عناصر الخطبة
1/ أقسام الحسنات و فضائلها 2/ أقسام السيئات ومفاسدها 3/ حبوط الحسنات والسيئات 4/ فوائد اجتناب المعاصي والسيئات 5/ معنى حسنة الدنيا وحسنة الآخرة.اقتباس
والحسنة كما أنها تُذْهِب السيئة فكذلك الحسنة تجلب الحسنة بعدها، فكل من يصلي تجده يقرأ القرآن، ويصلي النوافل، ويذكر الله، ويصوم ويتصدق ويحسن إلى الناس, وهكذا, وكما أن السيئة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب, فكذلك السيئة تجلب أخواتها من السيئات، فالشيطان ينقل العاصي من الصغيرة إلى الكبيرة ومن الغيبة، إلى قول الزور، إلى التهاون في الصلاة، إلى إضاعة الصلاة واتباع الشهوات، إلى محبة المحرمات...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تَتِمُّ الصالحات بنعمته، وتُكَفَّر السيئات وتُقال العثرات بِمِنَّته، وتُضاعَف الحسنات وتُرفَع الدرجات برحمته، سبحانه! يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات, أحمده -تعالى- وأشكره على جزيل العطايا والهبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بارئ النسمات، وأشهد أن نبينا محمداً عبده المصطفى ورسوله المجتبى أفضل البريَّات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمَكْرُمات، ومن اقتفى أثرهم ما تجددت المواسم ودامت الأرض والسماوات.
أيها الناس: اتقوا الله، وأتبعوا السيئة الحسنة تمحها، وتابعوا بين الحسنات، فإن من علامة قبول الحسنةِ الحسنةَ بعدها.
أيها المؤمنون: إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة، واللهِ لَلَّه أرحم بنا من أمهاتنا، ولكنه يريد التائب المقبل المنيب، قال الله -تعالى-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160], وبشَّر الله رب العالمين عباده الصالحين الذين يداومون على جلب الحسنات بإقامة الفرائض وتوقي المخالفات، أنه سيغفر لهم صغار السيئات، قال -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
أيها الإخوة: إن فعل الحسنات له آثار محمودة في النفس وفي الخارج، وكذلك السيئات لها آثار مذمومة، والله -تعالى- جعل الحسنات سببًا للخيرات، والسيئات سببًا للمفاسد والشرور، وأسباب الشر لها أسباب تُدفع بمقتضاها، فالتوبة والأعمال الصالحة يُمحى بها السيئات، والمصائب في الدنيا تُكفّر بها السيئات.
إن الله -تعالى- مالك الملك، وله الخلق والأمر، فلا يكون في ملكه إلا ما يريد, فالحسنات من عطائه, والسيئات من قضائه, فهو -سبحانه- لا يُطاع إلا بإذنه، ولا يُعصى إلا بعلمه، الطاعات بإذنه والمنة لله، والمعاصي بتقديره والحجة له.
أيها الأحبة: الحسنة: هي ما يحسن لدى الإنسان مما يتلاءم مع مزاجه, والحسنات قسمان: أحدهما: حسنة سببها الإيمان والعمل الصالح، وتحصل بطاعة الله ورسوله, والثاني: حسنة سببها الإنعام الإلهي على العبد بما يؤتيه الله من مال وولد وسلامة بدن.
عباد الله: وفي فعل الحسنات عدة فوائد:
الأولى: الفوز والفلاح, قال -سبحانه-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
الثانية: محبة الله ورسوله والمؤمنين له, قال -سبحانه-: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 195].
الثالثة: دخول الجنة, قال -سبحانه-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس: 26].
الرابعة: معية الله, قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].
الخامسة: القرب من رحمة الله, قال -سبحانه-: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
السادسة: مضاعفة الأجر, قال -سبحانه-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 40].
السابعة: تكفير السيئات, قال -سبحانه-: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
الثامنة: جلب المحبة وإزالة العداوة, قال -سبحانه-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34،35].
أيها الإخوة: والحسنات تعلل بعلتين: أحدهما: ما تتضمنه من جلب المصلحة والمنفعة, والثانية: ما تتضمنه من دفع المفسدة والمضرة. قال -سبحانه-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45], فقوله: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) بيان لما تضمنته من دفع المفاسد والمضار، وقوله (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) بيان لما تضمنه من المنفعة والمصلحة, وهكذا في جميع الحسنات.
والسيئات كذلك تعلل بعلتين: إحداهما: ما تتضمنه من المفسدة والمضرة, والثانية: ما تتضمنه من الصد عن المنفعة والمصلحة, قال -سبحانه-: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة: 91], فقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) بيان لما تتضمنه السيئات من حصول مفسدة العداوة والبغضاء، وقوله: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ) بيان لما تتضمنه من المنع من المصلحة التي هي رأس السعادة، وهي ذكر الله والصلاة.
عباد الله: إن الله -سبحانه- غني كريم يضاعف الحسنة إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ويجزي السيئة بمثلها أو يعفو، قال الله -تعالى-: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الأنعام: 160]، وقال -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 261]، وقال -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245], والله -عزَّ وجلَّ- يبتلي عباده بالعسر واليسر، والحسنات والسيئات، والرخاء والشدة، لعلهم يتوبون ويرجعون إلى ربهم قال -سبحانه-: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الأعراف: 168].
ولا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله -تعالى-، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق ولا الإساءة إليهم, قال -سبحانه-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34 ،35], والتي هي أحسن إذا أساء إليك مسيء من الخلق بالقول أو الفعل فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فصِله، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن أساء إليك فأحسن إليه، وإن حرمك فأعطه, فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصلت لك ولغيرك فوائد عظيمة، فإن مقابلة المسيء بجنس عمله لا يفيده شيئاً، ولا يزيد العداوة إلا شدة، والإحسان للمسيء يقلب العداوة صداقة, والبغض محبة، ويعطف القلوب على من عادَتْه، ويحركها للاعتذار والندم.
والحسنة كما أنها تُذْهِب السيئة فكذلك الحسنة تجلب الحسنة بعدها، فكل من يصلي تجده يقرأ القرآن، ويصلي النوافل، ويذكر الله، ويصوم ويتصدق ويحسن إلى الناس, وهكذا, وكما أن السيئة تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب, فكذلك السيئة تجلب أخواتها من السيئات، فالشيطان ينقل العاصي من الصغيرة إلى الكبيرة ومن الغيبة، إلى قول الزور، إلى التهاون في الصلاة، إلى إضاعة الصلاة واتباع الشهوات، إلى محبة المحرمات ثم فعلها، ثم دعوة الناس إلى فعلها وهكذا.
فالشيطان صد كفار مكة عن الإيمان بالرسول، ثم زين لهم الاستهزاء به ومن معه، ثم زين لهم أذى من آمن به لعلهم يرجعون عنه، ثم زين لهم الصد عن الدين الذي جاء به، ثم زين لهم إخراج الرسول وقتله، ثم ساقهم إلى مصارعهم كفاراً يحاربون الله ورسوله فخسروا الدنيا والآخرة, قال -سبحانه-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) [الأنفال: 36].
فالله ورسله وأنبياؤه وأتباعهم يدعون إلى فعل الحسنات وترك السيئات، وبذلك تحصل السعادة للبشرية في الدنيا والآخرة, وشياطين الجن والإنس وأتباعهم يدعون إلى فعل السيئات وترك الحسنات، ويخدعون الناس بالشهوات لتحل بهم العقوبات, (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [البقرة: 221].
وقد وعد الله كل من أحسن وأتى بالحسنات في الدنيا أن يرزقه الحسنى يوم القيامة, قال -سبحانه-: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس: 26]، ومن أساء اسود وجهه، وأصابه الذل، والعذاب في الدنيا والآخرة, قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [يونس: 27]، وما خطا عبد خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة بحسب نيته, قال -سبحانه-: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس: 12].
أيها الإخوة: والحسنات تحصل للعبد من ثلاث جهات: فعل الطاعة, والفرح بها, وتهيئة الفرصة لحصولها, كأن يصلي مثلاً، ويفرح بأداء الصلاة، ويهيئ الفرصة للمصلين, والسيئات كذلك تحصل للعبد من ثلاث جهات: فعل المعصية, والفرح بها, وتهيئة الفرصة لحصولها, كأن يشرب الخمر مثلاً، ويفرح بذلك، ويهيئ الفرصة لمن يشرب الخمر.
عباد الله: والسيئة ضد الحسنة، وهي ما لا يحسن لدى الإنسان, والسيئات قسمان: أحدهما: سيئة سببها الشرك والمعاصي اللذان يورثان ظلمة وخبثاً في النفس، وتحصل بمعصية الله ورسوله, الثاني: سيئة سببها العقوبة أو الابتلاء الإلهي كالمرض وضياع المال، والجوع والقحط ونحو ذلك.
فالسيئة الأولى تنسب إلى العبد فاعلها؛ لأن الله لا يرضى لعباده الكفر، بل حذّرهم منه قال -سبحانه-: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم: 31 ،32], أما الحسنة بمعنى النعمة، والسيئة بمعنى النقمة، فكلاهما من عند الله؛ لأن الله يبلو عباده بما شاء ابتلاءً وانتقاماً ورفعة، تربية لعباده, قال -سبحانه-: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) [النساء: 78].
والحسنة بمعنى الطاعة لله ورسوله لا تُنسب إلا إلى الله، فهو الذي شرعها للعبد، وعلمه إياها، وأمره بفعلها، وأعانه عليها، وحببها إليه, والسيئة بمعنى المعصية لله ورسوله، إذا فعلها العبد بإرادته واختياره مؤثراً المعصية على الطاعة فهذه السيئة تنسب للعبد فاعلها، ولا تنسب إلى الله؛ لأن الله لم يشرعها، ولم يأمر بها، بل حرمها وتوعد عليها, وقد كشف الله ذلك وبينه بقوله -سبحانه-: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [النساء: 79].
عباد الله: والسيئات قسمان: صغائر, وكبائر؛ فالكبائر والصغائر تكفرها التوبة, قال -سبحانه-: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 54], وتكفير الصغائر بشيئين: الحسنات الماحية, واجتناب الكبائر, فالأول: قال -سبحانه-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114]. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلاةُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ، مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ" (أخرجه مسلم), والثاني: قال -سبحانه-: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) [النساء: 31].
أيها الإخوة: دل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات، كما أن الحسنات يذهبن السيئات, والحبوط نوعان: عام وخاص؛ فالعام: حبوط الحسنات كلها بالردة قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217], وحبوط السيئات كلها بالتوبة قال -سبحانه-: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53].
والخاص: حبوط الحسنات والسيئات بعضها ببعض، وهذا حبوط مقيد جزئي, قال -سبحانه-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].
والمعاصي كلها بالنسبة إلى الجرأة على الله ومخالفة أمره كبيرة؛ لما فيها من التوثب على حق الرب، والاستهانة بأمره، وانتهاك حرماته, وإذا عمل المؤمن سيئة فسوف يجازى عليها, فإن تاب تاب الله عليه, قال -سبحانه-: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 123].
ربنا اغفر لنا وارحمنا، وعافانا واعف عنا، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وفق من شاء من عباده لكثرة الطاعات، وجعل لهم الأجر العظيم، وكثرة الحسنات, وأشهد أن لا إله إلا الله، خالق المخلوقات، ومجزل العطايا والهبات، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، واعملوا بطاعته ورضاه, واعتبروا بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب.
أيها الإخوة: وتندفع عقوبة السيئة عن المؤمن بما يلي: إما أن يتوب فيتوب الله عليه, أو يستغفر فيغفر الله له, أو يعمل حسنات تمحوها, أو يدعو له إخوانه المؤمنون, أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به, أو يبتليه الله في الدنيا بمصائب تكفر عنه, أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه, أو يبتليه في عرصات القيامة بما يكفر عنه, أو يشفع فيه نبيه -صلى الله عليه وسلم -, أو يرحمه أرحم الراحمين, والله غفور رحيم.
وفي اجتناب المعاصي والسيئات عدة فوائد:
الأولى: صون النفس وحفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها، عند الله وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه.
الثانية: توفير الحسنات، ففي اجتناب السيئات توفير الحسنات، وذلك من وجهين: أحدهما: توفير زمانه على اكتساب الحسنات، فإنه إذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعداً لتحصيلها. الثاني: توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها، فكما أن الحسنات يذهبن السيئات، فكذلك السيئات قد تحبط الحسنات، وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها، فتجنبها يوفر ديوان الحسنات.
الثالثة: كسب مودة الخلق، وذلك بملاطفتهم ومعاملتهم بما يجب أن يعاملوه به من اللطف، ولا يعاملهم بالشدة والغلظة والعنف، فإن ذلك ينفرهم عنه، ويغريهم به، ويفسد عليه قلبه وحاله مع الله, فليس للقلب أنفع من معاملة الناس باللطف، فالناس إما أجنبي فتكسب مودته ومحبته، وإما صاحب وحبيب فتستديم صحبته ومودته، وإما عدو ومبغض فتطفئ بلطفك جمرته، وتستكفي شره.
الرابعة: مراقبة الله -سبحانه-، وهي الموجبة لكل صلاح وخير عاجل وآجل، ولا يصح ما قبلها إلا بهذه، وهي المقصود لذاته، فمراقبة الحق -سبحانه- توجب إصلاح النفس، واللطف بالخلق، ورحمتهم، والصبر على أذاهم.
أيها الأحبة: والناس متفاوتون في العلم والعمل، والسؤال والهمم, (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 200 ،201], والحسنة المطلوبة في الدنيا: هي كل ما يحسن وقعه عند العبد من رزق هني واسع حلال، وزوجة صالحة، وأولاد تقربهم العين، وراحة من الهم والكد، وعلم نافع، وعمل صالح، ونحو ذلك من المطالب المحبوبة والمباحة.
وحسنة الآخرة: هي الفوز بالنعيم المقيم، وحصول رضا الله، والقرب من الرب الكريم، والسلامة من العقوبات في القبر والموقف والنار, فقوله -سبحانه-: (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201], هذا أجمع دعاء وأكمله وأفضله، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم - يكثر من الدعاء به.
فاللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة, وفي الآخرة حسنة, وقنا عذاب النار. ربنا اغفر لنا ذنوبنا, وإسرافنا في أمرنا, وكفر عنا سيئاتنا, وتوفنا مع الأبرار.
أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في الأقوال والأعمال، وأن يحسن لنا الختام، وألا يتوفانا إلا وهو راضٍ عنا، اللهم ارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيمًا.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم