الحث على المداومة على الطاعة بعد رمضان

عبدالرحمن الهويمل

2025-04-04 - 1446/10/06 2025-04-02 - 1446/10/04
عناصر الخطبة
1/انتهاء شهر رمضان 2/بين القبول والخذلان 3/من علامات قبول الطاعات 4/ من أمارات القبول وعلامات الخيرية 5/كثرة أبواب الطاعات بعد شهر رمضان 6/الاستقامة على العبادة والثبات على الطاعات.

اقتباس

إذا كان المسلمون قد ودَّعوا شهر رمضان موسم الغفران والعتق من النيران وموسم التنافس في طاعة الرحمن، فإنهم لم يودِّعوا بتوديعه أبواب الخيرات، فلا تزال مواسم الخيرات متجددة وأبواب الخيرات متتالية، وينبغي للعبد المؤمن أن يغتنم حياته، وأن يستغل وجوده في هذه الحياة في الطاعات.

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله المتفرد بالبقاء والدوام، المتفضل على عباده بالإحسان والإنعام، أحمده حمد من قال: ربي الله ثم استقام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه المبين: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر: 99].

 

وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله خير البرية وأزكاها، نَبِيُّ الشَّرِيعَةِ الدَّائِمَةِ، وَالرِّسَالَةِ الْخَاتِمَةِ، صَلَواتُ رَبِّي وَسلامُهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ أَجْمَعِينَ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في كل زمان ومكان، واشكروه أن وفَّقكم وأنعم عليكم بإكمال شهر الصوم والغفران، فلقد مضى وانقضى وهو شاهد للمحسنين بإحسانهم، وشاهد على العاصين بعصيانهم.

 

عباد الله: لقد ودَّع المؤمنون موسماً عظيماً فاضلاً أقبلت فيه القلوب عبادةً وطاعةً، وتنافَس فيه العِباد بأنواع القربات وصنوف العبادات.

 

عباد الله: إذا كان المسلمون قد ودَّعوا شهر رمضان موسم الغفران والعتق من النيران وموسم التنافس في طاعة الرحمن، فإنهم لم يودِّعوا بتوديعه أبواب الخيرات، فلا تزال مواسم الخيرات متجددة وأبواب الخيرات متتالية، وينبغي للعبد المؤمن أن يغتنم حياته، وأن يستغل وجوده في هذه الحياة في الطاعات.

 

عباد الله: إن من علامات قبول الطاعة: الطاعةَ بعدها، وقد قال أهل العلم -رحمهم الله تعالى-: إن من علامة قبول طاعة الصيام والقيام في شهر رمضان أن تكون حال العبد بعد رمضان حال سكينةٍ ووقار وشكرٍ لله -تبارك وتعالى- وإحسانٍ في الإقبال على الله -عز وجل-، فإذا كان العبد كذلك فإن ذلك من أمارات القبول وعلامات الخيرية.

 

أما إذا كانت حالُ العبد بعد رمضان تحوُّلاً من الطاعة إلى الإضاعة وإقبالاً على المعاصي والآثام فليس ذلكم من أمارات الخير، ولقد قال أحد السلف قديماً عندما حُدِّث بحال بعض الناس يجتهدون في شهر رمضان وإذا انقضى فرطوا قال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان".

 

أيها المؤمنون: إن رب الشهور واحد، فرب رمضان هو ربّ شوال ورب الشهور كلها، وكما قال بعض السلف: "كن ربانياً ولا تكن رمضانياً"؛ أي لا تكن طاعتك لله وعبادتك له -سبحانه وتعالى- محدودة بهذا الشهر، بل حياتك كلها موسم لطاعة الله -جل وعلا-، قال الله -تعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)[الحجر:99]؛ أي حتى يأتيك الموت، وقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، وقال -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأحقاف: 13]، وقال -جل وعلا-: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30].

 

فالاستقامة على الطاعة من أهم الأمور، ومن الأدلة على إرادة الخير للعبد، وإن الإعراض عن الله وعن عبادته دليل على نقصان الإيمان، فراقبوا الله واستقيموا إليه في جميع الأوقات، وتقربوا إليه بالأعمال الصالحات، فما أجمل الاستقامة على العبادة، وما أجل المداومة على الطاعة! فاجعلوا الاستقامة شعاركم، وصالح الأعمال غايتكم، ومرضاة الله أعز أمانيكم، والتمسك بسنة نبيكم هدفكم، يكتب الله لكم الأجر والثواب، ويفتح لكم أبواب رحمته.

 

وعليكم بمتابعة الإحسان بالإحسان؛ فإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ دَليلُ الْعُبُودِيَّةِ الصَّادِقَةِ، سَواءٌ كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فَرْضاً أَمْ نَفلًا، وَهَذَا هُوَ هَدْيُ نَبِيِّنَا -عَلَيهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ-، فعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ -يَعْنِي: جَعَلَهُ ثَابِتًا غَيْرَ مَتْرُوكٍ-، وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً"(رواهُ مسلمٌ).

 

فَالْزَمُوا مَا هَدَاكُمُ اللهُ لَهُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاحْذَرُوا الرُّجُوعَ إِلَى الْمُنْكَرَاتِ وَالْقَبَائِحِ، فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ مُنْتَهًى مِنَ الْعِبَادَةِ دُونَ الْمَوْتِ. وَكَانَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيسٍ -رَحِمَهُ اللهُ تعالى- كَثِيرَ الصِّيَامِ حَتَّى بَعدمَا كَبُرَ سِنُّهُ، وَضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ وَإِنَّ الصِّيَامَ يُضْعِفُكَ، فَقَالَ: "إِنِّي أُعِدُّهُ لِسَفَرٍ طَوِيلٍ".

والصَّبرُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ -سُبْحَانَه- أَهْوَنُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى عَذَابِهِ.

 

اللَّهُمَّ أَمِتْنَا عَلَى أَحْسَنِ الْأَعْمَالِ، وَابْعَثْنَا عَلَى خَيْرِ الْخِلاَلِ يا ذَا الْجَلاَلِ وَالْإكْرَامِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لاِغْتِنَامِ الْأَوْقَاتِ، وَعِمَارَتِهَا بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَ الْخَطَايا وَالسَّيِّئَاتِ.

 

كما نسأل الله -سبحانه- أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى دِينِهِ، وَأَلاَّ يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا، وَأَنْ يُعِيذَنَا مِنْ أَسْبَابِ حُبُوطِ الْأَعْمَالِ، إِنَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، أرشَدَ النفوسَ إلى هُدَاهَا، وحذَّرَهَا مِن اتباع هواها، أحمَدُهُ -سبحانَه- وأشكُرُهُ على نِعَمٍ لا تُحصَى وآلاءٍ لا تَتَنَاهَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه، وأشهدُ أنَّ سَيِّدَنَا ونَبِيَّنَا محمدًا عبدُ اللهِ ورسُولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَن تَبِعَهُمْ بإحْسَانٍ إلَى يَومِ الدِّينِ، وسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا.

 

أما بعد: فاتقوا الله -تعالى-، فإن مَن اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.

 

عباد الله: لئن انقضى موسم رمضان، فبين أيديكم موسم يتكرر في اليوم والليلة، خمس صلوات فرضها الله على عباده، وبين أيديكم موسم يتكرر كل أسبوع ألا وهو صلاة الجمعة فيها ساعة لا يوافقها عبد يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه، ولئن انقضى صيام رمضان فإن باب الصيام لا يزال مشرعاً مُرَغَّباً في فضله وثوابه، فهناك الاثنين والخميس، وهناك الأيام البيض من كل شهر، وهناك ست من شوال التي قال عنها -صلى الله عليه وسلم، كما عند مسلم رحمه الله-: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".

 

ووجه كون صيام الست من شوال بعد رمضان كصيام الدهر: أن الله يجزي على الحسنة بعشر أمثالها كما في قوله -سبحانه-: (مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا)[الأنعام:160]، فصيام رمضان مضاعفاً بعشرة شهور، وصيام الست بستين يوماً، فحصل من ذلكم أجر صيام سنة كاملة.

 

ولئن انقضى قيام رمضان فقيام الليل مشروع في العام كله، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيم الحرص على قيام الليل في العام كله في رمضان وغيره، وكان يقوم حتى تفطرت قدماه -عليه الصلاة والسلام-. وقد قال -تعالى- مُرَغِّباً عباده في قيام الليل: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[السجدة: 15- 17].

 

وتلاوة القرآن مشروعة في كل وقت، فرمضان شهر نزل فيه القرآن وليس شهراً تُحصَر فيه تلاوة القرآن، فاستكثروا من تلاوته، وقد أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بعض أصحابه أن يختموه في كل أربعين يوماً، وأوصى بعضهم أن يختموه في كل ثلاثين يوماً، وأوصى أن لا يُختم في أقل من ثلاث، وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان هو وأصحابه يختمونه في كل سبعة أيام.

 

وذلك يعني أنه ينبغي أن يكون المسلمون مرتبطين بكتاب الله تلاوةً وتدبراً وتفقهاً وعملاً، وكم من المسلمين لا ينظر في القرآن إلا يوم الجمعة ولا يكاد يقرأ إن قرأ إلا سورة الكهف فقط، وهذا من التقصير في حق كتاب الله.

 

وكذلك شرع الله التقرب إليه بالصدقات وبذل المعروف في كل وقت وحين من أوقات العام، فتصدقوا ولا تحقروا من المعروف شيئاً؛ فالقليل مع صدق النية كثير عند الله، وضعوا صدقاتكم في محلها الصحيح ولا تضعوها في أيدي عصابات التسول والجماعات والتنظيمات المشبوهة التي تجمع الأموال بغير وجه حق.

 

واستغلوا كل حياتكم فيما يُقرِّبكم من الله ويباعدكم من أسباب سخطه. فاليوم العمل وغداً جزاء هذا العمل، والله المستعان.

 

وصلوا وسلموا على محمد بن عبد الله؛ كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا"، وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام- الحثّ على الإكثار من الصلاة والسلام عليه في ليلة الجمعة ويومها.

 

اللهم صلِّ وسلِّم على أفضل رسلك وخير أنبيائك وعلى آله وأزواجه الطيبين الطاهرين، وعلى الخلفاء الأربعة الراشدين المهديين وعلى سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهم أعِزّ الإسلام والمسلمين، وأذِلّ الشرك والمشركين، ودَمِّر أعداء الدين، اللهم مَن أراد الإسلام والمسلمين بشَرٍّ وسوء، فاجعل كيده في نَحْره، واجعل تدبيره تدميراً عليه.

 

اللهم تقبَّل منا صيام شهر رمضان وقيامه، واجعله شاهداً لنا لا شاهداً علينا، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

 

اللهم ثبتنا على الأعمال الصالحة بعد رمضان، اللهم وفِّق ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيِّدهم بتأييدك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم هيئ لهم بطانة صالحة ناصحة، تدلهم على الخير وتعينهم عليه.

 

اللهمَّ انْصُرْ واحفظ جنودَنا المُرابِطينَ على حدودِنا، وكلَّ رِجالِ أمنِنَا.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).

 

 

المرفقات

الحث على المداومة على الطاعة بعد رمضان.doc

الحث على المداومة على الطاعة بعد رمضان.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات