الحرية (2) حدود الحرية في الإسلام

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-06-09 - 1444/11/20 2023-07-26 - 1445/01/08
عناصر الخطبة
1/لماذا تقييد الحرية في الإسلام؟ 2/ضوابط الحرية في الإسلام 3/آثار الخروج عن حدود الحرية.

اقتباس

وَلَوْ لَمْ تُقَيَّدِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ؛ لَتُعَدِّيَ عَلَى الْمُقَدَّسَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَفَعَلَ الْإِنْسَانُ فِيهَا مَا شَاءَ، وَقَالَ عَنْهَا مَا شَاءَ، وَبِذَلِكَ تَغْدُو خَالِيَةً مِنَ الْقَدَاسَةِ وَالتَّعْظِيمِ... وَلَوْ لَمْ تُقَيَّدِ الْحُرِّيَّةُ فَسَيَعِيشُ الْإِنْسَانُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ عَلَى...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: التَّوَسُّطُ لَدَى الْعُقَلَاءِ سِمَةٌ حَمِيدَةٌ، وَسَبِيلٌ سَالِكَةٌ إِلَى بُلُوغِ الْغَايَاتِ الْمَجِيدَةِ، وَالتَّوَسُّطُ اعْتِدَالٌ مُنَزَّهٌ عَنِ التَّفْرِيطِ الْمُفْضِي إِلَى الْحِرْمَانِ، وَعَنِ الْإِفْرَاطِ الْمُوصِلِ إِلَى الْخُسْرَانِ.

 

وَعَلَى حَدِّ التَّوَسُّطِ جَاءَتْ مَبَادِئُ دِينِنَا الْإِسْلَامِيِّ الْحَنِيفِ وَأَحْكَامُهُ وَآدَابُهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَبْدَأُ الْحُرِّيَّةِ الَّذِي أَطْلَقَهُ الْإِسْلَامُ مِنْ قُيُودِ الْمَنْعِ الْكَامِلِ، وَقَيَّدَهُ بِالْحَقِّ مِنَ الِانْفِلَاتِ الشَّامِلِ، فَكَانَتِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ حَسَنَةً بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ.

خَيْرُ الْأُمُورِ الْوَسَطُ الْوَسِيطُ *** وَشَرُّهَا الْإِفْرَاطُ وَالتَّفْرِيطُ

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِذَا نَظَرْتُمْ فِي مَبْدَأِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ أَنَّهُ قَدْ قُيِّدَ بِقُيُودٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَمْ يُجْعَلِ الْإِنْسَانُ فِي الْإِسْلَامِ مُطْلَقَ الْحُرِّيَّةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالسُّؤَالُ: هَلْ لِذَلِكَ مِنْ مَصَالِحَ؟

 

وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: نَعَمْ، هُنَاكَ مَصَالِحُ خَاصَّةٌ، وَمَصَالِحُ عَامَّةٌ.

 

فَمِنَ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ بِالْفَرْدِ: تَحْصِيلُ الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا تَحْتَ ظِلَالِ الِاعْتِدَالِ، فَلَوْ أُطْلِقَ الْعِنَانُ لِلْإِنْسَانِ لِيَصْنَعَ مَا يَشَاءُ كَمَا يُرِيدُ لَأَضَرَّ نَفْسَهُ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تُقَيَّدْ حُرِّيَّتُهُ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ -عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ- لَتَنَاوَلَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ، الَّتِي بِهَا ضَرَرٌ كَبِيرٌ عَلَى صِحَّةِ عَقْلِهِ وَبَدَنِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)[الْأَعْرَافِ: 157].

 

وَعَنْ سُوَيْدِ بْنِ طَارِقٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْخَمْرِ وَقَالَ: إِنَّا نَصْنَعُهَا فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّنَا نَتَدَاوَى بِهَا، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّهَا لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهَا دَاءٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ).

 

هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ: فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَإِنَّ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

وَمِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِلْمُجْتَمَعِ مِنْ تَقْيِيدِ الْحُرِّيَّةِ: حُصُولُ الْأَمْنِ لِلنَّاسِ، عَلَى دِينِهِمْ، وَدِمَائِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَأَعْرَاضِهِمْ، وَلَوْ لَمْ تُقَيَّدِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ؛ لَتُعَدِّيَ عَلَى الْمُقَدَّسَاتِ الدِّينِيَّةِ، فَفَعَلَ الْإِنْسَانُ فِيهَا مَا شَاءَ، وَقَالَ عَنْهَا مَا شَاءَ، وَبِذَلِكَ تَغْدُو خَالِيَةً مِنَ الْقَدَاسَةِ وَالتَّعْظِيمِ؛ حَتَّى لَا يَسْتَغْرِبَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا مَنْ يَسُبُّ اللَّهَ أَوْ كِتَابَهُ أَوْ رَسُولَهُ أَوْ دِينَهُ عَلَنًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ سَيُبَرِّرُ قَوْلَهُ بِإِطْلَاقِ الْحُرِّيَّةِ!! وَمَنْ مِنَّا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- يَرْضَى بِهَذَا الْجُرْمِ الْكَبِيرِ؟! قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- مُحَرِّمًا هَذَا التَّعَدِّيَ وَمُتَوَعِّدًا عَلَيْهِ: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا)[الْأَحْزَابِ: 57].

 

وَلَوْ لَمْ تُقَيَّدِ الْحُرِّيَّةُ فَسَيَعِيشُ الْإِنْسَانُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ عَلَى نَفْسِهِ؛ حَيْثُ لَنْ يَأْمَنَ عَلَيْهَا مِنْ إِنْسَانٍ يَجْرَحُهَا أَوْ يُزْهِقُهَا، لَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَيَّدَ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ فَأَوْجَبَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقِصَاصَ؛ حَتَّى يَعِيشَ النَّاسُ فِي أَمَانٍ عَلَى نُفُوسِهِمْ فَقَالَ -تَعَالَى-: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 179].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَقَدْ وَضَعَ الْإِسْلَامُ ضَوَابِطَ مُعَيَّنَةً لِلْحُرِّيَّةِ؛ حَتَّى لَا تَغْدُوَ سُلُوكًا فَوْضَوِيًّا، يَقْضِي عَلَى الْحَيَاةِ وَالْأَحْيَاءِ، وَتُكَدِّرَ صَفْوَ الْعَيْشِ؛ فَالْإِنْسَانُ إِذَا لَمْ تَقِفْ أَمَامَهُ ضَوَابِطُ لِلْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ سَيُدَمِّرَانِهِ وَمَنْ حَوْلَهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْصِ الْهَوَى قَادَكَ الْهَوَى *** إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ عَلَيْكَ مَقَالُ

 

فَلِهَذَا إِذَا تَأَمَّلْتُمْ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- فِي الضَّوَابِطِ الْآتِيَةِ لِلْحُرِّيَّةِ فَسَتَجِدُونَ أَنَّهَا جَاءَتْ لِمَصْلَحَةِ الْحُرِّيَّةِ نَفْسِهَا؛ لِكَيْ تَسْتَمِرَّ بَيْنَ النَّاسِ، قَبْلَ أَنْ تَجِيءَ لِسَلَامَةِ الْآخَرِينَ مِنْ إِطْلَاقِ الْحَبْلِ عَلَى الْغَارِبِ لِلْحُرِّيَّةِ فِي مَجَالِ الْحَيَاةِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ فَمِنْ ضَوَابِطَ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ:

أَلَّا يَكُونَ فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى حَقٍّ مُقَدَّسٍ؛ كَحَقِّ اللَّهِ، بِالتَّنَقُّصِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَغَيْرِهِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)[التَّوْبَةِ: 66]، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ: أَنْ يَتْرُكَ الْإِنْسَانُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ وَيَقُولَ: إِنَّهُ حُرٌّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ).

 

وَلَيْسَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ أَيْضًا: إِعْمَالُ قَلَمِ النَّقْدِ وَالرَّدِّ وَالِاعْتِرَاضِ وَالسُّخْرِيَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّذِي صَانَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَحَفِظَهُ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ، قَالَ -تَعَالَى-: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)[الْإِسْرَاءِ: 88].

 

وَلَيْسَ مِنَ الْحُرِّيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ كَذَلِكَ: أَنْ يَطْعَنَ أَحَدٌ فِي رَسُولِ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالدِّينِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، تَحْتَ ذَرِيعَةِ حُرِّيَّةِ الرَّأْيِ وَالرَّأْيِ الْآخَرِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْجَنَابَ مَصُونٌ عَنِ الطُّعُونِ، وَلَا مَجَالَ لِلْحُرِّيَّةِ فِيهِ.

 

وَمِنْ ضَوَابِطِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ: أَلَّا يَكُونَ فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى النَّفْسِ. فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ بِأَنَّهُ مُطْلَقُ الْحُرِّيَّةِ مَعَ نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَصْنَعُ فِيهَا مَا يَشَاءُ، بَلْ إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- حَرَّمَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْإِضْرَارَ بِنَفْسِهِ بِتَنَاوُلِ أَشْيَاءَ تُؤْذِيهَا، أَوْ بِالتَّعَدِّي عَلَيْهَا بِالْإِتْلَافِ، فَحَرَّمَ تَنَاوُلَ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمَيْتَاتِ، وَحَرَّمَ قَتْلَ النَّفْسِ، وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ بِكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النِّسَاءِ: 29].

 

وَمِنْ ضَوَابِطِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ: أَلَّا يَكُونَ فِيهَا تَعَدٍّ عَلَى حُقُوقِ الْآخَرِينَ الدِّينِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ فَمَثَلًا: الْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ حَقٌّ مُشْتَرَكٌ لَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهَا إِلَى حَقٍّ خَاصٍّ، فَالطُّرُقَاتُ وَالشَّوَارِعُ قَيَّدَ الْإِسْلَامُ فِيهَا حُرِّيَّةَ الشَّخْصِ بِمَا يَتَلَاءَمُ مَعَ مَصْلَحَةِ النَّاسِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا بُدٌّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ،؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ).

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ سَمِعَ فَوَعَى.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْإِسْلَامَ دَعَا إِلَى الْحُرِّيَّةِ الْمُنْضَبِطَةِ، الَّتِي تُحَقِّقُ لِلنَّاسِ الْمَصَالِحَ وَتَدْفَعُ عَنْهُمُ الْمَضَارَّ، فَمَتَى خَرَجَ النَّاسُ عَنْ حُدُودِ هَذِهِ الْحُرِّيَّةِ إِلَى حُرِّيَّةِ الْفَوْضَى وَالِانْفِلَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْدِثُ آثَارًا سَيِّئَةً عَلَى الْأَفْرَادِ، وَعَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

فَسَادُ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ؛ فَإِنَّ شَهْوَةَ الْإِنْسَانِ إِذَا أُطْلِقَتْ مِنْ وَثَاقِهَا أَفْسَدَتْ عَمَلَ صَاحِبِهَا وَخُلُقَهُ، وَصَيَّرَتْهُ كَالذِّئْبِ الْجَائِعِ الَّذِي أُطْلِقَ فِي قَطِيعِ غَنَمٍ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)[الْمُؤْمِنُونَ: 71].

 

وَلَكُمْ أَنْ تَنْظُرُوا وَتَتَفَكَّرُوا -أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ- فِي حَيَاةِ الْغَرْبِ حِينَمَا أَطْلَقَ لِلْحُرِّيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ الْعِنَانَ كَيْفَ غَدَا السُّعَارُ الْجِنْسِيُّ يُمَزِّقُ أَثْوَابَ الْعَفَافِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَيَقْضِي عَلَى كِيَانِ الْأُسْرَةِ، وَاسْتِقَامَةِ النَّفْسِ، وَصَلَاحِ الْخُلُقِ.

 

وَمِنَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ لِلْخُرُوجِ عَنْ حُدُودِ الْحُرِّيَّةِ: شُيُوعُ الْعُدْوَانِ، وَانْتِشَارُ الْجَرِيمَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَصْعِدَةِ؛ مِمَّا وَلَّدَ فِي الْمُجْتَمَعِ الشِّقَاقَ وَالْقِتَالَ وَالْخَسَارَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةَ وَالْبَشَرِيَّةَ، فَغَابَ بِذَلِكَ أَمَانُ الْحَيَاةِ وَرَاحَتُهَا.

 

فَالْيَوْمَ حُرِّيَّةُ الْغَرْبِ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَحْمِيَ الْمُجْتَمَعَ مِمَّنْ يَعِيشُونَ فِيهِ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْحُقُوقِ، وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ، وَنِسَبُ الْجَرِيمَةِ الْمُرْتَفِعَةُ خَيْرُ شَاهِدٍ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الظُّلْمِ الَّذِي لَا يَطِيبُ مَعَهُ الْعَيْشُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ قَالَ: "يَا عِبَادِي: إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).

 

فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: انْعَمُوا فِي ظِلَالِ الْحُرِّيَّةِ الَّتِي رَسَمَ حُدُودَهَا الْإِسْلَامُ، وَاحْذَرُوا الْخُرُوجَ عَنْ تِلْكَ الْحُدُودِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَيَّامِ، وَاشْكُرُوا اللَّهَ عَلَى نِعْمَةِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، الَّذِي حَدَّدَ اللَّهُ لَكُمْ فِيهِ طَرِيقَ الْحُرِّيَّةِ الْقَوِيمَ؛ لِتَصِلُوا بِهِ إِلَى سَعَادَةِ الدُّنْيَا، وَالْفَلَاحِ فِي الْأُخْرَى.

 

فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الشَّاكِرِينَ لِهَذِهِ النِّعْمَةِ عَلَى الدَّوَامِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْأَنَامِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْكَرِيمُ الْعَلَّامُ؛ فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

المرفقات

الحرية (2) حدود الحرية في الإسلام.doc

الحرية (2) حدود الحرية في الإسلام.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات