الحرية (3) مفاهيم خاطئة في الحرية

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-06-09 - 1444/11/20 2023-07-26 - 1445/01/08
عناصر الخطبة
1/مفهوم الحرية الخاطئ 2/بعض مظاهر المفاهيم الخاطئة للحرية 3/آثار الإساءة في توصيف الحرية 4/طرق لتصحيح المفاهيم الخاطئة للحرية.

اقتباس

وَمِنْ خَطَأِ الْفَهْمِ أَنْ يَظُنَّ الْإِنْسَانُ أَنَّ لَهُ حُرِّيَّةً مُطْلَقَةً لِيَعْتَقِدَ مَا يَشَاءُ، أَوْ يَعْمَلَ مَا يُرِيدُ، أَوْ يَقُولَ كُلَّ مَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِ هَوَاهُ، وَمِنْ هَذَا الْخَطَأِ الْفَادِحِ نَشَأَتْ مَفَاهِيمُ خَاطِئَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ فِي نِطَاقِ الْحَيَاةِ الْفِكْرِيَّةِ، أَوِ الْحَيَاةِ الْعَمَلِيَّةِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مَا أَجْمَلَ أَنْ يَعِيشَ الْمَرْءُ فِي آفَاقِ الْحُرِّيَّةِ، يُعَانِقُ فِيهَا سُحُبَ الْعِزَّةِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَيَشَمُّ فِي أَرْجَائِهَا أَرِيجَ الرِّيَاضِ النِّدِّيَّةِ، وَيَذُوقُ تَحْتَ ظِلَالِهَا بَرْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لَكِنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي نِظَامِ الْإِسْلَامِ لَهَا سَقْفٌ لَا يُتَجَاوَزُ، وَحُدُودٌ لَا تُتَعَدَّى؛ حِفْظًا لِسَلَامَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ، وَصِيَانَةً لِاسْتِقَامَةِ الْحَيَاةِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ، وَمِنْ خَطَأِ الْفَهْمِ أَنْ يَظُنَّ الْإِنْسَانُ أَنَّ لَهُ حُرِّيَّةً مُطْلَقَةً لِيَعْتَقِدَ مَا يَشَاءُ، أَوْ يَعْمَلَ مَا يُرِيدُ، أَوْ يَقُولَ كُلَّ مَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِ هَوَاهُ، وَمِنْ هَذَا الْخَطَأِ الْفَادِحِ نَشَأَتْ مَفَاهِيمُ خَاطِئَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ فِي نِطَاقِ الْحَيَاةِ الْفِكْرِيَّةِ، أَوِ الْحَيَاةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا:

إِبَاحَةُ الِارْتِدَادِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ تَحْتَ غِطَاءِ حُرِّيَّةِ الِاعْتِقَادِ، وَقَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: إِنَّ الْإِسْلَامَ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- لَا يُجْبِرُ أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ، بَلْ يَطْلُبُ مِنَ الرَّاغِبِ فِي دُخُولِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَنْ رِضًا وَقَنَاعَةٍ تَامَّةٍ، لَكِنَّهُ لَا يُبِيحُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرْتَدَّ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِيهِ؛ حَتَّى لَا يَكُونَ الْإِسْلَامُ أُلْعُوبَةً بَيْنَ النَّاسِ فَتَزُولَ عَنْهُ الْقَدَاسَةُ وَالتَّعْظِيمُ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ. فَكَمَا أَنَّ الدُّوَلَ -مِنْ بَابِ الْحِفَاظِ عَلَى أَمْنِهَا وَكِيَانِهَا- تُعَاقِبُ مَنْ تَجَسَّسَ عَلَيْهَا لِحِسَابِ أَعْدَائِهَا؛ أَلَيْسَ دِينُ اللَّهِ -تَعَالَى- أَوْلَى بِأَنْ يُعَاقَبَ مَنْ أَرَادَ التَّشْكِيكَ بِهِ؟

 

ثُمَّ إِنَّكُمْ لَوْ تَنْظُرُونَ -مَعْشَرَ الْفُضَلَاءِ- إِلَى حَالِ مَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فَسَتَجِدُونَهُمْ أَحَدَ رَجُلَيْنِ:

إِمَّا رَجُلٌ دَخَلَ الْإِسْلَامَ نِفَاقًا وَفِي نِيَّتِهِ الطَّعْنُ فِيهِ وَمَضَرَّةُ أَهْلِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ بَعْضُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ -تَعَالَى-: (وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 72].

 

فَعَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: "كَانَ أَحْبَارُ قُرًى عَرَبِيَّةٍ اثْنَيْ عَشَرَ حَبْرًا، فَقَالُوا لِبَعْضِهِمُ: ادْخُلُوا فِي دِينِ مُحَمَّدٍ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَقُولُوا: "نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا حَقٌّ صَادِقٌ"، فَإِذَا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ فَاكْفُرُوا وَقُولُوا: "إِنَّا رَجَعْنَا إِلَى عُلَمَائِنَا وَأَحْبَارِنَا فَسَأَلْنَاهُمْ، فَحَدَّثُونَا أَنَّ مُحَمَّدًا كَاذِبٌ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَقَدْ رَجَعْنَا إِلَى دِينِنَا؛ فَهُوَ أَعْجَبُ إِلَيْنَا مِنْ دِينِكُمْ"، لَعَلَّهُمْ يَشُكُّونَ، يَقُولُونَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا أَوَّلَ النَّهَارِ، فَمَا بَالُهُمْ؟ فَأَخْبَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ"(تَفْسِيرُ الطَّبَرِيِّ).

 

وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُرْتَدُّ رَجُلًا قَدْ ضَاقَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، وَكَرِهَ الْبَقَاءَ فِي ظِلِّ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُطْلِقَ لِشَهَوَاتِهِ الْعِنَانَ لِتَرْتَعَ فِي مَرَاتِعِ الْحَرَامِ، فَهَذَا عُضْوٌ فَاسِدٌ سَيُشَجِّعُ ارْتِدَادُهُ كُلَّ صَاحِبِ هَوًى عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْإِسْلَامِ.

 

فَسَدًّا لِهَذَا الْبَابِ مَنَعَ الْإِسْلَامُ الرِّدَّةَ عَنْهُ، وَجَعَلَ فِيهَا الْحَدَّ الرَّادِعَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنَ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ: الطَّعْنُ فِي التَّشْرِيعَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ، بِدَعْوَى حُرِّيَّةِ الْفِكْرِ، وَحُرِّيَّةِ إِبْدَاءِ الرَّأْيِ؛ تَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ الطَّعْنُ بِالرَّدِّ وَالتَّكْذِيبِ، وَتَارَةً بِالسُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَتَارَةً بِدَعْوَى عَدَمِ صَلَاحِيَةِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ لِلْعَصْرِ الْحَاضِرِ!!

 

فَسُبْحَانَ رَبِّي كَيْفَ يَطْعَنُ الْإِنْسَانُ الضَّعِيفُ الْعَاجِزُ الْجَاهِلُ فِي تَشْرِيعٍ شَرَعَهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي يَعْلَمُ حَاجَةَ عِبَادِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ؟!

 

وَكَيْفَ يَطْعَنُ عَاقِلٌ فِي تَشْرِيعَاتِ هَذَا الدِّينِ الَّذِي قَدْ رَضِيَهُ اللَّهُ لِعِبَادِهِ بِجَمِيعِ مَا فِيهِ مُنْذُ بِعْثَةِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَأَكْمَلَهُ -تَعَالَى- وَأَتَمَّهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى إِضَافَةِ مُضِيفٍ، وَاسْتِدْرَاكِ مُسْتَدْرِكٍ؟ قَالَ -تَعَالَى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[الْمَائِدَةِ: 3].

 

إِنَّ ذَلِكَ الطَّعْنَ مِنْ صَاحِبِهِ مُؤَدَّاهُ اتِّهَامٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ بِالْقُصُورِ وَالْجَهْلِ وَالْعَجْزِ، وَحَاشَا لِلَّهِ -تَعَالَى- أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَحَاشَا رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَّرَ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَةِ رَبِّهِ، أَوْ كَتَمَ شَيْئًا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَبَ، وَاللَّهُ يَقُولُ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)[الْمَائِدَةِ: 67] الْآيَةَ..."(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْفُضَلَاءُ: وَمِنَ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ: الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي، وَتَرْكُ الْوَاجِبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، تَحْتَ زَعْمِ أَنَّ الْإِنْسَانَ حُرٌّ فِيمَا يَفْعَلُ وَيَدَعُ.

 

وَهَذَا مَفْهُومٌ خَاطِئٌ لِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ، فَالْحُرِّيَّةُ الرَّاشِدَةُ أَنْ يَتَحَرَّرَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَهْوَائِهِ وَشَهَوَاتِهِ الْجَامِحَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، فَيَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ لَا عَبْدًا لَهَا.

 

فَالسِّيَادَةُ الْمُطْلَقَةُ إِنَّمَا هِيَ لِلْخَالِقِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَمَّا الْمَخْلُوقُ فَهُوَ عَبْدٌ لِخَالِقِهِ، وَقَدْ كَلَّفَهُ بِدِينٍ قَائِمٍ عَلَى فِعْلِ الْأَوَامِرِ وَتَرْكِ النَّوَاهِي، إِذَا مَا قَامَ بِهَا سَعِدَ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، فَصَارَتِ الْعُبُودِيَّةُ لِلَّهِ هِيَ الْحُرِّيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، وَهِيَ شَرَفٌ عَظِيمٌ، وَكُلَّمَا "ارْتَقَى الْإِنْسَانُ فِي سُلَّمِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ ازْدَادَ تَحَرُّرًا مِنْ عُبُودِيَّةِ مَنْ سِوَاهُ". وَلَقَدْ صَدَقَ الشَّاعِرُ حِينَ قَالَ:

وَمِمَّا زَادَنِي شَرَفًا وَتِيهًا *** وَكِدْتُ بِأَخْمُصِي أَطَأُ الثُّرَيَّا

دُخُولِي تَحْتَ قَوْلِكَ يَا عِبَادِي *** وَأَنْ صَيَّرْتَ أَحْمَدَ لِي نَبِيَّا

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَمِنَ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ: الطَّعْنُ فِي النَّاسِ تَحْتَ حُجَّةِ حُرِّيَّةِ التَّعْبِيرِ، وَهَذِهِ حُجَّةٌ دَاحِضَةٌ؛ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَأْمُرُ الْإِنْسَانَ بِحِفْظِ لِسَانِهِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ، وَيُحَذِّرُهُ مِنَ الطَّعْنِ فِي الْآخَرِينَ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، مُبَيِّنًا لَهُ عُقُوبَةَ ذَلِكَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

فَلَيْسَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ: سَبُّ النَّاسِ وَشَتْمُهُمْ، وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِمْ، وَالتَّشْكِيكُ فِيهِمْ، وَإِلْصَاقُ التُّهَمِ الْبَاطِلَةِ بِهِمْ.

 

فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- أَنْ تَظُنَّ أَنَّ مِنَ الْحُرِّيَّةِ أَنْ تُسَلِّطَ لِسَانَكَ طَعْنًا فِي الْآخَرِينَ، سَوَاءٌ كُنْتَ فِي وَسِيلَةٍ إِعْلَامِيَّةٍ أَمْ تَوَاصُلِيَّةٍ أَمْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا تَسْمَعْ لِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ النَّشَازِ الَّتِي تُشَجِّعُ عَلَى إِطْلَاقِ الْأَلْسِنَةِ بِالسُّوءِ -خَاصَّةً فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ- تَحْتَ عَبَاءَةِ حُرِّيَّةِ الْقَوْلِ وَالرَّأْيِ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ أَفْهَامَنَا، وَأَفْهَامَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْخَطَأَ فِي تَوْصِيفِ الْحُرِّيَّةِ يُنْتِجُ آثَارًا سَيِّئَةً كَثِيرَةً، فَمِنْ تِلْكَ الْآثَارِ:

حُصُولُ الرِّدَّةِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَاعْتِنَاقُ مِلَلٍ كُفْرِيَّةٍ أُخْرَى، فَصَارَ الْخَارِجُونَ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ إِلَى ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ مِمَّنِ اسْتَبْدَلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ، مَا لَمْ يَتُبْ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى-.

 

وَمِنْ آثَارِهَا أَيْضًا: كَثْرَةُ النِّدَاءَاتِ بِالِانْعِتَاقِ عَنْ رِبْقَةِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّمَرُّدِ عَلَى تَشْرِيعَاتِهِ وَكَثْرَةِ إِبْدَاءِ الرَّأْيِ فِيهَا سُخْرِيَةً مِنْهَا وَطَعْنًا فِيهَا.

 

وَنَسِيَ هَؤُلَاءِ أَوْ تَنَاسَوْا قَوْلَ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 85].

 

وَمِنَ الْآثَارِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ: ضَعْفُ هَيْبَةِ الْإِسْلَامِ وَتَشْرِيعَاتِهِ فِي بَعْضِ الْقُلُوبِ، فَتَصِيرُ تِلْكَ الْقُلُوبُ مَنْزِلًا قَابِلًا لِكُلِّ الْأَدْيَانِ وَالْآرَاءِ وَالْأَفْكَارِ الَّتِي تُنَاهِضُ الْإِسْلَامَ، حَتَّى غَدَتْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

لَقَدْ كُنْتُ قَبْلَ الْيَوْمِ أُنْكِرُ صَاحِبِي *** إِذَا لَمْ يَكُنْ دِينِي إِلَى دِينِهِ دَانِي

فَقَدْ صَارَ قَلْبِي قَابِلًا كُلَّ صُورَةٍ *** فَمَرْعَى لِغِزْلَانٍ وَدَيْرًا لِرُهْبَانِ

وَبَيْتًا لِأَوْثَانٍ وَكَعْبَةِ طَائِفٍ *** وَأَلْوَاحِ تَوْرَاةٍ وَأَوْرَاقِ قُرْآنِ!!

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِلَيْكُمُ الطُّرُقُ الَّتِي تُعِينُ عَلَى تَصْحِيحِ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ لِلْحُرِّيَّةِ:

الْعِلْمُ بِشَرْعِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّ مَنْ فَهِمَ الشَّرْعَ فَهْمًا صَحِيحًا عَرَفَ الْحُرِّيَّةَ الْمَشْرُوعَةَ وَالْحُرِّيَّةَ الْمَمْنُوعَةَ، وَمَا ضَلَّتْ كَثِيرٌ مِنَ الْأَفْهَامِ إِلَّا بِسَبَبِ الْجَهْلِ، وَمَنْ أَرَادَ الْمَعْرِفَةَ فَعَلَيْهِ سُؤَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْقَنَاعَةُ بِجَوَابِهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

 

وَمِنْ طُرُقِ تَصْحِيحِ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ لِلْحُرِّيَّةِ: إِدْرَاكُ مَا تَحْمِلُهُ الْحَرِيَّةُ بِتِلْكَ الْمَفَاهِيمِ مِنَ الْأَخْطَارِ عَلَى الْفَرْدِ وَعَلَى الْمُجْتَمَعِ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ.

 

فَإِنَّكُمْ -مَعْشَرَ الْأَخْيَارِ- لَوْ تَأَمَّلْتُمْ فِي نَتَائِجِ السُّوءِ لِلْخُرُوجِ عَنْ حُدُودِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَدْرَكْتُمْ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ النَّافِعَةَ وَالصَّحِيحَةَ هِيَ الْحُرِّيَّةُ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْإِسْلَامُ، وَلَيْسَتِ الَّتِي تَنْعَقُ بِهَا أَبْوَاقُ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ.

 

وَمَنْ تَتَبَّعَ كَلَامَ عُقَلَاءِ الْغَرْبِ وَجَدَ أَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُنَادُونَ بِتَقْيِيدِ الْحُرِّيَّةِ، وَتَصْحِيحِ الْفَهْمِ فِيهَا.

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: أَدْرِكُوا تَمَامَ الْإِدْرَاكِ الْفَهْمَ الصَّحِيحَ لِلْحُرِّيَّةِ فِي شَرِيعَتِنَا الْإِسْلَامِيَّةِ، وَاحْذَرُوا تَشَرُّبَ الْمَفَاهِيمِ الْخَاطِئَةِ لَهَا؛ وَابْتَعِدُوا عَنْ مَوَارِدِ إِلْقَاءِ تِلْكَ الْمَفَاهِيمِ، وَمَتَى مَا طَرَأَتْ لَدَيْكُمْ شُبْهَةٌ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا الْفَهْمَ الصَّحِيحَ لِدِينِنَا.

 

هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

المرفقات

الحرية (3) مفاهيم خاطئة في الحرية.doc

الحرية (3) مفاهيم خاطئة في الحرية.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات