الحذر

محمد بن حسن المريخي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ كتابة الآجال وحتميتها 2/ المقصود بالحذر وحقيقته 3/ أهمية الحذر ووجوبه 4/ منهج النبي -صلى الله عليه وسلمَ- والصحابة في الحذر 5/ أشياء يجب الحذر منها 6/ بعض فوائد الحذر

اقتباس

إن الحذر ليوصل -بإذن الله- إلى السلامة، وتحقيق المطلوب في الدنيا والآخرة. والحذر صفة إيمانية تقي المؤمن شر المعاصي، ورسولكم ضرب المثل الأعلى في تحذير الأمة، فما من شيء من الشر إلا...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، أرسله الله بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين عزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فاتقوا الله -رحمكم الله- وتزودوا بالتقوى من ممركم لمقركم، فالعاقل لا يغتر بعيش مغبته الفوت، ولا يركن إلى حياة نهايتها الموت.

 

إنها الآجال المكتوبة لا يعجزها مقيم! ولا ينفلت منها هارب! كم عبرت الأرض من عزيز؟ وأفقرت الغير من أنيس؟ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ) [الروم: 25].

 

عباد الله: في القرآن الكريم والسنة المطهرة تحذيرات كثيرة شملت الدين والدنيا والآخرة، وشملت جميع الجوانب والنواحي.

 

فالتحذير من الشرك بالله، ومن مخالفة رسول الله، والتقول على الله ورسوله، والغرور بالدنيا، والغفلة عن الموت والآخرة، ومن المعاصي، وما يصد عن سبيل الله، ومن الفتن والمضلات وأمور كثيرة لا يسمح المقام بعدها وحصرها، وعلى كل حال فالحذر عنوان عريض في الشريعة الإسلامية جاء في الكتاب والسنة بمعان كثيرة، فهو بمعنى التخويف والتهديد مثل قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28].

 

وجاء بمعنى: الاستعداد واليقظة والانتباه للأعداء، ومكرهم وخداعهم؛ كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا) [النساء: 71]، وقوله: (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) [المائدة: 49]، وقوله صلى الله عليه وسلم عن الدجال: "إن الله لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال"، وقال عن الشيطان: "إن الشيطان حساس لحّاس فاحذروه على أنفسكم" (رواه الترمذي، وهو حديث حسن).

 

والحذر مطلب ضروري من متطلبات شريعتنا، وهو اليوم وفي هذه الأزمان يتأكد أمره، ويستوجب أكثر وأكثر، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وحتى لا يخر السقف من فوق الرؤوس، وحتى لا تندم نفس على ما فرطت في جنب الله -عز وجل-: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 56]؛ لأننا في أزمنة عسيرة، شديدة الفتن، يتحول المرء فيها بين عشية وضحاها، ويغتر الرجل بالشعارات والمناهج والفرق والفلسفات في ظرف يوم وليلة، ويبذل حاله وأمره ينزغه شيطان صغير، فضلاً عن نزغات الكبير؛ لذا كان واجباً على المؤمنين الذين يدينون لله -تعالى- بدينه القويم، ومنهج نبيه الأمين: أن يتسلحوا بالحذر أكثر من أي شيء، وأن يكون شعاراً لهم يعرفون به، فأهل السنة يعرفون بهذا لشدة تعلقهم بالكتاب والسنة، وإجماع المسلمين، فما تهب ريح ولا ترفع فتنة رأسها، ولا ترتفع راية من الرايات، ولا ينادي مناد إلا وكان ميزان الكتاب والسنة في انتظاره عند أهل السنة، فإذا وافق أخذوه، وإذا خالف طرحوه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) [المائدة: 49].

 

لقد كان الصحابة والسلف الصالح -رضوان الله عليهم- والرسول -صلى الله عليه وسلم- بين ظهرانيهم كانوا في غاية الحذر من قول شيء أو قبوله أو فعله حتى يستأذنوه صلى الله عليه وسلم فيه ليعلموا حكمه؛ جاء عمر بن الخطاب ببعض صحف أهل الكتاب يقرأها ويطالعها، فغضب عليه رسول الله خشية أن يقع في نفسه شيء منها، وقال له: "أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟" (متشككون في شريعتي) والله لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك، والذي نفسي بيده لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي" (رواه البخاري).

 

ولئن مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وانتقل إلى جوار ربه، فلقد ترك لأمته كتاب الله وسنته، فلن تضل الأمة أبداً ما تمسكت بهما، يقول عليه الصلاة والسلام: "تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله" (رواه مسلم)، وفي رواية: "كتاب الله وسنتي"، وهذا الذي ينبغي للمسلم الفطن الحصيف أن يوزن الأمور، وما يعرض له من أحوال جديدة أن يوزنها في ميزان الكتاب والسنة فقط، ويحكم من خلال هذا الميزان الذي لا يخطأ أبداً؛ لأنه كتاب وسنة: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت: 42].

 

ولأنه حق مبين؛ كما قال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- بعد أن عاتب عليه قريش؛ لأنه يكتب عن بشر يصيب ويخطئ، قال: "اكتب فو الذي نفسي بيده لا يخرج منه إلا حق" وأشار إلى فمه الشريف (رواه أحمد وأبو داود).

 

وأول أمر يحذره المسلم هو: الإشراك بالله -عز وجل-، والشرك ليس شرطاً أن يجعل مع الله إلهاً آخر، ولكن سؤال البشر عن أمور غيبية وتصديقهم كالشعوذة والسحرة والكهان وسؤال الموتى وأهل القبور أن يفرجوا كرباتهم ويقضوا حوائجهم، كل هذا وغيره من أمثاله شركيات ينبغي أن يحذرها المؤمن، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله -سبحانه-: (قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) [النمل: 65]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد"، وفي رواية: "لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" (مسلم).

 

وأن يحذر المسلم مخالفة هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي أمر الله -تعالى- باتباعه شبراً بشبر، وأخذ الدين والشريعة منه صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى محذراً من مخالفة رسوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]، وأخبرنا رسولنا الكريم: أنه سيطرد أقواماً من أمته عن حوضه يعرفهم ويعرفونه بسبب مخالفتهم له عليه الصلاة والسلام، يقول صلى الله عليه وسلم: "ولأذودن أقواماً عن حوضي كما تذاد الغريبة من الإبل" (رواه البخاري)، وقال: "ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم" (رواه البخاري)، وفي رواية: "فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيرّ بعدي".

 

وليحذر المسلم من إسناد أمور وأحوال إلى دين الله وهدي رسول الله، والدين منها برآء، فإن شريعة الله بيضاء نقية، ولقد توعد الله -تعالى- أهل الكتاب الذين بدلوا في شريعة موسى -عليه السلام- فقال: (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ) [البقرة: 79]، وقال العلماء: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" فكل من بدل في شريعة محمد أو أسند إليها ما ليس منها فالوعيد عليه، وهو داخل في هذا الوعيد، وهدد صلى الله عليه وسلم فقال: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" (متفق عليه).

 

كما قال أيضاً متبرئا ممن ترك سنته: "فمن رغب عن سنتي فليس مني"، وليحذر المسلم دعاة جهنم وأهل النفاق والبدعة الذين يكيدون لدين الله، ويصدون عن سبيله ويبغونها عوجاً، ويحذر تقلب الدنيا وغرورها وزخارفها، وخاصة هذه الأزمان التي تسرق لب المؤمن، وتذهب بعقله، وتجرفه سيولها بعيداً عن الدين الصحيح، وتزين له حياته حتى ينسى أجله والموت، وهذا أعظم البلاء، فإن المرء إذا كان متذكراً لأجله ذاكراً للموت فإنه سيعمل الصالحات، ويغتنم الأوقات، ويعد العدة للقبور وظلماتها ووحشتها، فلا يأته الموت بغتة؛ لأنه قد أخذ حذره، فهو مسارع في الطاعات يمهد لنفسه بعمل الصالحات.

 

ومما يحذره المسلم أيضاً: التجمعات المريبة، والشعارات والمناهج والفلسفات التي تخالف الشريعة، والتي لها أغراض وأهداف غير واضحة المعالم، فلا ينبغي للمسلم أن يجيب كل صارخ وكل مناد، بل عليه أن يتريث ويتصبر حتى يعرف من الصارخ، ومن المنادي، وماذا يريد، فإن بعض الشعارات أول ما تظهر براقة مزخرفة تأخذ بالألباب، فما تلبث أن تنكشف حقيقتها وتظهر ثمرتها المرة، فليحذر المسلم أن يلقي بنفسه في التهلكة، وليحذر المسلم أن يرعى مع الهمج، فإن الله يقول: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة: 195]، ويقول: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29].

 

وجعل شريعته وما فيها من تكاليف في طاقة العبد واستطاعته، فلم يكلفنا مما لا طاقة لنا به رحمة بنا وفضلاً منه: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286]، (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا) [الطلاق: 7].

 

هذه بعض التحذيرات -يا عباد الله- فالزموا شرع ربكم وسنة نبيكم، فإن فيها السلامة والنجاة.

 

إن الحذر -يا عباد الله- ليوصل -بإذن الله- إلى السلامة، وتحقيق المطلوب في الدنيا والآخرة.

 

والحذر صفة إيمانية تقي المؤمن شر المعاصي، ورسولكم ضرب المثل الأعلى في تحذير الأمة، فما من شيء من الشر إلا وحذرهم منه.

 

والحذر علامة اليقظة والتوفيق والسداد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران: 118].

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات