عناصر الخطبة
1/ ما هي الطيبات؟ 2/ أهمية تحري المكسب الحلال 3/ قناعة النبي صلى الله عليه وسلم وكفافه 4/ الحذر من المال الحرام 5/ خطر حب الدنيااقتباس
.. كم من الناس من جرهم حب الدنيا والافتتان بها إلى ظلم الناس بالشتم، والقذف، وشهادة الزور، والضرب، والقتل؛ ليحصلوا على شيء من حطام الدنيا، ويعدون تحصيل ذلك شرفاً وربحاً، وهو في الحقيقة خسّة وإفلاس وخزي وندامة يوم القيامة ..
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، أحمده سبحانه هو الملك القدوس السلام، وأشكره على ما حبانا به من الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي أوضح الأحكام، وبين الحلال والحرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل مرسل وأكمل إمام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم، واعبدوه، وابتغوا عنده الرزق، واشكروا له؛ إليه ترجعون، واعلموا أن الله -تعالى- طيب لا يقبل إلا طيباً، وأنه -سبحانه- أمر المؤمنين بالابتغاء من فضله، والأكل من طيب رزقه، وهو ما جاء من حله، فقال -تعالى-: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [الجمعة:10]. وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّه) [البقرة:172].
أيها المسلمون: الطيب من الرزق هو الحلال الذي أحله الله، وهو ما كان مستطاباً في نفسه، غير ضار للأبدان أو العقول، وغير مكتسب بمعاملة محرمة أو على وجه محرم من وسائل الدخول، فإن الأكل من الحلال من أسباب صلاح القلب، وزيادة الإيمان والنشاط في الأعمال الصالحة، والرغبة في الإحسان، وهو مما تحفظ به النعم الموجودة وتزاد، وتستجلب به النعم المفقودة وتقاد، فمن لطف الله بعباده أن يسر الحلال، وأرشد إليه، ورغب فيه، وجعل طلبه من صالح الأعمال، ووعد أهله بفضله، وكفايته، وحفظه، ووقايته، ومغفرته، وجزيل مثوبته، ويسر الأمر في الحال والمآل، ونهاهم عن الحرام، وزجرهم عن الأخذ بما يأتي به من الوسائل والأسباب، وتوعدهم على طلبه وأكله بشديد العقوبة وأليم العذاب، وكفى بذلك موعظة لأولي الألباب، ولهذا قال تعالى: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:81-82].
فاتقوا الله -أيها المسلمون-، وتحروا طيب المكاسب، وابتغوا الحلال من الرزق، فنعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى والنعيم المقيم، ولا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق؛ أي أنفقه في وجوه الخير مبتغياً بذلك فضل الله -عز وجل-، فباكروا في طلب الرزق في الغدو بركة ونجاح. واتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم، واعلموا أن خير الرزق ما يكفي، ويسلم صاحبه من الإثم، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى؛ فليس الغنى عن كثرة العَرض، ولكن الغنى غنى النفس، وقد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه.
ومن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " اللهم اجعل رزق آل محمداً قوتاً "، والقوت ما يسد الرمق. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض " متفق عليه.
وكان فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أدم -أي جلد- حشوه ليف " رواه البخاري، وقال -صلى الله عليه وسلم-: " من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " ، وقال -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر -رضي الله عنهما-: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ".
أيها المسلمون: أعظم الزهد في الدنيا ترك الحرام، ويليه الرغبة عن فضول المال خشية الوقوع في الآثام. فاتقوا الحرام؛ فإنه شر الرزق، وخبيث الكسب، وسيء العمل، وزاد صاحبه إلى النار، إن تموَّلَه له يبارك له فيه، وإن أنفقه لم يؤجر عليه، وإن تصدق به لم يقبل منه، وإن دعا وهو في جوفه لم يستجب له. فما أشأمه على صاحبه! وما أشقى صاحبه به! عليه غرمه ولغيره غنمه.
روي أن الشيطان -أعاذنا الله منه- قال: " لن يسلم مني صاحب المال من إحدى ثلاث أغدو عليه بهن وأروح: أخذه من غير حله، وإنفاقه في غير حقه، وأحببه إليه فيمنعه من حقه " . رواه الطبراني بإسناد حسن.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيها درهم حرام لم يقبل الله له صلاته ما دام عليه " رواه أحمد وغيره.
وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه: " إنه لن يدخل الجنة لحم نبت من سحت النار أولى به " ، وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام " ، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: " لا تغبطن جامع المال من غير حله –أو قال: من غير حقه- فإنه إن تصدق به لم يقبل منه، وما بقي كان زاده إلى النار ".
فاتقوا الله -عباد الله- في أموالكم، وابتغوا بها مرضاة ربكم، فإنها عارية منه وعندكم، فأحسنوا استعمال العارية، ولا تشغلنكم الفانية عن الباقية، ولا يفتننكم من أصبح عبداً للدرهم والدينار فانتهك محارم الجبار، فإن الله لا تخفى عليه خافية (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) [إبراهيم:42]. وفي صحيح البخاري رحمه الله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة " .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا به، وجعله قائداً لنا إلى جنات النعيم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً وقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) [الكهف:46].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رازق سواه للعبيد، وإليه المرجع، وعليه الحساب، وما ربك بظلام للعبيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الهمم العالية والعزائم الصادقة والتشمير.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا سخط الجبار، واحذروا المال الحرام، فإنه من أعظم أسباب الشقاء والدمار، ومن أخطر ما يوصل صاحبه إلى النار، واعلموا أن الدنيا حلوة خضرة، وأن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون.
فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، واتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم.
أيها المسلمون: حبّ الدنيا رأس كل خطيئة، والافتتان بها سبب لكل مصيبة، وموجب للإفلاس والخسارة في الدنيا والآخرة.
كم من الناس من جرهم حب الدنيا والافتتان بها إلى ظلم الناس بالشتم، والقذف، وشهادة الزور، والضرب، والقتل؛ ليحصلوا على شيء من حطام الدنيا، ويعدون تحصيل ذلك شرفاً وربحاً، وهو في الحقيقة خسّة وإفلاس وخزي وندامة يوم القيامة؛ ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته حتى إن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار ".
ومن الناس من دفعه الشح بالدنيا إلى منع الحقوق عن أهلها، فلا يعطي الناس حقوقهم مع غناه وقدرته على الوفاء، وفي الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " مطل الغني ظلم " . والمطل: هو التسويف والتأخير في أداء ما في الذمة للناس مع الغنى والقدرة. فالمماطلة في أداء الحق الواجب من أعظم أنواع الظلم، ومن موجبات شديد الغرم يوم القيامة، وهو من موجبات الفسق، ومعدود من الكبائر عند كثير من أهل العلم.
وفي الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " لتؤدون الحقوق إلى أهلها حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء " . ولذا قال -صلى الله عليه وسلم-: " من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منها اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم؛ إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه " . فيا ويح من لم يوفِّ غريمه في الدنيا، وما أعظم جرمه إذا تسبب في خسارة غريمه بالشكوى والمحاماة لاستخراج حقه! فإن الظلم يزداد؛ فما أخسره يوم المعاد.
فاقنعوا بالحلال عن الحرام، وتوبوا إلى الله من المظالم والآثام، وأحسنوا كما أحسن الله إليكم، ويسروا على عباده كما يسر الله عليكم، واجعلوا أموالكم لكم ستراً من النار بكثرة الصدقات ومشروع النفقات، وامتطوها إلى ما يرضي الله توصلكم إلى الدرجات العالية من الجنات.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله! (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم