د عمر بن عبد الله المقبل
كيف تؤثر العبادات في سلوكياتنا؟ ولماذا لا يجد الكثير آثارها في حياتهم؟
كان هذا السؤال المطروح في الحلقة الماضية، وللجواب عنه يقال:
أما السبل المعينة على تفعيل أثر العبادات في النفوس، فيمكن إيضاحها فيما يلي:
أولاً: قراءة النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة، التي وردت في شأن تلك العبادة التي نفعلها.
ثانياً: بعد جمع النصوص يستعين المسلم في فهمها بكتب التفاسير فيما يتعلق بالآيات، وعلى كتب شروح الأحاديث ـ إن أمكن ذلك ـ وإلا فبسؤال أهل العلم لفهم ما قد يشكل منها.
ثالثاً: من الوسائل التي تجعل العبادات مؤثرة في سلوك الشخص: استشعار أهمية العبادة ومعناها، والحكمة منها.
وأن يعلم أن الغاية العظمى من العبادات هو إصلاح القلوب، ولا يتم لها ذلك إلا بأن تذل وتخضع وتستكين لخالقها، وتنيب وتعود لربها، وترهب وترغب لمولاها، فبذلك يتم صلاح القلب، ويسعد العبد في دنياه وأخراه، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ يقول: من أراد السعادة الأبدية فليزم عتبة العبودية(1).
رابعاً: مطالعة سير وأحوال السلف الصالح ـ رحمهم الله تعالى ـ في تلك العبادة وهذا له أثر عظيم ومشاهد، إذ مع استشعار أن القدوة المطلقة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سيرته خير وكفاية، إلا أن المسلم أيضاً سيزداد خيراً حينما يقرأ في هذا الباب.
يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ "وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه لا لاقتباس علمه، وذلك ثمرة علمه: هديه وسمته، فافهم هذا، وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك"(2) ا هـ.
والمقصود أن القارىء في سير السلف الصالح سيمر بمواقف وأخبار تدمع لها العين، ويرق لها القلب، سيتذكرها القارىء لها حينما يمر بنفس المواقف التي مروا بها ـ كما سأذكر بعضاً منها في ثنايا هذه الورقة إن شاء الله تعالى ـ.
فمثلاً: في الحج، وغيره من مواسم العبادات الأخرى على مدار العام، يمكن أن يقرأ الإنسان في كتاب " لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف " للحافظ ابن رجب ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه جمع في كتابه بين الأحكام والمواعظ بأسلوب متميز.
ويمكن الاستفادة ـ أيضاً ـ من بعض الكتب التي خرجت في هذا الوقت، اعتنت بالفهرسة الموضوعية لبعض الكتب، ككتاب " نزهة الفضلاء في تهذيب سير أعلام النبلاء " فالمؤلف وفقه الله جعل في آخر المجلد الثالث فهرساً لما تضمنه المختصر من قصص وأخبار جاءت عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم رحمهم الله تعالى ممن ورد ذكرهم في أصل الكتاب " سير أعلام النبلاء " للذهبي ـ رحمه الله تعالى ـ.
رابعاً:وهو مهم أيضاً، وقد أشار إليه ابن الجوزي في كلمته السابقة، وهو أن يصحب الإنسان رفقة صالحة، فيها طلاب علم أو علماء ـ إن تيسر ذلك ـ ليستفيد منهم في تصحيح عبادته، وليستفيد مما يلقى من الدروس والمواعظ في رحلة الحج، ولهذا قال جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل مثل عمله.
وما سبق في ( ثالثا ورابعا ) يقودنا إلى نقطة هامة في هذا الموضوع ألا وهي أنه ينبغي للإنسان ألا يغفل عن قراءة كتب فيها مواعظ في أيامه كلها، وخاصة في مواسم العبادات كرمضان والحج، لأن القلب إذا قسا ـ والعياذ بالله ـ لم يتلذذ بالعبادة، ولم ينتفع بالمواعظ إلا ما شاء الله.
ومما ينبه إليه هنا أن بعض من منَّ الله عليهم بسلوك طريق الهداية أو حتى طريق طلب العلم الشرعي يغفلون عن هذا الجانب، إما لانهماكهم في الطلب، أو ظناً منهم أن هذا من شأن العوام، وهذا خطأ يجب أن يصحح.
وسبحان الله! مَن الناسُ بعد محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؟
هذا ابن مسعود رضي الله عنه يحكي حالهم ـ كما في الصحيحين ـ " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا " والشاهد أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعاهد أصحابه رضي الله عنهم بالوعظ والتذكير بين الحين والآخر.
وهذه لفتة من عالم مجرب، من أئمة العلم والوعظ في نفس الوقت، وهو ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ حيث يقول:
"رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب، إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين؛ لأنهم تناولوا مقصود النقل، وخرجوا عن مقصود الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها، والمراد بها، وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق..."(3) ا هـ.
إذاً.. لماذا لا يجد الكثير آثار العبادات في حياتهم؟ وهو الجزء المتمم لهذه الحلقة، فأقول:
أشرت قبل قليل إلى بعض الأسباب عند الحديث عن بعض الطرق التي يمكن أن نعملها لكي نجد للعبادة آثاراً على سلوكنا، وأن للعلم أثراً في زيادة تعظيم العبد لشعائر الله التي قال الله فيها: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: من الآية32).
وفرق كبير ـ أخي القارئ ـ بين مَن يتلقى تعظيم الشعائر من الاعتياد والنظر لمن حوله من أمه وأبيه، أومن المجتمع الذي يحيط به فقط، وبين من يتلقى تعظيمها غضةً طريةً من نصوص الوحي، وسير السلف الصالح؛لأن تعظيمه حينئذ يكون مبنياً على علم وخشية وإجلال لمستحق التعظيم والإجلال، ولهذا قال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )(فاطر: من الآية28)، وهذا مما يستدل به على فضيلة العلم لأنه يدعو إلى خشية الله تعالى، ولهذا قال بعض السلف " مَن كان بالله أعرف كان منه أخوف".
فإذا تيقن الإنسان أن هذه الشعيرة من شعائر الله أحدث ذلك له تعظيما لها، ولهذا نجد بعض العامة يعظمون الشعائر ـ تعظيم الموقن بأن هذا الشرع صادر عن علم وحكمة لأنه من عند الله ـ وهو يقين مجمل.
إلا أن أهل العلم ـ وهم على درجات أيضاً ـ يتميزون بالعلم المفصل بكثير من الجزيئات التي تجعل إيمانهم أعظم، ويقينهم بإحكام هذه الشريعة أكثر، وأنها صادرة عن علم تام، وحكمة بالغة، وأن الأمر كما قال جل جلاله: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: من الآية82).
ولهذا قال الله عز وجل في أواخر سورة الإسراء مخاطباً كل من كذب بالقرآن ومبينا فضيلة أهل العلم (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ـ أي فليس لله حاجة فيكم، فإن لله عباداً غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع ـ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (الإسراء:107-109).
فهذا هو السبب الأول في فقد بعض الناس لآثار العبادات، وهو قلة العلم بالنصوص الشرعية الواردة في تلك العبادة.
وأرجو ألا يفهم ـ القارئ الكريم ـ أني أحجر تعظيم الحرمات على أهل العلم فحسب فيصاب البعض بالإحباط، فقد أشرت إلى أن من العامة مَن عنده تعظيم ويقين، لكنه ليس بمنزلة تعظيم ويقين الذين أوتوا العلم، وما ذكرته إنما هو إشادة بالعلم وأهله، وحث على طلب العلم حسب القدرة والطاقة.
ثانياً: من أسباب حرمان آثار العبادات وعدم التلذذ بها:
ضعف الإخلاص لله تعالى والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في تلك العبادة، وهذان الأمران كما أنهما شرطان في قبول العمل، فهما أيضاً مؤثران تأثيراً عظيما في الشعور بلذة العبادة وأثرها، ولهذا ليست العبرة بكثرة العمل، وإنما بحسنه، كما قال سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك: من الآية2) ولم يقل أكثركم عملاً، والمراد بحسن العمل هو أن يكون خالصاً لله صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فسره بذلك طائفة من السلف كالفضيل وغيره.
وبقدر ما يكون الإخلاص يعظم الأثر ويزداد النفع، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة والتعظيم والإجلال وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، حتى تكون صورة العملين واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يحصيه إلا الله، وتتفاضل أيضاً بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل، بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلاً لا يحصيه إلا الله تعالى"(4) ا هـ.
والشاهد من كلامه ـ رحمه الله ـ أن الأعمال إذا كان يقع بينها هذا التفاضل بسبب ما بينها من التجريد والمتابعة، فلا بد أن تكون آثارها كذلك؛ لأن الآثار ـ في الحقيقة ـ فرع عن سلامة الأعمال من محبطاتها أو منقصات أجرها.
ثالثاً: من أسباب حرمان آثار العبادات وعدم التلذذ بها:
اقتراف الذنوب والمعاصي!
ولله! كم لهذا السبب من أثر عميق في محق البركات السماوية والأرضية!
ومن أعظم البركات التي تمحقها الذنوب محق بركة العبادة وفقد آثارها، وحرمان لذتها؟!
يقول الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96).
وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي تدل على أن ما أصاب ويصيب الأمم الغابرة واللاحقة من نقص الدين والدنيا إنما هو بسبب الذنوب، ولست بصدد الحديث عن آثار الذنوب والمعاصي، ولكنها إشارات عابرة، وأحيل القارئ الكريم في هذا إلى الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ "ومن أحيل على مليء فليحتل" في كتابه ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي)) فقد شفى وكفى.
سئل وهيب بن الورد ـ رحمه الله ـ:أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ قال: ولا من همّ! ـ أي من همّ بالمعصية ـ!
فإذا كان هذا أثر الهم بالمعصية فما الظن باقترافها، والولوغ فيها والإصرار عليها؟!
وإليك ـ أيها القارئ الفاضل ـ نفثة ربانية من كلام من نوّر الله بصائرهم بهذه الأمور، فعرفوا خطورة الذنب الواحد، فضلاً عن ذنوب كثيرة، يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ:
"وربما كان العقاب العاجل معنوياً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل:يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟فقيل له:كم أعاقبك وأنت لا تدري!أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟...إلى أن قال:فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرم صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك...وهذا أمر يعرفه أهل محاسبة النفس(5)"ا هـ.
ويقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ عندما تحدث عن عقوبات الذنوب والمعاصي:
"ومن عقوبات الذنوب أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله، وتضعف وقاره في قلب العبد ولا بد، شاء أم أبى، ولو تمكن وقار الله وعظمته من قلب العبد لما تجرأ على معاصيه... إلى أن قال:فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيمَ حرماته، وتعظيمُ حرماته تحول بينه وبين الذنوب(6) "ا هـ.
والمقصود هنا بيان أثر الذنوب في حرمان لذة العبادة، وآثارها على سلوك الفرد.
وبعد هذا، فلنلج إلى لب هذه الورقة، للحديث عن شيء من الآثار السلوكية للحج، في الحلقتين التاليتين بإذن الله.
______________
(1) نقله ابن القيم عنه في مدارج السالكين، ينظر:"تهذيبها" 1/368 في آخر كلامه على منزلة التوبة.
(2) صيد الخاطر ص (292).
(3) صيد الخاطر ص (292).
(4) ينظر تهذيب مدارج السالكين 1/300.
(5) صيد الخاطر (80) وفي نفس الصفحة تجد كلمة وهيب بن الورد السابقة.
(6) الجواب الكافي ص/ 67، ط. دار البيان.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم