..
لو تكلم هؤلاء وقاموا من قبورهم فنزعوا عنهم أكفانهم وأذن الله لهم أن يتحدثوا، أو قامت إليك عظامهم ورفاتهم لما أمرك أحدهم بزنا ولا بشرب خمر ولا قال لك: اغتنم حياتك اغتنم شبابك واعمل زنا وفجور...لا، ما أمرك إلا بصلاة وصوم وعبادة وقربة، استنفع بدنياك..
لكن ولا تنسى أنك ملاقي لله (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص: 77].
نسأل الله تعالى أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأن يجعل قبورنا روضات من رياض الجنة نحن ووالدينا والمسلمون، أقول ما سمعتم واستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه، هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وخلانه ومن اقتفى أثره واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأخوة الكرام: أما عذاب القبر ونعيمه فقد دل عليه أكثر من خمسين دليلاً من الكتاب والسنة وبين أهل العلم أنه لا يستقر إيمان العبد حتى يؤمن أن للقبر عذاب ونعيما..
أما الإنسان الذي لا يدفن والذي يحرق أو الذي يغرق أو تأكله الأسماك أو الذي تأكله السباع أو ما شابه ذلك؛ فإن أمثال هؤلاء يقع لهم أيضًا عذاب ونعيم، وذلك أن عذاب القبر ونعيمه يكون على الروح ويكون الجسد تبعا لها.
والحياة أيها المسلمون في علاقة الروح والجسد تنقسم إلى ثلاثة أقسام، إما أن يكون النعيم للجسد والروح تبعا له كما في الدنيا، كالجسد يشرب شيئا ممتع فيتمتع وتتمتع روحه بعده، الجسد يشم الشيء الحسن فيستمتع وتستمتع روحه بعده، فالجسد هو المستمتع الأول والروح تبعا له.
والحياة الثانية: هي الحياة البرزخية التي ما بين الموت إلى قيام الساعة ليس شرطا أن تكون في القبر لكنها الحياة بين حياتين هي برزخ يعني ما بين حياتين، فهذه يكون العذاب والنعيم للروح والجسد تبعا لها.
لذلك قد تحفر القبر لرجل صالح أو لرجل فاسد فلا ترى في هذا القبر شيء من نعيم ولا شيء من عذاب، فنقول لك إن هذا يقع والعلم عند الله تعالى على الروح فكيف يقع على الروح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء: 85] لكن نؤمن أن فيه عذاب وفيه نعيم حتى وإن لم نره بأعيننا لكنه واقع..
والنوع الثالث من الحياة: هو الحياة في الدار الآخرة في الجنة أو النار وهذا يكتمل فيه النعيم أو العذاب للجسد والروح معا..
ونحن نؤمن بعذاب القبر ونعيمه والأدلة عليه كثيرة متواترة في الكتاب والسنة...
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن ينعمون في قبورهم وممن يستقر الإيمان في قلوبهم، اللهم يا حي يا قيوم نسألك أن تهون علينا سكرات الموت..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم