الحكمة في زمن التقنية

سالم بن محمد الغيلي

2022-02-11 - 1443/07/10 2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/حاجة الناس إلى الحكمة 2/وسائل التقنية نعمة ومحاذير 3/من مخاطر ما يبث عبر وسائل الاتصال 4/وجوب غرس مخافة الله في نفوسنا 5/توجيهات للوقاية من مخاطر التقنية

اقتباس

هذا الانفتاح على العالم له مخاطر وله محاذير؛ لأنه لم يكن انفتاحًا على الأسواق على البيع والشراء فقط, إنما انفتاح على طبائع الناس وعقائدهم وأساليبهم في الحياة, انفتاح يراه العالم والجاهل, والصغير والكبير, والغبي والذكي, والمجتمع والأسرة...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وسلم ما سُجد للرحمن, وما تلى القرآن, وما طلع النيِّران, وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

 

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102], (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1], (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70، 71].

 

عباد الله: الحكمة ضالة المؤمن, الحكمة هي الأمر المهم والضروري والنفيس الذي يبحث عنه المؤمن, ومن يرد الله به خيرًا يرزقه الحكمة؛ (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)[البقرة: 269].

 

والحكمة هي وضع الشيء في موضعه الصحيح, وضع الشي في مساره الصحيح, فهي -إذن- ضالة المؤمن؛ أي: الشيء الذي يبحث عنه المؤمن في كل شؤونه, حتى لا يتيه حتى لا يضيع, حتى لا يخسر, حتى لا تدْلهم عليه الخطوب.

 

وكم نحن بحاجة إلى الحكمة, خاصة الآن في حاضرنا؛ لأننا نرى عجائب وغرائب في كل حياتنا, في أنفسنا في بيوتنا, في أسرنا في مجتمعنا, في عالمنا, ولابد من الحكمة كي ننجو ونسلم ونحذر.

 

ومن العجائب التي نراها اليوم هو انفتاحنا على العالم, انفتاح على العالم بأسره خيره وشره, صحيحه وسقيمه, بره وفاجره, مؤمنه وكافره.

 

نرى العالم بأعيننا ونحن في بيوتنا وفي سياراتنا وفي جلساتنا وفي أي مكان, انفتاح تخطينا معه الزمان والمكان, ندخل أسواق الشرق وأسواق الغرب, ونشتري منها السلعة التي نريد في ثوانٍ ونحن قاعدون, لم نسافر ولم نخرج من ديارنا, ندخل أي مجتمع ونرى ما فيه, نرى أهله, أشكالهم وألوانهم ومطاعمهم ومشاربهم وبيوتهم وأسواقهم وطبائعهم ونحن في بيوتنا!.

 

نستطيع أن نتحدث مع من نريد في أي مكان في العالم بالصوت والصورة, وكأننا في بقعة واحدة, أليس هذا من العجائب والغرائب؟! بل في الغالب من المصائب!.

 

إن هذه الأمور في بعض جوانبها نعمة وتسهيل وتيسير وبساطة وتوفير, من أكبر النعم أن تذهب إلى أسواق الصين وأنت في بيتك, تشتري ما تشاء, ويأتي بها الله إلى بابك, وتدخل أي صيدلية في أمريكا, وتشتري العلاج الذي تريد, ويأتي به الله إلى دارك, وأنت لم تركب إليه قطارًا ولا طيارة!, نعمة عظيمة لكن للعقلاء للحكماء للعالِمين للحاذرين.

 

بينما نجد في الجانب الآخر أن هذا الانفتاح على العالم له مخاطر وله محاذير؛ لأنه لم يكن انفتاحًا على الأسواق على البيع والشراء فقط, إنما انفتاح على طبائع الناس وعقائدهم وأساليبهم في الحياة, انفتاح يراه العالم والجاهل, والصغير والكبير, والغبي والذكي, والمجتمع والأسرة!.

 

انفتاح يرون فيه ويسمعون, يرون فيه الكنائس وعبادة غير الله, يرون فيه سب الدين, يرون فيه سب العرب والمسلمين, يرون سب الله -تعالى- وسب النبي -صلى الله عليه وسلم-!.

 

يرون عالمًا يبيحون كل المحرمات, يبيحون الزنا واللواط والسحاق وشرب الخمر والمخدرات والمسكرات, يرون القتل والسرقة والنهب, يرون العري والتفسخ والانحطاط الأخلاقي والخَلْقِي.

 

باختصار, يرون عالم الكفر والفجور بما فيه, ولا عجب ولا غرابة على أولئك؛ فهم يكفرون بالله, لا يؤمنون بالله ولا بدينه ولا برسوله -صلى الله عليه وسلم-.

 

عباد الله: أليس هذا من أعجب العجائب؟!

 

إن المؤمن فطن, المؤمن غيور, المؤمن حذر, ونحن في بلدنا -حرسها الله- أهل دين وأهل شيم وأهل غيره, أهل عقيدة وأهل رسالة, نحن نعلم حدود الله, ونعلم الحلال والحرام, نحن مسلمون نرجو  رحمة الله ونخشى عذابه.

 

ومن هذا المنطلق الجميل لابد أن ندرك مدى الخطر, ونحذر أيما حذر على أنفسنا, على أسرنا, على أولادنا وبناتنا, وأهل مجتمعنا.

 

 إِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ *** فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا

 

إذا ذهب ديننا, وذهبت قيمنا, وذهبت أخلاقنا, وذهبت ثوابتنا؛ ذهبنا معها, لم يبق لنا شيء, لم يبق لنا قيمة ولا مكانة, ولا سلامة ولا نجاة.

 

والمصيبة لا نستطيع أن نمنع بناتنا وأولادنا وزوجاتنا, لا يستطيع الرجل -مهما كان- أن يمنع أولاده وأهله من تلك الأجهزة التي تفتح له العالم بأسره!.

 

فما هو العمل وماهي الحِيَل؟ هنا نطلب الحكمة وهنا نبحث عنها, وهنا موضعها, كيف نحذر أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا حتى لا نراهم في يوم من الأيام يكفرون بالله, أو يسبون الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ودينه, أو يتجرؤون على محارم الناس أو محارمهم وأقاربهم وأرحامهم, أو يتجرؤون على ترك بلادهم ويهاجرون إلى بلاد الكفر والرذيلة, أو يتجرؤون على تخريب بلدهم وقتل أهلهم ومجتمعهم؟ كيف نعمل؟ من يجيب؟.

 

هذا ما سنحاول الإجابة عنه في الخطبة الثانية, نسأل الله بمنه وكرمه أن يحفظ بلادنا وأهلها والمسلمين, وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

 

أقول ما تسمعون وأستغفر الله الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه, كما يحب ربنا ويرضى.

 

المسؤولية عظيمة, والخطر عظيم؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)[التحريم: 6].

 

نحن بحاجة الوقاية (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ), ما دمنا لا نستطيع المنع فما بقي إلا الوقاية, لا نتغابى عن واقعنا, ولا نتعامى عما يدور حولنا, وكما يقال: "الوقاية خير من العلاج".

 

يجب على كل عاقل وحكيم أن يغرس في نفسه وفي بيته مراقبة الله وخوف الله؛ إن الله يرانا, أين مكوكب الكواكب؟!.

 

نتحدث بها دائمًا مع أنفسنا وأهلينا: إن الله يرانا, إن الله معنا؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)[آل عمران: 5] (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ)[الأنعام: 73], (يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)[لقمان: 16], (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ)[إبراهيم: 38], (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)[فاطر: 38].

 

اغرس هذه المعاني, اغرسها في نفسك وفي بيتك, اغرسها وتعاهدها يومًا بعد يوم, علّم نفسك وأهلك أننا أهل قيم وشيم, أهل دين وعقيدة وإسلام, منَّ الله علينا به, ونجانا من الكفر, نجانا من السجود لبوذا والصليب.

 

علّم نفسك وأهلك أن هناك جنةً عرضها السموات والأرض؛ (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آل عمران: 133], وأن هناك ناراً تلظى لا يصلها إلا الأشقى؛ (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى)[الليل: 14، 15].

 

علّم نفسك وأهلك أن الحرام ما حرم الله ورسوله, والحلال ما أحل الله ورسوله فقط؛ "إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ"(رواه مسلم).

 

علّم نفسك وأهلك أن ما عليه أهل الكفر والنفاق والانحطاط من الفساد أنه لا يصلح لنا ولا لأهلنا ولا لمجتمعنا.

 

حذّر أهلك ونفسك من خطوات الشيطان, أرقام ثم اتصال ثم محادثة ثم حب وغرام ومصيبة, حذّر أهلك من التجسس على العورات, أو التشبه بالنساء, أو النساء بالرجال.

 

الحذر من تصفح المواقع الضارة الفاسدة, الحذر من نشر صور النساء أو البنات مهما كانت الدوافع, الحذر من إخراج خصوصيات البيوت للناس.

 

اختيار الأصدقاء والصديقات, الحضور الدائم بجانب الأسرة وفتح أبواب الحوار والنقاش في كل أمور الحياة, السؤال دائمًا عن مخاطر الأجهزة, وعن البرامج الموجودة, زرع الثقة.

 

الحذر من لغة الجاسوسية, والقسوة والغلظة؛ فإنها لا تصلح في أحيان كثيرة.

 

تيسير أمور الزواج للأبناء والبنات, جعل برنامج لتلاوة القرآن في المنزل, يكلف به أحد الأبناء أو البنات.

 

الوقوف عمليًا على أداء الصلاة في أوقاتها, تنظيم النوم داخل المنزل, فلا يصح سهر الليل كله ونوم النهار كله.

 

الحذر من ترك الفراغ يقتل معاني الخير في نفوس أهل البيت, فلا بد من العمل والإنتاج والتعاون, وربط الأسرة ببعضها وفيما بينها.

 

الحذر من الانعزال والانطواء على الأجهزة وما فيها؛ لما في ذلك من المخاطر والأمراض الروحية والجسدية؛ "والرجل راعٍ في أهل بيته, ومسؤول عن رعيته".

 

اللهم احفظنا من بين أيديننا ومن خلفنا, اللهم ثبتنا على الدين وعلى هدي سيد المرسلين.

 

 

المرفقات

الحكمة في زمن التقنية.doc

الحكمة في زمن التقنية.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات