الحكم البليغة في خطب النبي صلى الله عليه وسلم (4)

الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: تجارب

اقتباس

استقرَّ في القواعد أنَّ الأحكام لا تتعلَّق إلاَّ بأفعال المُكَلَّفين، فمعنى تحريم اليوم والبلد والشهر، تحريمُ أفعال الاعتداء فيها على النفس والمال والعِرض؛ فما معنى إذًا تشبيه الشيء بنفسه؟ وأجاب بأنَّ المراد أنَّ هذه...

قوله: "وأنتم تُسْأَلون عني، فماذا أنتم قائلون؟"؛ أي: مسؤولون عن تبليغي وعدمه، فماذا أنتم قائلون في حقِّي؟ قال -تعالى-: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)[الأعراف:6].

 

وقولهم: "قالوا: نَشْهد أنَّك قد بلَّغتَ وأدَّيتَ"؛ أي: بلَّغتَ ما أُرْسِلتَ به إلى الناس كافَّة، وأدَّيتَ الأمانة التي حملتها أحسنَ أداءٍ وأكملَه.

 

"ونصَحتَ"؛ أي: بذَلت وُسْعك في نُصح أُمَّتك؛ بدَلالتهم على ما يَنفعهم في دينهم ودنياهم، وتَحذيرهم عن كلِّ ما يُردِيهم ويضرُّهم في دينهم ودنياهم، فلا خيرَ إلاَّ دلَّ الأُمَّةَ عليه، وأمرَهم به، وحثَّهم عليه، ورغَّبهم فيه، ولا شرَّ إلاَّ حذَّرها وأنذَرها عنه.

 

قوله: "فقال بإصبعه السَّبَّابة يَرفعها إلى السماء، ويَنْكُتها إلى الناس: "اللهمَّ اشْهَد" ثلاثَ مرَّات": فيه دليلٌ على إثبات عُلوِّ الله على عرشه؛ حيث رفَع إصبعه إلى السماء، ومن المُتَقرِّر عند أهل السنة والجماعة وسلفِ الأُمَّة من الصحابة والتابعين - أنَّ الله مُسْتَوٍ على عرشه، بائنٌ من خَلقه؛ كما قال -تعالى-: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)[طه:5]، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا.

 

وقد ألَّف العلماء في هذه المسألة مؤلَّفاتٍ عدَّة؛ كالإمام الذهبي الذي ألَّف كتابًا سمَّاه "إثبات العُلو للعلي الغفار"، وكذلك موفَّق الدين ابن قدامة الحنبليُّ ألَّف كتابًا في ذلك أيضًا، وكُتُب العلماء مملوءَةٌ بذِكر الأدلَّة من الآيات والأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين، وحتى العرب في جاهليَّتهم يَذكرون ذلك في أشعارهم، من أنَّ الله مُسْتَوٍ على عرشه، فلا نُطيل بذِكْر الأدلة في ذلك، فمَن طلَبها، وجَدها في أمكنتِها.

 

وقوله: "ويَنكُتها إلى الناس"، لا اختلاف بين الروايتين"؛ والمراد: يُقَلِّبها ويُرَدِّدها، يَستَشهِد اللهَ عليها بتبليغ رسالات ربِّه، وتَأْدِيته لِما اؤْتُمِن عليه من نُصحهم وإرشادهم، والصبر على أذاهم.

 

خُطبته يوم النَّحر:

روى الإمام أحمد عن جابر  -رضي الله عنه- قال: "خطَبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النَّحر، فقال: "أيُّ يوم أعظمُ حُرمة؟"، فقالوا: يومُنا هذا، قال: "فأيُّ شهرٍ أعظمُ حُرمةً؟"، قالوا: شهرُنا هذا، قال: "أيُّ بلدٍ أعظمُ حُرمة؟"، قالوا: بلدُنا هذا، قال: "فإنَّ دماءَكم، وأموالكم عليكم حرامٌ، كحُرمة يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا، هل بلَّغتُ؟"، قالوا: نعم، قال: "اللهمَّ اشْهَد".

 

قوله: "أيُّ يومٍ أعظمُ حُرمةً؟"؛ أي: يَحرُم فيه التعدِّي من قتالٍ وغيره أكثرَ من سائر الأيام.

 

قوله: "قالوا: يومنا هذا"؛ أي: اليوم العاشر الذي هو الحجُّ الأكبر.

 

وقوله: "أيُّ بلدٍ أعظمُ حُرمةً؟"، قالوا: بلدُنا هذا؛ أي: مكة؛ إذ إنها أفضلُ بِقاع الأرض، وفيها الكعبة المُشرَّفة التي جعَلها الله قيامًا للناس وأَمْنًا، وفيها وُلِد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأُرْسِل إليه، وهي مولِد الخلفاء الراشدين، وقد تكاثَرت النصوص في فضْلها وعِظَم شَأْنها، والمعنى ما يقع في ذلك اليوم والشهر والبلد من قتالٍ وتَعَدٍّ على الناس، فإنه - وإن كان في هذا اليوم والشَّهر والبلد - أشدَّ غِلظة، وأعظمَ جريمةً مما لو وقَع في غيرها، وغيرها أيضًا - من يومٍ وشهرٍ وبلدٍ - حرامٌ فيه قتالُ الناس بغير حقٍّ، والتعدِّي عليهم في أعراضهم ودمائهم وأموالهم، وإنما أرادَ بذلك تذكيرَهم ما هو مُسْتقرٌّ في نفوسهم من حُرمة اليوم والشهر والبلد؛ ليَبنيَ عليه ما أراد تقريرَه؛ حيث قال: "فإنَّ دماءَكم وأموالكم"، وفي رواية: "وأعراضكم عليكم حرامٌ".

 

والعِرْض -بكِسر العين- موضعُ المدح والذمِّ في الإنسان في نفسِه أو سَلفه، والمعنى: أنَّ انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضِكم - عليكم حرامٌ، فمال المسلم حرامٌ كحُرمة دمه وعِرضه، وقد تقدَّم بيان ذلك مُستوفًى في شَرْح خُطبته بعَرَفةَ.

 

وقوله: "كحُرمة يومكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهركم هذا"، إنما شبَّهها في الحُرمة بهذه الأشياء؛ لأنهم كانوا لا يَرَون استباحتها وانتهاكَ حُرمتها بحالٍ، وقال ابن المُنَيِّر: قد استقرَّ في القواعد أنَّ الأحكام لا تتعلَّق إلاَّ بأفعال المُكَلَّفين، فمعنى تحريم اليوم والبلد والشهر، تحريمُ أفعال الاعتداء فيها على النفس والمال والعِرض؛ فما معنى إذًا تشبيه الشيء بنفسه؟ وأجاب بأنَّ المراد أنَّ هذه الأفعال في غير هذا البلد وهذا الشهر وهذا اليوم، مُغَلَّظةُ الحُرمة، عظيمةٌ عند الله، فلا يَستسهِل المعتدِي كونَه تعدَّى في غير البلد الحرام والشهر الحرام، بل ينبغي له أن يَخاف خوفَ مَن فَعَل ذلك في البلد الحرام، وإن كان فِعْلُ العُدوان في البلد الحرام أغلظَ، فلا يَنفي كونَ ذلك في غيره غليظًا أيضًا، وتَفاوُتُ ما بينهما في الغِلَظ لا يَنفع المعتدِي في غير البلد الحرام، فإن فرَضناه تعدَّى في البلد الحرام؛ فلا يَستسهل حُرمة البلد، بل ينبغي له أن يَعتقد أنَّ فِعله أقبحُ الأفعال، وأنَّ عقوبته بحسب ذلك؛ فيُراعي الحالتين.

 

قوله: "هل بلَّغت؟"، قال: "اللهمَّ اشْهَد"، المعنى: هل بلَّغتُكم ما أُرْسِلتُ به إليكم؛ لأنَّ التبليغ فرضٌ عليه، فقالوا: نعم؛ أي: بلَّغتَ الرسالة، وأدَّيت الأمانة، ونَصَحت الأُمَّة، فعند ذلك استَشْهَد اللهَ عليهم بقوله: "اللهمَّ اشْهَد"، والرسولُ بلَّغ ما أُمِر به في قوله: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)[المائدة:67].

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات