الحياة الزوجية مشاكل وحلول

ناصر بن محمد الغامدي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/نعمة الحياة الأسرية 2/ الحرص على الحياة الزوجية 3/ من وسائل العلاج عند الزوج 4/ الإصلاح بين الزوجين 5/ متى يشرع الطلاق؟ 6/ النهي عن عضل النساء 7/ متى يشرع الخلع؟ 8/ التلاعب بالطلاق 9/ محاسن الطلاق الشرعي وعواقب الطلاق غير الشرعي .
اهداف الخطبة
بيان مكانة الأسرة وأهمية استقرارها / عرض بعض الحلول للمشاكل الزوجية .
عنوان فرعي أول
حياة هانئة
عنوان فرعي ثاني
الرغبة في الحل
عنوان فرعي ثالث
عندما يصبح الطلاق أو الخلع حلا !

اقتباس

فالطلاق كلمةٌ لا يشك عاقل من الناس في جدواها ونفعها عندما تُصبح الحياة بين الزوجين جحيماً لا يطاق، وعيشاً لا راحة فيه ولا اطمئنان.
أما عند عدم الحاجة إليه فقد نهى الإسلام عنه، بل لقد حرم الإسلام إفساد الزوجة على زوجها بما يدعوه لطلاقها، ومن فعل ذلك فإنّ إثمه عظيم، وعِقابَه أليم، حيث تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم

 

 

 

إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فيا أيها الناس:

اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أنكم ملاقوه وإليه الرجعى، حاسبوا أنفسكم، وزنوا أعمالكم، وتزينوا للعرض الأكبر على الله، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة:18].

عباد الله:

من نِعَمِ الله تعالى على عباده في هذه الحياة: أن يسر لهم الأسر البيوتات، ومنّ عليهم بالزوجات الكريمات؛ آيةً من آياته الباهرات، ونعمة من نعمه الظاهرات، سكناً ورحمة، ولباساً ومودة، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم:21].
يجد الرجل في بيته المأوى الكريم والراحة النفسية بعد عناء العمل والكدح والكلل، لينفض عن نفسه غبار السآمة، ويطرح عن فؤاده متاعب الحياة، وتجد المرأة في بيتها –مع زوجها- أملها المنشود الذي تصون به عفتها، وتحفظ به كرامتها، فيترعرع في كنفات هذا البيت وينشأ بين جنباته جيل صالحٌ فريد، في ظل أبوةٍ حادبة، وأمومةٍ حانية، بعيداً عن أسباب القلق والتوتر، وجالبات الشقاء ومنغصات الحياة.

وهكذا يريد الإسلام من الأسر أن تكون قلاع خير ومحبة ووئام، وحصون بر وحنان وسلام، ويطلب من ركني الأسرة: الزوج والزوجة أن يكونا مثالاً لُحسْنِ التعامل، والقيام بالحقوق والواجبات لكل منهما وعليه؛ ليُحققا السعادة الزوجية المنشودة بين كل عروسين، والمؤملة بين كل زوجين؛ حيث ترفرفُ على الأسرة أعلام المحبة والهناء، وتدوي في جنبات البيت كلمات الرحمة والصفاء، بعيداً عن الغش والتدليس في الأقوال والعواطف، فكثيرٌ من الأزواج والزوجات –بل جلهم- يطلب السعادة، ويتلمس الراحة في بيته، وينشد الاستقرار ويبحث عن هدوء النفس وراحة البال مع زوجه، ويسعى للبعد عن أسباب القلق والشقاء والاضطراب ومثيرات الإزعاج، لا سيما في بيته وأسرته، وهذه وتلك لا تحقق ولا تندفع إلا بالإيمان الصادق بالله تعالى والتوكل عليه سبحانه، وتفويض الأمور إليه جل شأنه، وقيام كل من الزوجين بما له وعليه تجاه الآخر.

عباد الله:

وفي سبيل المحافظة على هذه العلاقة الزوجية الكريمة، والحياة السعيدة بين الزوجين، نهى الإسلام عن كل ما يكون سبباً في فصم عرى العلاقة بين الزوجين، أو نشر العداوة بينهما، وأمر في مقابل ذلك بُحسن العشرة، وقيام كل منهما بحقوقه وواجباته على الوجه الأكمل، وغض الطرف عن الهفوات والزلات، وستر العيوب والخطيئات قدرالطاقة.

فمن يتتبع جاهداً كل عثرةٍ يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
ورغب سبحانه وتعالى بالإبقاء على الزوجية، ونهى عن كل ما يُعرضها للزوال، فأمر بالمعاشرة بين الزوجين بالمعروف ولو مع كراهة أحدهما الآخر؛ حفظاً للأسر، ومنعاً للتفكك، قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء: 19].
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر، أو قال غيره".
وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم ما جلبت عليه المرأة من الصفات؛ ليكون الرجل خبيراً بها، بصيراً بحالها، فلا يطلب منها أكثر مما تطيقه، فقال –فيما رواه أبو هريرة-: "استوصوا بالنساء فإنّ المرأة خلقت من ضلع، وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه؛ فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء". متفق عليه.
وفي رواية لمسلم قال: "إنّ المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها،وكسرها طلاقها".

 أيها المسلمون:

وحينما يبدو الخلل في الحياة الزوجية، وتعصف المشاكل بالبيت، ويظهر النشوز من المرأة متعالية على زوجها، خارجةً عن وظيفتها الطبيعية، مقصرةً في حقوق زوجها، متنكرةً لفضائل بعلها، فإنّ العلاج في مثل هذه الأحوال في الإسلام في غاية العدل والرحمة؛ حيث أمر الزوج المسلم بأن يكون حليماً صبوراً متأنياً، متروياً في الأمور، لا يغتاله الغضب، ولا يدفعه العجل، بل يكظم غيظه، ويتأنى في أمره، ويتلطف بأهله.
بقول الله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً) [النساء:34].

فأول وسائل العلاج مع الزوجة: الوعظ والتوجيه، وبيان الخطأ والتقصير، والتذكير بالحقوق و الواجبات، والتخوف من غضب الله ومقته، مع سلوك مسلك الكياسة والأناة ترغيباً وترهيباً.
فإن لم تنجحْ هذه الوسيلة فقد شرع الإسلام هجرها في المضجع، فلا يهجرها الزوج الغرفة، أو الفراش، وإنما يهجر المضجع؛ فيبت معها في فراش واحد، ولا يقربها، بل يوليها ظهره؛ إظهاراً لرجولته وقوة عزيمته، فإن ذلك له أكبر الأثر في معالجة انحراف الزوجة إذا وقع، وتقويم سلوكها إذا اعوج.
فإن لم يجد ذلك معها فله ضربها ضرباً غير مبرح، استصلاحاً لها وتأديباً. فعن حكيم بن معاوية القشيري –رضي الله عنه- قال: قلت يا رسول الله! ما حق زوجة أحدانا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعم، وتكسوها إذا اكتسيت أو اكتسبت،ولا تضرب الوجه، و لا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت". رواه أبو داود، وأحمد، قال أبوداود: ولا تقبح أن تقول: قبحك الله.

 عباد الله:

وكل هذه الإجراءات يتخذها الزوج مع زوجته دون تدخل أحدٍ كائناً من كان. فإذا استمر الشقاق بين الزوجين فقد أمر الله تعالى بالتدخل بينهما من أهل العدل والإصلاح والإنصاف بقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) [النساء:35].

كل ذلك حرصٌ من الله تعالى –الخبير بأحوال عباده، الحريص على مصالحهم ودفع الضرر عنهم- على إبقاء عقد النكاح، واستمرار الحياة الزوجية، وعدم وقوع الطلاق؛ لأنه أبغض الحلال إلى الله؛ لما فيه من كسر للمرأة، وتشتيت للأبناء، وإحلال الشقاء والشقاق في الأسر والبيوتات.

فإذا لم تجد هذه الطرق، وكان الحياة الزوجية ضرر على الزوجين أو أحدهما بدون مصلحة راجحة فقد شرع الله الفراق بينهما بالطلاق، وجعله سبحانه وتعالى في هذه الحالة رحمة منه، يزيل الضرر، ويتيح الفرصة للحصول على بديل أحسن، قال الله تعالى: (وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً) [النساء:130].

 
فالله عز وجل حين جعل الطلاق حقاً للزوج على زوجته، والعصمة بيده دونها، فإنّه شرع قبل ذلك الوسائل العلاجية والأمور الإصلاحية الوقائية التي يتبعها الزوج قبل إيقاع الطلاق وهدم الأسرة، والتي قد تكون بإذن الله سبحانه سبباً في علاج المشاكل الزوجية بطرق ودية، وسبل إصلاحية، بحيث لا يلجأ الزوج إلى الطلاق إلا عند العجز عن حل تلك المشكلات، حيث تصبح الحياة مع الزوجة من أصعب الصعب، عندها لا ضرر ولا ضرار؛ فإنه يجوز للرجل استعمال حقه المشروع لإنهاء العلاقة مع زوجته.
فالطلاق كلمةٌ لا يشك عاقل من الناس في جدواها ونفعها عندما تُصبح الحياة بين الزوجين جحيماً لا يطاق، وعيشاً لا راحة فيه ولا اطمئنان.

أما عند عدم الحاجة إليه فقد نهى الإسلام عنه، بل لقد حرم الإسلام إفساد الزوجة على زوجها بما يدعوه لطلاقها، ومن فعل ذلك فإنّ إثمه عظيم، وعِقابَه أليم، حيث تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "ليس منا من خبب امرأة على زوجها، أو عبداً على سيده". رواه الترمذي، وهو صحيح.

 أيها المسلمون:

فإذا كره الزوج زوجته، ولم يرغب في بقائها معه، فإن الله عز وجل قد حرم عليه أن يُمانع في طلاقها من أجل أن تفتدي نفسها منه بمالها، وأمره بطلاقها من غير أن يأخذ منها شيئاً، يقول سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ) [النساء: 19].

قال ابن عباس –رضي الله تعالى عنهما-: "هو الرجل يكون له امرأةٌ، وهو كارهٌ صحبتها، ولها عليه مهرٌ، فيضرها؛ لتفتدي به".

 
عباد الله:
أما الزوجة فقد جعل الله سبحانه وتعالى لها حقاً شرعياً في إنهاء علاقتها مع زوجها إذا لم تستطع العيش معه؛ إما لظلمه لها، أو لهضمه لحقوقها وعدم القيام بها، أو لسبب شرعي يبيح لها ذلك.
فإذا خافت المرأة من زوجها جفوةً أو إعراضاً فإنَ الله تعالى في كتابه الكريم يرشدها إلى العلاج الناجع بقوله:(وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء:128].

 فالعلاج بالصلح والمصالحة والتنازل عن بعض الحقوق المالية أو الشخصية؛ محافظة على عقد النكاح، ورعاية للأطفال خيرٌ من الشقاق والجفوة والنشوز والطلاق.
فإن لم يجد ذلك معه فقد شرع الله تعالى لها الخالعة لزوجها على مال تدفعه له نظير فسخ عقد النكاح معها،(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة:229].

وروى البخاري وغيره: عن ابن عباس –رضي الله عنه- أنَّ امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعْتِبُ عليه في خُلُقٍ ولا دِينٍ، ولكني أكره الكُفر في الإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتَرُدِّين عليه حديقته؟". قالتْ: نَعمْ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة،وطلقها تطليقة". وكان قد تزوجها، وجعل مهرها حديقة نخل، فأخذ الحديقة وفارقها.

أيها المسلمون:

والإسلام عندما أعطى المرأة حقاً في مفارقة زوجها عند الحاجة إلى ذلك؛ كسوء العشرة معه ونحو ذلك، حرّم عليها أن تطلبَ من زوجها الطلاق من غير بأس.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأةٍ سألت زوجها طلاقاً من غير بأس فحرامٌ عليها رائحة الجنة". رواه الترمذي، وأبو داود، وأحمد، وهو صحيح.
فاتقوا الله عباد الله، ألزموا أمره، ولا تتعدوا حدوده، واهتدوا بهدي رسوله. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا أيها الناس:

اتقوا الله تعالى واشكروه وأطيعوه وراقبوه، واعلموا أنّكم ملاقوه.

عباد الله:
يُخطيءُ كثيرٌ من الأزواج يظن أنّ التهديد بالطلاق، أو التلفظ به هو الحل الصحيح، أو الوحيد للخلافات الزوجية، والمشكلات الأسرية، فلا يعرف في المخاطبات سوى ألفاظ الطلاق، في مدخله ومخرجه، وفي أمره ونهيه، وفي شأنه كله، وهو بهذا قد اتخذ آيات الله هزواً، يأثم بفعله، ويهدم بيته بنفسه، ويخسر أهله وزوجه.

نعم أيها الإخوة! لقد كثر الطلاق اليوم لما تولى زمام الأمور المنزلية أغرار حدثاء، ظنوا أنهم بعقد النكاح استعبدوا المرأة وملكوها، واسترقوها، يدخل أحدهم وهو يُطلق، ويخرج وهو يطلق، ويأكل بالطلاق، ويشرب بالطلاق، تعيش زوجته معه في عناءٍ، وتتجرع منه الغصص والبلاء.
ونسي هؤلاء أنّ العلاقة الزوجية علاقةٌ متينة الأبعاد، عميقة الجذور، تقوم على الحقوق المتبادلة بين الزوجين. قال الله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 228].

 وعن عمرو بن الأحوص الجشمي –رضي الله عنه- أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: "ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هنَّ عوانٌ عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أنْ يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مبرح، فإنْ أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً، ألا إنَّ لكم على نسائكم حقاً ولنسائكم عليكم حقاً، فأمّا حقكم على نسائكم فلا يؤطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون، ألا وحقهن عليكم أنْ تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن". رواه الترمذي، وصححه. وقوله: عوانٌ عندكم؛ أي أسيرات في أيديكم، وهو بيان لضعف المرأة، وعظم القيام بحقها، والترهيب من التفريط فيه.

 أيها المسلمون:

إنّ بعض الناس هداهم الله يتلاعبون في الطلاق، فبعضهم يطلق عند أدنى سبب، وعند أول إشكال يقع بينه وبين زوجته، فيضر بنفسه وبزوجته. وبعضهم يتزوج ويطلق ويتزوج ويُطلق؛ تفكهاً بمحارم المسلمين، وتلاعباً بنساء العالم من غير مبررٍ للطلاق، لأنّه ثري أو لدافع آخر، ومثل هذا ينبغي أن يعلم أنّ فعله هذا مكروهٌ على أقل الحالات.

ومن الناس من يجري الطلاق على لسانه بسهولة ويسر، وبأدنى مناسبة، فيستعمله بدلاً من اليمين الشرعية؛ فإذا أراد أن يحلف على نفسه أو على غيره قال: عليّ الطلاق، فإذا انتقضت يمينه وقع في الحرج، وصار يسأل عن الحلول التي تنقذه من هذا المأزق الحرج.

وبعضهم يتلفظ بالطلاق هازلاً ولاعباً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جدٌّ وهزلهن جدُّ: النكاح، والطلاق، والرجعة". رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم.
وبعض الناس يأخذه الشيطان في لحظة غضب قد تكون لأمر تافه فيبتّ زوجته بالثلاث دفعة واحدةٍ، وهذا فعلٌ محرم عليه.

عباد الله:

لقد رسم الإسلام للطلاق خطة حكيمة تقلل من وقوعه، وتجنب الزوج الإضرار والضرر؛ فجعل للرجل أن يطلق زوجته إذا لزم الأمر طلقة واحدة أو طلقتين في طهر لم يجامعها فيه، ويتركها حتى تنقضي عدتها، وهي ثلاث حيضات كاملة، ثم إن بدا له في تلك الفترة أن يراجعها فله ذلك،وإن انقضت عدتها قبل أن يراجعها بانت منه، ولم تحل له بعد ذلك إلا بعقد جديد.

وهذا هو طلاق السنة الذي أباحه الشارع الحكيم سبحانه وتعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة:229]. أي إذا طلقتها واحدة أو اثنين فأنت مخير فيها ما دامت في العدة، وفلك أن تردها إليك بقصد الإصلاح، والإحسان إليها، ولك أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك بينونة صغرى، وتُطْلِقُ سراحها مُحسناً إليها، لا ظالماً لها من حقها شيئاً.

وقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً) [الطلاق:1]. أي طلقوهن وهن طاهرات من الحيض من غير أن يحصل منكم جماعٌ لهن في هذا الطهر. أمّا تطليق المرأة ثلاثاً فهو محرمٌ، وإذا فعله فإنها تطلق عليه، وتبين منه بينونة كبرى، ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره بزواج شرعي، لا على طريقة التيس المستعار، وهو أن يتفق مع شخص أن يعقد عليها، ثم يطلقها قبل الدخول بها، فهذا حرام ممنوع شرعاً. وكذلك يحرم على الزوج تطليق زوجته وهي حائض، أو في طهرٍ جامعها فيه؛ لأنها ربما حملت منه، فحصل الندم.

قال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: "لا يطلق أحد للسنّةِ فيندم، ولو أن الناس أخذوا بما أمر الله في الطلاق ما اتبع رجل نفسه امرأةً أبداً؛ يُطلّقُها واحدة، ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثاً، فمتى شاء راجعها".

عباد الله:

ومن الأمور التي يجهلها كثيرٌ من المسلمين أنّ المرأة إذا طلقت طلاقاً رجعياً، واحدة أو اثنين في طهر لم يجامعها الزوج فيه فعليها أن تبقى في بيت الزوج ولا تخرج منه ولا تُخرج. بل إنَّ الله تعالى جعله بيتاً لها بقوله: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) لأن إقامتها في بيت الزوج سبب كبير لمراجعتها، ومن يدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً تجتمع به قلوبهما.

وبعض الناس حينما يُطلق زوجته نتيجةً لشقاق أو خصام يترك أولاده وبناته منها، فلا يُبالي بهم في أي وادٍ هلكوا، وكأنهم ليسوا بأولاده، يعيشون الكفاف، بل لربما تكففوا الناس، فحرمهم بذلك من التربية والرعاية العناية والنفقة، فتشردوا وضاعوا وتخلفوا دراسيّاً، نتيجةً لسوء حالتهم المادية، وكأنهم أيتامٌ لا أب لهم يرعاهم، ولا وليَّ لهم يتفقدهم، وقد تجتالهم رفقة السوء، ثم إذا وقعوا في الجرائم والفواحش وأودعوا السجون جعل اللوم كله على أمهم، وتبرأ من المسئولية.

عباد الله:

هذه بعض الجوانب المهمة لأحكام العلاقة الزوجية التي فرَّط فيها فئامٌ من الناس إلا من عصم الله، فأين الفقه في الدين أيها المسلمون؟! لماذا تمتلئُ المحاكم بقضايا الزوجية والخلافات العائلية بين الزوجين وبين أيدينا كتابُ الله هدىً وشفاءٌ، وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولماذا تتشتتُ الأسر، ويتفرق الأبناء بسبب الطلاق دون رحمةٍ أو محاسبةٍ؟! ولماذا يتلاعبُ السفهاء والجهال بأحكام الطلاق؟!.

إن السبب المباشر وراء هذه الأمور وغيرها مما تئن منه الحياة الزوجية، وتشتكي منه البيوت والأسر هو عدم الفقه في دين الله، وعدم تطبيقه على وفق ما أمر الله تعالى به ووضحه رسوله صلى الله عليه وسلم.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، أقيموا حدوده ولا تتجاوزوها، وحافظوا على بيوتكم وأبنائكم وزوجاتكم، وأصلحوا ذات بينكم، ثمَّ صلّوا وسلّموا على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم...

 

 

 

 

 

المرفقات

372

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات