الحقوق الزوجية وأسباب الطلاق

علي عبد الرحمن الحذيفي

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/فوائد الزواج وثمراته 2/ سبل بقاءِ الزوجيَّة 3/ من أسباب دوامِ الزَّواج وسعادته 4/ عِظَم حقّ المرأة على الزوجِ والزوج على زوجته 5/ من أسبابِ الطلاقِ 6/ خطورة الاستهانة بالطلاق.

اقتباس

والزوجيَّةُ بيتٌ يحتضِنُ الذريَّة، ويحنُو عليهم ويرعاهم ويُعلِّمُهم، وأبُوَّةٌ وأُمومةٌ تُعِدُّ الأجيالَ للقيامِ بأعباءِ الحياة، ونفعِ المُجتمع ورُقِيِّه في كل شأنٍ، وتُوجِّهُ إلى كلِّ خُلُقٍ كريمٍ، وتمنعُ من كلِّ خُلُقٍ ذَميمٍ، وتُربِّي على الصالِحات للدار الآخرة والحياةِ الأبديَّة.ويبتدِي الصغيرُ بما يرى، فيتأثَّرُ بما يُشاهِدُ ويسمَع، حيث لا قُدرةَ له على قراءة التاريخ وأخذ العِبَر منه والقُدوة. وعقدُ الزواج ميثاقٌ عظيم، ورِباطُ قويم، وصِلةٌ شديدةٌ بين الزَّوجين..

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله الذي خلقَ الأزواجَ كلَّها مما تُنبِتُ الأرضُ ومن أنفُسِهم ومما لا يعلَمون، أمرَ - عزَّ وجلَّ - بالإصلاح والصلاح، ونهَى عن الفسادِ بقوله: (وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف: 142]، وشرعَ - تبارك وتعالى - التشريعَ للمصالِح والمنافِع، ودرءِ المفاسِد والمضارِّ في حقِّ المُكلَّفين، أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه.

 

 وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الغنيُّ عن العالمين، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الوعدِ الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.

 

أما بعد:

فاتقوا الله في السرِّ والعلانية؛ فما فازَ أحدٌ في حياته وبعد مماتِه إلا بالتقوَى، وما خابَ أحدٌ وخسِر إلا باتباعِ الهوَى.

 

أيها الناس:

اذكرُوا مبدأَ خلقِكم وكثرةَ رِجالِكم ونسائِكم من نفسٍ واحدة، خلقَ الله منها زوجَها، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) [النساء: 1]، وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [الأعراف: 189].

 

ثم جرَت سنَّةُ الله -تعالى- وشريعتُه أن يقترِنَ الرجلُ بالمرأة بعقد النِّكاح الشرعيِّ، ليبنِيَا بيتَ الزوجيَّةِ، تلبيةً واستِجابةً لمطالِبِ الفِطرة والغريزَة البشريَّة، من طريقِ النِّكاح لا من طريقِ السِّفاح.

 

فطريقُ الزواجِ هو العفافُ، والبركةُ، والنماءُ، والطُّهرُ، والرِّزقُ، وصحَّةُ القلوب، وامتِدادُ العُمر بالذريَّة الصالِحة. وطريقُ السِّفاح والزِّنا هو الخُبثُ، وأمراضُ القلوب، وفسادُ الرَّجُل والمرأة، وذلُّ المعصِية، وآفاتُ الحياة، والذَّهابُ ببركتِها، والخلَلُ في الأجيال، والعذابُ في الآخرة.

 

عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رأى ليلةَ الإسراء والمعراجِ من العجائِب، «ثم أتَى على قومٍ تُرضَخُ رُؤُوسُهم بالصَّخر، كلَّما رُضِخَت عادَت كما كانت، ولا يُفتَّرُ عنهم من ذلك شيءٌ، فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقَلُ رُؤوسُهم عن الصلاةِ المكتُوبة.

 

 ثم أتَى على قومٍ على أقبالِهم رِقاع، وعلى أدبارِهم رِقاع، يسرَحون كما تسرَحُ الإبلُ والنَّعَم، ويأكلُون الضَّريع والزَّقُّوم ورَدغَ جهنَّم وحِجارتَها. قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يُؤدُّون صدقاتِ أموالِهم، وما ظلمَهم الله شيئًا.

 

ثم أتَى على قومٍ بين أيدِيهم لحمٌ نضِيجٌ في قِدر، ولحمٌ آخرُ نَيِّئ في قِدرٍ خبيثٍ، فجعلَوا يأكلُون من النيِّئ ويدَعُون النَّضيجَ الطيِّبَ. فقال: ما هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هذا الرجلُ من أمَّتك تكونُ عنده المرأةُ الحلالُ الطيِّبُ، فيأتي امرأةً خبيثةً فيبيتُ عندها حتى تُصبِح، والمرأةُ تقوم من عند زوجِها حلالاً طيبًا، فتأتي رجلاً خبيثًا فتبتُ معه حتى تُصبِح» (رواه ابن جريرٍ في "تفسيره").

 

وفي حديث سعدِ بن سِنان الخُدريِّ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإسراء والمِعراج قال: «ثم مضَت هُنيَّةٌ، فإذا أنا بأخوِنَة عليها لحمٌ مُشرَّح ليس يقرَبُها أحد، وإذا أنا بأخوِنَة عليها لحمٌ قد أنتَنَ وأروَحَ عندها أُناسٌ يأكلُون منها. قلتُ: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمَّتك يترُكون الحلالَ ويأتُون الحرام. قال: ثم مضَت هُنيَّةٌ، فإذا أنا بأقوامٍ بُطونُهم كالبُيوت، كلما نهضَ أحدُهم خرَّ يقول: ربِّ لا تُقِم الساعة، قال: وهم على سابِلَة آل فرعون. قال: فتجِيءُ السابِلةُ فتطؤُهم. قال: فسمعتُهم يضِجُّون إلى الله تعالى. قال: قلتُ: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمَّتك أكَلَةُ الرِّبا، (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [البقرة: 275]»؛ (رواه البيهقي في "دلائل النبوة").

 

والزوجيَّةُ بيتٌ يحتضِنُ الذريَّة، ويحنُو عليهم ويرعاهم ويُعلِّمُهم، وأبُوَّةٌ وأُمومةٌ تُعِدُّ الأجيالَ للقيامِ بأعباءِ الحياة، ونفعِ المُجتمع ورُقِيِّه في كل شأنٍ، وتُوجِّهُ إلى كلِّ خُلُقٍ كريمٍ، وتمنعُ من كلِّ خُلُقٍ ذَميمٍ، وتُربِّي على الصالِحات للدار الآخرة والحياةِ الأبديَّة.

 

ويبتدِي الصغيرُ بما يرى، فيتأثَّرُ بما يُشاهِدُ ويسمَع، حيث لا قُدرةَ له على قراءة التاريخ وأخذ العِبَر منه والقُدوة.

 

وعقدُ الزواج ميثاقٌ عظيم، ورِباطُ قويم، وصِلةٌ شديدةٌ بين الزَّوجين، قال الله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء: 20، 21].

قال المُفسِّرون: "هو عقدُ النّكاح".

 

وهذا العقدُ اشتملَ على مصالِح ومنافِع للزوجَين، ومنافِع ومصالِح للأولاد، ومصالِح ومنافِع لأقرباءِ الزَّوجَين، ومنافِع ومصالِح للمُجتمع، ومنافِع ومصالِح للدُّنيا والآخرة، لا تُعدُّ هذا المنافِعُ ولا تُحصَى.

 

ونقضُ هذا العقد، وإبطالُ هذا الميثاق، وقطعُ حبل الزوجيَّة بالطلاقِ يهدِمُ تلك المصالِح والمنافِع كلَّها، ويقعُ الزوجُ في فتنٍ عظيمةٍ تضرُّه في دينه ودُنياه وصحَّته، وتقعُ المرأةُ بالطلاقِ في الفتن بأشدَّ مما وقعَ فيه الزوجُ، ولا تقدِرُ أن تُعيدَ حياتَها كما كانت، وتعيشُ في ندامةٍ، لا سيَّما في هذا الزمان الذي قلَّ فيه المُوافِقُ لحالِها.

 

ويتشرَّدُ الأولادُ ويُواجِهون حياةً شديدةَ الوطأَة تختلفُ عما كانت عليه وهم في ظلِّ اجتماع الأبوَين، ويفقِدون كلَّ سعادةٍ تبتهِجُ بها حياتُهم، ويكونون مُعرَّضين للانحِرافِ بأنواعه المُختلفة، ومُعرَّضين للأمراض بأنواعها المُختلفة، ويتضرَّرُ المُجتمعُ بالآثار الضارَّة التي تكون بعد الطلاق، وتستحكِمُ القطيعةُ للأرحام. ومهما أُحصِيَ من مفاسِد الطلاق فهي أكثرُ من ذلك.

 

ولتعلَم مفاسِد الطلاقِ وكثرةَ أضراره الخاصَّة والعامَّة، تأمَّل في حديثِ جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن إبليسَ يضعُ عرشَه على الماء، ثم يبعثُ سراياه، فأدانهم منه منزلةً أعظمُهم فتنةً، يجِيءُ أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا من المعاصِي، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ثم يجِيءُ أحدُهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأته، فيُدنِيه منه ويقول: نعم، أنت أنت، فيتلزِمُه» (رواه مسلم).

 

وقد استخفَّ بعضُ الناس بالطلاقِ، فاستسهلَ أمرَه، ووقعَ في أمورٍ خطيرةٍ، وشُرورٍ كثيرةٍ، وأوقعَ غيرَه فيما وقعَ فيه. وقد كثُر الطلاقُ في هذا الزمان لأسبابٍ واهيَةٍ، ولعللٍ واهِمةٍ، وأسبابُ الطلاق في هذا الزمان كثيرة، ومن أكبرِها: الجهلُ بأحكام الطلاق في الشريعة، وعدمُ التقيُّد بالقرآن والسنَّة.

 

وقد أحاطَت الشريعةُ الإسلاميَّةُ عقدَ الزواجِ بكل رعايةٍ وعنايةٍ، وحفِظَته بسِياجٍ من المُحافَظةِ عليه، لئلا يتصدَّع وينهدِم، ويتزعزَعَ أمام عواصِف الأهواء؛ لأن سببَ الطلاق قد يكونُ من الزوج، وقد يكونُ من الزوجةِ، وقد يكونُ منهما، وقد يكونُ من بعضِ أقاربِهما. فعالجَت الشريعةُ كلَّ حالةٍ قد تكونُ سببًا في الطلاقِ.

 

فأمرَ الله في كتابِه الزَّوجَ أن يُعظِّم عقدَ الزَّواج، قال الله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا) [البقرة: 231]، وقال: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة: 228].

قال المُفسِّرون: "للمرأة على الرجلِ مثلُ ما للرجلِ على المرأة بحُسن العِشرة، ويفضُلُها في القَوامَة".

 

وعلى الرجلِ العِشرةُ بالمعروف والإحسان، وإذا كرِهَها صبَرَ عليها لعلَّ الحالَ تتبدَّل إلى أحسن منها، أو لعلَّه يُرزقُ منها بأولادٍ صالحين، ويُؤجَرُ على صبرِه عليها، قال الله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء: 19].

 

وعلى الزوجِ والزوجةِ أن يُصلِحا أمورَ الخلاف في بدايتها؛ لئلا تزدادَ خلافًا، وعلى الزَّوجَين أن يعرِفَ كلٌّ منهما صاحبَه، فيأتي كلٌّ منهما ما هو أرضَى لصاحبِه، ويجتنِبُ كلٌّ منهما ما لا يحبُّ الآخر. فهذا ميسورٌ لا يخفَى.

 

ومن أسباب بقاءِ الزوجيَّة: الإصلاحُ بين الزَّوجَين من أهل الخير المُصلِحين، حتى يتحقَّق لكلٍّ منهما حقُّه الواجِبُ له على صاحبِه، قال الله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [النساء: 35].

 

ومن أسباب دوامِ الزَّواج وسعادته: الصبرُ والتسامُح؛ فمرارةُ صبرٍ قليل يعقبُه حلاوةُ دهرٍ طويل، وما استُقبِلَت المكروهات بمثلِ الصبرِ، قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].

 

والتسامُح والعفوُ تزينُ به الحياة، ويكسُوها البَهجَة والسُّرور والجمال، وتندمِلُ به جِراحُ العِشرة. والتسامُحُ والعفوُ أمرٌ ضروريٌّ للحياة، ولا سيَّما بين الزوجَين. وإذا كان في أمورٍ كماليَّة، أو في أمورٍ قابلةٍ للتأخير، فالتسامُح هنا خيرٌ للزوجَين.

 

وفي هذا الزمان أُرهِقَ كثيرٌ من الأزواجِ بمطالِبِ الحياةِ وإنجازها حتى وإن كانت كماليَّة، واستِقصاءُ كلِّ الحُقوق، وعدمُ التسامُح والعفوِ في بعضِها يُورِثُ النُّفرةَ والتباغُض بين الزوجَين.

 

والزواجُ رُوحُه التعاوُن والرحمةُ، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التغابن: 14].

والعداوةُ هنا هي التثبيطُ عن الخير، أو عدمُ الإعانةِ عليه، أو هي المنعُ منه.

وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].

 

ومن أسبابِ دوامِ الزواج: تقويمُ الزوجِ ما اعوَجَّ من أخلاقِ المرأة، بما أباحَه الشرعُ وأذِنَ فيه، قال الله تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا) [النساء: 34].

وعلى القُضاةِ الإصلاحُ بين الزوجَين فيما يُرفَعُ إليهم من القضايا، حتى يتمَّ الاتفاقُ، وينتفِيَ الطلاقُ.

 

وحقُّ المرأة على الزوجِ: عِشرتُها بالمعروف، وسكَنُها الذي يصلُحُ لمثلِها، والنفقةُ والكِسوةُ، وبذلُ الخير وكفُّ الأذى والضرر عنها.

 

وقد يكونُ السببُ في الطلاقِ من المرأةِ ببذاءَة لسانِها، وسُوءِ خُلُقها، وجهلِها. فعليها أن تُقوِّم أخلاقَها، وتُطيعَ زوجَها، وتبذُل جهدَها في تربيةِ أولادِها التربية الصحيحة.

 

عن عبد الرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا صلَّت المرأةُ خمسَها، وصامَت شهرَها، وحفِظَت فرْجَها، وأطاعَت زوجَها، قيل لها: ادخُلي الجنةَ من أيِّ أبوابِ الجنةِ شِئتِ» (رواه أحمد، وهو حديثٌ حسنٌ).

 

وعلى المرأةِ أن تخدِم زوجَها بالمعروف، تأسِّيًا بالصحابيات - رضي الله عنهن -، وما أحسنَ أن تكون مُشارِكةً له في سُروره أو حُزنِه، وأن تكون عونًا له على طاعةِ الله.

 

ومن أسبابِ الطلاقِ: تدخُّل أقرِباء أحدِ الزوجَين بينهما، أو أقرِباء كلٍّ منهما، فليتَّقُوا اللهَ وليقُولوا قولاً سديدًا، وفي الحديث: «لعنَ الله من خبَّبَ امرأةً على زوجِها، أو زوجًا على زوجتِه».

 

وعلى المرأة أن تقومَ بحقِّ أقرِباء الزوجِ، ولا سيَّما الوالدَين. وعلى الزوجِ أن يقومَ بحقِّ أقرِباء الزوجةِ، فكثيرًا ما يكونُ التقصيرُ في حقِّ أقرِبائِهما سببًا من أسبابِ الطلاق.

 

ومن أسبابِ الطلاق: التتبُّعُ للمُسلسلات الفضائيَّة التي تهدِمُ الأخلاق، أو المواقِع المُحرَّمة في الجوَّال، التي تنشُر الفساد.

 

ومن أسباب الطلاقِ: خروجُ الزوجةِ بغير إذنِ الزوجِ، ولا يحلُّ لها أن تخرُج إلا بإذنِه، وهو الذي يُقدِّرُ الأمورَ.

 

وإذا تعذَّرَت أسبابُ بقاءِ الزوجيَّة فقد أحلَّ الله الطلاقَ، وفي الحديث: «أبغَضُ الحلالِ إلى اللهِ الطلاقُ»، فيُطلِّقُ الزوجُ الطلاقَ الشرعيَّ بعد روِيَّةٍ وتأنٍّ، كما أمرَ الله -تعالى- في قولِه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق: 1].

 

قال المُفسِّرون: "يُطلِّقُها في طُهرٍ لم يُجامِعها فيه طلقةً واحدةً، فإن شاءَ راجعَها في العدَّة، وإلا تركَها حتى تنقضِيَ عِدَّتُها فتخرُج من عِصمتِه".

والطلاقُ بهذه الطريقةِ يفتَحُ بابَ الأملِ في الرَّجعة لبقاءِ الزواجِ، أو بعقدٍ جديدٍ ومهرٍ جديدٍ.

 

فانظر إلى تأكيد عقدِ الزواجِ وحِمايته في الشرعِ الحَنيف، وإلى الاستِهانةِ بالطلاقِ في هذا الزمانِ وما جرَّ من المآسِي، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [النور: 21].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، ونفعَنا بهديِ سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ الله لي ولكم وللمسلمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، شرعَ الأحكامَ بعلمِه وحكمتِه ورحمتِه فسُبحانَه من إلهٍ عظيم، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له العليمُ الحكيم، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الكريمُ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه المُتمسِّكين بشرعِه القَويم.

 

أما بعد: فاتَّقُوا الله حقَّ التقوَى، وتمسَّكُوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.

 

عباد الله:

يقولُ - عزَّ وجلَّ -: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].

 

أيها المسلمون:

صارَ الطلاقُ جارِيًا على ألسِنةِ بعضِ الشبابِ من دون مُراعاةٍ لحقوقِ ولدٍ ولا قريبٍ ولا اعتبارٍ لأحد، وقد يقعُ بتكرَاره في أزمِنةٍ مُتباعِدة، أو تَكرَراه في مجلسٍ واحدٍ، ثم يتلمَّسُ الفتاوى، وقد يحتالُ، وقد تنسَدُّ عليه الطرُقُ ويندمُ ندامةً لا تنفعُه، والله -تعالى- يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2، 3].

 

ومن اتَّقَى الله في طلاقِه على الوجهِ الشرعيِّ جعلَ الله له مخرَجًا، ومن عظَّم عقدَ الزوجيَّة ولم يستخِفَّ به بارَكَ الله له في زواجِه، ونالَ عاقبةً حسنةً.

 

وبعضُ أنواع الطلاقِ الخاصَّة والحالات يكونُ الطلاقُ فيها إثمًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي أيوبَ: «إنَّ طلاقَ أمِّ أيوبٍ لحُوب».

 

عباد الله:

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».

فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.

 

اللهم وارضَ عن الصحابةِ أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أذلَ الكفر والكافرين يا رب العالمين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين.

 

اللهم إنا نسألُك أن تغفِرَ لنا، اللهم يا ذا الجلال والإكرام اغفِر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّرُ، لا إله إلا أنت.

اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة.

 

اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتِك، وفُجاءَة نقمتِك، وتحوُّلِ عافيتِك، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم تولَّ أمرَ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة، وأمرَ كلِّ مُسلمٍ ومسلمة، برحمتِك يا أرحم الراحمين، اللهم ألِّف بين قلوبِ المُسلمين، وأصلِح ذاتَ بينهم.

 

اللهم إنا نسألُك يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين، نسألُك أن تنصُر دينَك، وكتابَك، وسُنَّةَ نبيِّك يا رب العالمين.

اللهم فقِّهنا والمُسلمين في الدِّين، اللهم تُب علينا وعلى المُسلمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعِذنا من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأعِذنا من شرِّ كلِّ ذي شرٍّ يا رب العالمين.

اللهم أعِذنا وأعِذ ذريَّاتنا من إبليس وذريَّته وشياطينه وجنوده يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعِذ المُسلمين من إبليس وشياطينه وذريَّته، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم احفَظ بلادَنا من كلِّ شرٍّ ومكرُوه، اللهم احفَظ حدودَنا من كلِّ شرٍّ ومكرُوهٍ يا رب العالمين، اللهم احفَظ جنودَنا إنك على كل شيءٍ قدير، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أبطِل خِططَ أعداءِ الإسلام يا رب العالمين، اللهم أبطِل مكرَ أعداءِ الإسلام التي يَكيدُون بها الإسلامَ يا رب العالمين، إنك على كل شيءٍ قدير.

 

اللهم آمنَّا في أوطانِنا، وأصلِح اللهم وُلاةَ أمورنا، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، اللهم يا ذا الجلال والإكرام وفِّقه للرأي السديد، والعمل الرشيد، اللهم وارزُقه الصحةَ إنك على كل شيء قدير، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق نائبَيه لما فيه الخيرُ للإسلام والمُسلمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم إنا نعوذُ بك من الرِّبا والزِّنا، والزلازِل والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.

نسألُك الجنةَ وما قرَّب إليها من قولٍ وعمل، ونعوذُ بك من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عمل، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفِر لموتانا وموتَى المُسلمين يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم الطُف وارحَم يا ذا الجلال والإكرام حالَ المُسلمين في سُوريا، وحالَ المُسلمين في العِراق، اللهم ألِّف بين قلوبِهم، اللهم إنا نسألُك أن تُطفِئ اليمن عاجلٍ غيرَ آجلٍ برحمتِك يا أرحم الراحمين، في عافيةٍ للإسلام والمُسلمين يا رب العالمين، وللبلاد والعباد إنك على كل شيءٍ قدير.

اللهم اجمَع كلمةَ المُسلمين على الحقِّ يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا نافعًا غيرَ ضارٍّ برحمتِك يا أرحم الراحمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

 

عباد الله:

(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل: 90- 91]. اذكُروا الله العظيمَ الجليلَ يذكُركُم، واشكُروه على نعمِه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

 

 

المرفقات

الزوجية وأسباب الطلاق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات