الحب في الله والبغض في الله

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-11 - 1444/03/15

اقتباس

الحب في الله والبغض في الله

الحب في الله والبغض في الله - عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف

 

الحبّ في الله والبغض في الله له لوازم ومقتضيات، فلازم الحب في الله: الولاء، ولازم البغض في الله: البراء، فالحب والبغض أمر باطن في القلب، والولاء والبراء أمر ظاهر كالنصح للمسلمين ونصرتهم والذب عنهم ومواساتهم، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وترك التشبه بالكفار، ومخالفتهم، وعدم الركون والثقة بهم، فإذا انتفى اللازم -الولاء والبراء- انتفى الملزوم -الحب والبغض- هذا التلازم بين الحب والبغض، وبين الولاء والبراء يتسق مع التلازم بين الظاهر والباطن في الإيمان.

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، وتحقيقه في واقعنا هو المقياس الشرعي السديد تجاه الناس بشتى أنواعهم، والحب في الله والبغض في الله هو الحصن الحصين لعقائد المسلمين وأخلاقهم أمام تيارات التذويب والمسخ كزمالة الأديان والنظام العالمي الجديد والعولمة ونحوها. ومسائل هذا الموضوع كثيرة ومتعددة، وقد عُني العلماء قديماً وحديثاً بتحريرها وتقريرها، لكن ثمة مسائل مهمة -في نظري- تحتاج إلى مزيد بحث وتحقيق وإظهار.

 

منها: أن الحبّ في الله تعالى والبغض في الله متفرع عن حب الله تعالى، فهو من لوازمه ومقتضياته، فلا يمكن أن يتحقق هذا الأصل إلا بتحقيق عبادة الله تعالى وحبّه، فكلما ازداد الشخص عبادة لله تعالى وحده ازداد تحقيقاً للحبّ في الله، والبغض في الله، كما هو ظاهر في قصة الخليل إبراهيم عليه السلام، وهو أظهر في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

 

ومنها: أن الحبّ في الله والبغض في الله له لوازم ومقتضيات، فلازم الحب في الله: الولاء، ولازم البغض في الله: البراء، فالحب والبغض أمر باطن في القلب، والولاء والبراء أمر ظاهر كالنصح للمسلمين ونصرتهم والذب عنهم ومواساتهم، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وترك التشبه بالكفار، ومخالفتهم، وعدم الركون والثقة بهم، فإذا انتفى اللازم -الولاء والبراء- انتفى الملزوم -الحب والبغض- هذا التلازم بين الحب والبغض، وبين الولاء والبراء يتسق مع التلازم بين الظاهر والباطن في الإيمان.

 

 ومنها: أن الحب في الله والبغض في الله من أعظم أسباب إظهار دين الإسلام، وكف أذى المشركين، بل إن تحقيقه سبب في إسلام الكافرين، وهاك بعض الأحداث التي تقرر ذلك، فقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية جملة مما ذكره الواقدي في معازيه وغيره. فمن ذلك أن اليهود خافت وذلت من يوم قتل رئيسهم كعب بن الأشراف على يد محمد بن مسلمة رضي الله عنه [1].

 

 ويقول شيخ الإسلام: "وكان عدد من المشركين يكفون عن أشياء مما يؤذي المسلمين خشية هجاء حسان بن ثابت، حتى إن كعب بن الأشراف لما ذهب إلى مكة كان كلما نزل عند أهل بيت هجاهم حسان بقصيدة، فيخرجونه من عندهم، حتى لم يبق بمكة من يؤويه". [2] ولما قتل مُحيَّصة رضي الله عنه ذلك اليهودي فزجره أخوه حويصة، قال مُحيَّصة: "والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لضربتُ عنقك فقال حويصة: والله إن ديناً بلغ منك هذا لعَجَبُ ثم أسلم حويصة" [3].

 

ولعل هذه الرسالة المختصرة تحقق شيئاً من هذا الأصل الكبير عموماً، وتظهر جملة من المسائل المذكورة خصوصاً، وبالله التوفيق. المبحث الأول: أهمية الموضوع: قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله» [4] وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: «من أحق في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان» (سنن أبي داود برقم 4681، سكت عنه وقد قال في رسالته لأهل مكة أن كل ما سكت عنه فهو صالح) إذاً الحب في الله والبغض في الله ليس إيماناً فحسب، بل هو آكد وأوثق عُرى الإيمان، فحري بنا أن نحرص على هذا الأمر. كان صلى الله عليه وسلم يبايع على هذا الأمر العظيم، فقد جاء عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع فقلت: يا رسول الله، أبسط يدك حتى أبايعك، واشترط عليّ فأنت أعلم. فقال: أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتُناصح المسلمين، وتفارق المشركين» [5].

 

هذا هو الشاهد، فهو صلى الله عليه وسلم بايع جرير بن عبد ا?له على أن يناصح المسلمين وهذا هو الحب في الله، ويفارق المشركين وهذا هو البغض في الله، تفارق المشركين بقلبك وقالبك. بقلبك بأن تبغضهم وتعاديهم كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله، وتفارقهم بجسدك كما سيأتي الإشارة إلى الهجرة وهي الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا لم يكن الشخص مستطيعاً أن يظهر دينه في بلاد الكفر وكان قادراً على الهجرة؛ فإذا اجتمع الأمران تعيّن عليه الهجرة والانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام. جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن آيات الإسلام، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أن تقول أسلمت وجهي لله عز وجل وتخليت، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ثم قال: كل مسلم على مسلم حرام أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملاً أو يفارق المشركين إلى المسلمين» [6].

 

فتأمل رحمك الله كيف أنه صلى الله عليه جعل ذلك شرطاً في قبول العمل، ولا شك أن هذا مقتضٍ البغض في الله لأعداء الله عز وجل من الكافرين والمرتدين. قال الشيخ العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليهم: "فهل يتم الدين أو يقام علمُ الجهاد أو علمُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله، والمعاداة في الله والموالاة في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" [7]. 

 

الحب في الله والبغض في الله من مكملات حب الله عز وجل وحب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن حب الله وحب الرسول من أعظم الفرائض والواجبات وآكدها، وفي المقابل فإن بغض رسوله أو بغض شيء مما جاء عن الله أو صحّ عن رسول الله فهو من أنواع الردة والخروج عن الملة.

 

الناظر إلى واقع المسلمين الآن يجد أنهم قد ضيّعوا هذا الأصل، فربما كان الحب من أجل شهوات فيتحابون من أجل المال، ويتباغضون من أجل المال، ويتحابون من أجل القبيلة والعشيرة ويتباغضون من أجلها، فإذا كان الشخص من قبيلتهم أحبوه ولو كان كافراً ولو كان تاركاً للصلاة مثلاً، والشخص يبغضونه إن لم يكن منهم أو من عشيرتهم ولو كان أفضل الناس صلاحاً و تقى، وربما حصل الحب من أجل وطن أو من أجل قومية، وكل ذلك لا يجدي على أهله شيئاً، ولا تنفع هذه الصلاة وتلك المودات؛ فلا يُبتغى بها وجه الله ولا قيمة لها عند الله.

 

وقد أشار إلى هذا ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن فيما معناه: "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك" أي إذا أردت أن تكون ولياً من أولياء الله عليك بهذا الأمر. ثم قال ابن عباس: "ولن تجد أحدٌ طعمَ الإيمان إلا بذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس لأجل الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً " وصدق رضي الله عنه، فهذا في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166]. قال ابن عباس ومجاهد: "المراد بالأسباب هنا: المودات والصلات التي ليست لأجل الله تعالى". لماذا؟ لأن الحب في الله والبغض في الله يراد به وجه الله، والله تعالى هو الباقي سبحانه الدائم، فلهذا ما كان لله يبقى، أما ما لم يكن لله فهو يضمحل، فالشخص الذي يحب آخر من أجل الدنيا هذه الرابطة تنتهي وتفني وتتقطع وتجد أن هؤلاء يتعادون.

 

 يقول شيخ الإسلام ابن تيمية  رحمه الله: "والناس إذا تعاونوا على الإثم والعدوان أبغض بعضهم بعضاً، وإن كانوا فعلوا بتراضيهم". قال طاووس: "ما اجتمع رجلان على غير ذات الله إلاَّ تفرقا عن تقال، إلى أن قال: فالمخالة إذا كانت على غير مصلحة الاثنين كانت عاقبتها عداوة، وإنما تكون على مصلحتها إذا كانت في ذات الله" [8].

 

 وهذا واقع؛ فنجد الذين يجتمعون على شر أو فساد -مثلاً- سرعان ما يتعادون وربما فضح بعضهم الآخر. قال أبو الوفاء بن عقيل (513هـ ) رحمه الله: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة". ثم قال رحمه الله: "عاش ابن الراوندي والمعري عليهم لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً، عاشوا سنين وعُظمت قبورهم واشترت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة الدين في القلب". والآن أيها الإخوة تجدون كثيراً من المجلات والصحف والمؤلفات الساقطة التي تحارب دين الله عز وجل؛ ومع ذلك ترى الكثير من أهل الصلاة قد انكبوا على شرائها أو الاشتراك فيها. نحن في زمان حصل فيه تلبيس وقلب للمفاهيم؛ فتجد بعض الناس إذا تحدث عن الحب في الله والبغض في الله قال: هذا يؤدي إلى نفرة الناس، يؤدي إلى كراهية الناس لدين الله عز وجل.

 

وهذا الفهم مصيبة، فالناس يقون في المداهنة والتنازلات في دين الله عز وجل باسم السماحة، ولا شك أن هذا من التلبيس، فالحب في الله والبغض في الله ينبغي أن يتحقق، وينبغي أن يكون ظاهراً؛ لأن هذا أمر فرضه الله علينا، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله عن مكائد النفس الأمارة بالسوء: "إنَّ النفس الأمارة بالسوء تُرى صاحبها صورة الصدق وجهاد من خرج عن دينه وأمره في قالب الانتصاب لعداوة الخلق وأذاهم وحربهم، وأنه يعرض نفسه للبلاء ما لا يطيق، وأنه يصير غرضاً لسهام الطاعنين وأمثال ذلك من الشبه" [9].

 

فبعض الناس يقول: لو أحببنا هذا الشخص في الله وأبغضنا فلاناً الكافر أو المرتد لأدّى هذا إلى العداوة وإلى أنه يناصبنا العداء. وهذا من مكائد الشيطان، فعلى الإنسان أن يحقق ما أمر الله به وهو سبحانه يتولى عباده بحفظه كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:36] وقال عز وجل: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].

 

 المبحث الثاني: معنى الحب في الله والبغض في الله.. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (قاعدة في المحبة): "أصل الموالاة هي المحبة كما أن أصل المعادة البغض، فإنَّ التحاب يوجب التقارب والاتفاق، والتباغض يوجب التباعد والاختلاف" [10].

 

وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمة الله عليهم: "أصل الموالاة: الحب، وأصل المعاداة: البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلوب والجوارح ما يدخل في حقيقة الموالاة والمعاداة؛ كالنصرة والأنس والمعاونة وكالجهاد والهجرة ونحو ذلك من الأعمال" [11].

 

وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن الحب في الله، فقال: "ألا تُحبه لطمع في ديناه" [12]. فمن خلال أقوال هؤلاء الأئمة ونحوهم يتبيّن لنا أن الحب والبغض أمر قلبي، فالحب محله القلب، والبغض محله القلب، لكن لا بد لهذا العمل القلبي أن يظهر على الجوارح، فلا يأتي شخصٌ يقول: أنا أبغض فلاناً في الله ثم تجد الأنس والانبساط والزيارة والنصرة والتأييد لمن أبغضه في الله! فأين البغض في الله؟ فلا بد أن يظهر على الجوارح، فلو أبغضنا مثلاً أعداء الله من النصارى ومن اليهود فهذا البغض محلهُ القلب لكن يظهر على الجوارح من عدم بدئهم بالسلام -مثلاً- كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام» أو من خلال عدم المشاركة في أعيادهم؛ لأن هذه المشاركة من التعاون على الإثم والعدوان، والله يقول: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثم} [المائدة:2].

 

وكذلك الحب في الله، فإذا أحببنا عباد الله الصالحين وأحببنا الأنبياء والصحابة وغيرهم من أولياء الله تعالى، فهذا الحب في القلب لكن له لوازم وله مقتضيات تظهر على اللسان وعلى الجوارح، فإذا أحببنا أهل الإسلام أفشينا السلام كما قال عليه الصلاة والسلام: «ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم» كذلك النصيحة فعند ما أرى أخاً لي من أهل الإسلام يُقصر في الصلاة كأن يخل بأركانها أو واجباتها فأنصحه فهذا من مقتضى الحب في الله، فإذا عُدم ذلك فهذا يدل على ضعف الإيمان، فلو وجدنا رجلاً يقول: أنا أحب المؤمنين لكنه لا يسلّم عليهم، ولا يزور مريضهم، ولا يتبع جنائزهم، ولا ينصح لهم، ولا يشفق عليهم؛ فهذا الحب لا شك أن فيه دخن ونقص لا بد أن يتداركه العبد. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في فتاويه "إن الله عقد الأخوة والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وملحدين ومارقين وغيرهم من ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم.

وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين. وكل مؤمن موحد تارك لجميع المكفرات الشرعية فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك فإن يجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة، فالولاء والبراء تابع للحب والبغض، والحب والغض هو الأصل، وأصل الإيمان أن تحبّ في الله أنبياءه وأتباعهم، وأن تبغض في الله أعداءه وأعداء رسله" [13].

 

 وقد بيّن أهلُ العلم أن المؤمن تجبُ محبته وإن أساء إليك، والكافر يجب بغضه وعداوته وإن أحسن إليك. فالمسلم وإن قصّر في حقك وظلمك فيبغض على قدر المظلمة؛ لكن يبقى حق الإسلام وحق النصرة وحق الولاية.

 

ماذا يجب علينا تجاه المسلمين من خلطوا عملاً صالحاً وأخر سيئاً، فهم ليسوا من أولياء الله الصالحين، وليسوا من أعداء الله الكافرين؟ الواجب في حقهم أن نحبهم ونواليهم بقدر طاعتهم وصلاحهم، وفي نفس الوقت نبغضهم على قدر معصيتهم وذنبهم. فمثلاً: جارك الذي يشهد الصلوات الخمس عليك أن تحبه لهذا الأمر، لكن لو كان هذا الجار يسمع ما حرم الله من الأغاني مثلاً، أو يتعاطى الربا فعليك أن تبغضه على قدر معصيته، وكلما ازداد الرجل طاعة ازددنا له حبّاً، وكلما زاد معصية ازددنا له بغضاً. وقد يقول قائل: وكيف يجتمع الحب والبغض في شخص واحد؟ كيف أحب الشخص من جانب وأبغضه من جانب؟ أقول: هذا ميسر، فهذا الأب ربما ضرب ابنه وآلمه تأديباً وزجراً، ومع ذلك يبقى الأصل أن الأب يحب ابنه محبة جبلية. فيجتمع الأمران. وكذلك المعلم مع تلاميذه أو الرجل مع زوجته إذا زجرها أو هجرها إذا كان الأمر يقتضي ذلك لكن يبقى الأصل في ذلك محبتها والميل إليها.

 

فإذا كان الشخص يجتمع فيه إيمان مع ارتكاب محرمات أو ترك واجبات  -مما لا ينافي الإيمان بالكلية- فإن إيمانه يقتضي حبّه ونصرته، وعصيانه يقتضي عداوته وبغضه على حسب عصيانه. ومما يبيّن هذا الأمر ما جاء في هدى النبي صلى الله عليه وسلم فقد حقق عليه السلام الأمرين، والدليل ذاك الرجل الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه عبد الله، وكان كثيراً ما يؤتى به فيجلد، فأتي به في أحد المرات فقال أحد الحاضرين: لعنه الله ما أكثر ما يُؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: «لا تلعنه، فإنَّه يحب الله ورسوله» (مجموع الفتاوى لابن تيمية، بسند صحيح برقم 474/4)، فمقتضى العداوة والبغضاء أن أقام عليه الحد فجلده، وفي نفس الوقت أيضاً مقتضى الحب والولاء له أن دافع عنه عليه الصلاة والسلام فقال: «لا تلعنه». معاداة الكافرين: هذه المسألة تغيب في هذا الزمان بسبب جهل الناس وتكالب قوى الكفر على إلغاء الولاء والبراء وإلغاء ما يسمى بالفوارق الدينية. قال الشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ ): "فأما معاداة الكفار والمشركين فاعلم أنَّ الله أوجب ذلك وأكد إيجابه، وحرّم موالاتهم وشدد فيه، حتى أنه ليس في كتاب الله حكم فيه من الأدلة أكثر وأبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده".

 

وقال في موضع آخر: "{وهنا نكتة بديعة في قوله: إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة: من الآية4] وهي أن الله قدم البراءة من المشركين العابدين غير الله، على البراءة من الأوثان المعبودة من دون الله، لأن الأول أهم من الثاني، فإنه قد يتبرأ من الأوثان، ولا يتبرأ ممن عبدها، فلا يكون آتياً بالواجب عليه، وأما إذا تبرأ من المشركين، فإن هذا يستلزم البراءة من معبوداتهم" [14]. فإذا علم هذا تبين خطأ وانحراف كثير من الناس عند ما يقولون: نتبرأ من الكفر ونتبرأ من عقيدة التثليث عند النصارى ونتبرأ من الصليب، لكن عند ما تقول لهم تبرؤوا من النصارى.

 

يقولون: لا نتبرأ منهم ولا نواليهم. لوازم الحب في الله والبغض في الله: أشرنا إلى أن الحب في الله والبغض في الله عملان قلبيان لكن لهذا الحب لوازم مثل: النصح للمسلمين، والإشفاق عليهم، الدعاء لهم، والسلام، وزيارة مريضهم، وتشييع جنائزهم، وتفقد أحوالهم. أما لوازم البغض فمنها: ألا نبتدئهم بالسلام، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وعدم التشبه بهم، وعدم مشاركتهم في الأعياد كما هو مبسوط في موضعه. المبحث الثالث: أحوال السلف الصالح في تحقيق عقيدة الولاء والبراء..

 

يقول أبو الدرداءِ رضي الله عنه: "ما أنصف إخواننا الأغنياء، يحبوننا في الله ويفارقوننا في الدنيا، إذا لقيته قال: أحبكَ يا أبا الدرداء، فإذا احتجت إليه في شيءٍ امتنع مني" [15].  ويقول أيوب السيختياني رحمه الله: "إنَّه ليبلغني عن الرجل من أهل السنة أنَّه مات، فكأنما فقدتُ بعض أعضائي".

 

وكان أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، إذا نظر إلى نصراني أغمض عينيه، فقيل له في ذلك، فقال  رحمه الله: "لا أقدرُ أن أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه" [16]. فانظر -يا رعاك الله- كيف كان تعظيم الله وتوقيره في قلب الإمام أحمد يجعله لا يطيق النظر إلى من افترى على الله وكذب عليه، وأي افتراء أعظم من مقالة النصارى أن لله ولد -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- قال عمر بن الخطاب في شان النصارى: "أهينوهم ولا تظلموهم، فإنهم سبُّوا الله تعالى أعظم المسبة".

 

وهذا بهلول بن راشد رحمه الله من أصحاب مالك بن أنس رحمه الله دفع إلى بعض أصحابه دينارين ليشتري به زيتاً، فذُكر للرجل أن عند نصراني زيتاً أعذب ما يوجد. فانطلق إليه الرجل بالدينارين وأخبر النصراني أنه يريد زيتاً عذباً لبهلول بن راشد، فقال النصراني: نتقرب إلى الله تعالى بخدمة بهلول كما تتقربون أنتم إلى الله بخدمته. وأعطاه بالدينارين من الزيت ما يعطى بأربعة دنانير، ثم أقبل الرجل إلى بهلول وأخبره الخبر، فقال بهلول: قضيت حاجةً فاقض لي الأخرى، رُدَّ علىّ الدينارين فقال: لم؟ قال: تذّكرت قول الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: من الآية22]. فخشيت أن آكل زيت النصراني فأجد له في قلبي مودة فأكون ممن حاد الله ورسوله على عرض من الدنيا يسير [17]. وسئل الإمام أحمد عن جار رافضي؟ فقال: "لا تسلم عليه، وإذا سلم لا يُرد عليه" [18].

 

 وكان ابن رجاءٍ من الحنابلة، يهجرُ من باع لرافضي كفنه، أو غسله، أو حمله [19]. ولما كان العزُّ بن عبد السلام في دمشق، وقعَ فيها غلاءٌ فاحش، حتى صارت البساتينُ تباع بالثمن القليل، فأعطتهُ زوجته ذهباً وقالت: اشرِ لنا بستاناً نصيّف فيه، فأخذ الذهبَ وباعهُ، وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيدي اشتريت لنا؟ قال: نعم بستاناً في الجنة. إنِّي وجدتُ الناس في شدةٍ، فتصدقتُ بثمنه، فقالت المرأة: جزاك الله خيراً [20].

 

 وهذا محمد بن عبدوس المالكي، من علماءِ المالكية، كان في غايةِ النصحِ والإشفاقِ على المسلمين، ففي أحدَ المرات ذهبَ إلى أحدِ أصحابه وعليه جُبَّةَ صوف، وكانت ليلةً شاتيةً، فقال له: ما نمتُ الليلةَ غمّاً لفقراءِ أمة محمد، ثم قال: هذه مائةُ دينار ذهبا،ً غلةُ ضيعتي هذا العام، أحذر أن تُمسي وعندك منها شيء وانصرف. دخل أبو الوليد الطرطوشي رحمه الله على الخليفة في مصر، فوجدَ عنده وزيراً راهباً نصرانياً، قد سلّم إليه القيادة، وكان يأخذُ برأيهِ، فقال الطرطوشي:  يا أيها الملك الذي جودهُ يطلبهُ القاصدُ والراغب إنَّ الذي شرفت من أجله يزعمُ هذا أنَّه كاذب [21] فعندئذٍ اشتد غضبُ الخليفة، فأمرَ بالراهبِ فسُحبَ وضُرب، وأقبل على الشيخِ فأكرمهُ وعظَّمهُ بعد ما كان قد عزم على إيذائه. يقول القرافي معلقاً على هذه القصة: "لما استحضر الخليفةُ تكذيب الراهبِ للرسول صلى الله عليه وسلم وهو سببُ شرفه، وشرفَ آبائهِ وأهل الأرض، بعثهُ ذلك عن البعدِ عن السكونِ إليه والمودة، وأبعدهُ عن منازلِ العزِّ إلى ما يليقُ به من الذلِ والصغار [22].

 

المبحث الرابع: تنبيهات.. علينا أن نفرق بين بغض الكفار ومعاداتهم، وبين البرِ والاقساط، فبعض الناس يخلطُ بين الأمرين، فيجعل البرَ والعدل مع الكفار محبةً لهم، وعكسَ بعضُ الناس المسألة، فربما ظلمَ الكافر باسم العداوة له.

 

 فالمتعين أن نبغض الكفار؛ لأنَّ الله أمرنا أن نبغضهم، ولكن لا نظلمهم، فقد قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]. وقال تعالى في الحديث القدسي: «يا عبادي، إنِّي حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا...». (صحيح مسلم برقم 2577).

 

 يقولُ القرافي في كتابه (الفروق) لما فرقَ بين مسألةِ بُغضهم، ومراعاةُ البرِ والإقساط قال: "وسرُّ الفرق أنَّ عقد الذمة يوجبُ حقوقاً علينا لهم؛ لأنَّهم في جوارنا، فيتعين علينا برُّهم في كل أمرٍ لا يكونُ ظاهرهُ يدل على مودةٍ في القلب، ولا تعظيمِ شعائرِ الكفر، فمتى أدَّى إلى أحد هذينِ، امتنع وصار من قبل ما نهى عنه في الآية" [23].

 

 بعض الناس يقول: نحن إذا بغضنا النصارى وعاديناهم  -مثلاً- هذا يُؤدي إلى نفرتهم عن الإسلام وبغضهم له. وليس الأمرُ كذلك، فإنَّ الله تعالى أرحمُ الراحمين، وهو سُبحانه وتعالى أحكمُ الحاكمين، حيثُ شرعَ بُغض الكفارِ وعداوتهم، فلا يتوهم أن تحقيق شعيرةِ البراءةِ من الكافرين يؤولُ إلى النفرة عن الإسلام، بل إنَّ الالتزامَ بهذه الشعيرة -وسائر شعائرِ الإسلام- سببٌ في ظهورِ الإسلام وقبوله، كما وقعَ في القرون المفضلة، جاء في سيرةِ ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ظفر به من رجال يهود فاقتلوه» فوثب مُحيصةَ بن مسعودِ على ابن سُنَينَة، رجلٌ من تجارِ اليهود يبايعهم، فقلتهُ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم، وكان أسنّ من محيصة، فلما قتلهُ جعل حويصةُ يضربهُ ويقول: أي عدوَّ الله أقتلته؟ أما والله لربَّ شحمٍ في بطنك من ماله، قال محيصة: فقلتُ له: واللهِ لقد أمرني بقتلهِ من لو أمرني بقتلكَ لضربتُ عُنُقك، قال: فو الله إن كان لأوّل إسلام حويصة، قال: آلله لو أمرك محمد بقتلي لقتلتني؟ قال نعم، والله لو أمرني بضربِ عنقك لضربتها، قال: والله إنَّ ديناً بلغَ بك هذا لَعجَبٌ، فأسلم حويصة" [24].

 

وها نحنُ نرى الكثير من المسلمين في هذا العصر وقد ارتموا في أحضانِ الكفار، وأحبُّوهم وداهنوهم، ولم يكن ذلك سبباً في إسلامهم، بل امتهن الكفارُ أولئك القوم، وزادوا عتوّاً ونفوراً عن الإسلام وأهله. وأمرٌ آخر: أنَّ تحقيق هذا الأصلِ سببٌ في إسلامهم، كما كان اليهودُ والنصارى يدفعون الجزية للمسلمين عن صغارٍ وذلة، فكان هذا سبباً في أن ينظروا إلى الإسلام، ويسلموا من أجلِ أن تسقط عنهم الجزية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مثل الآصارِ والأغلالِ التي على أهلِ الكتاب، وإذلالَ المسلمين لهم، وأخذ الجزية منهم، فهذه قد تكونُ داعياً له إلى أن ينظرَ في اعتقادهِ، هل هو حقٌّ أو باطل، حتى يتبينَ له الحق، قد يكونُ مُرغباً له في اعتقادٍ يخرج به من هذا البلاء، وكذلك قهرَ المسلمين عدوهم بالأسرِ، يدعوهم للنظرِ في محاسن الإسلام" [25].

 

والبعضُ يقول: إنَّ الكفار تغيّروا، فليسوا كالكفار الأوائل، نقولُ: هذا غير صحيح، فالكفارُ هم الكفار، وهم أعداؤنا في القديم والحديث، والله تعالى ذكر في ذلك حكماً عاماً فقال: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً }[التوبة: من الآية10] وقال عز وجل: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة: من الآية8].

 

والبعضُ يحبُ في الله، ويبغضُ في الله، لكن تكونُ هناك شائبة، فعند ما يتفقدُ نفسهُ يجدها تحبُّ لأجل دنيا أو تبغض لأجل دنيا. مثال: رجلٌ يقول: أنا أبغضُ فلاناً النصراني في الله، لكن عند ما تبحث في أصلِ البغض تجدهُ يبغضهُ لأجل حظٍ أو أثرةٍ.

 

فينبغي أن يمحصَ الحبُّ في الله والبغضُ في الله، بأن يكون خالصاً لله وحده. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من أحبَّ إنساناً لكونهِ يعطيهِ فما أحب إلاَّ العطاء، ومن قال إنَّهُ يحبُ من يعطيهِ لله فهذا كذبٌ ومحالٌ وزورٌ من القول، وكذلك من أحبَّ إنساناً لكونه ينصرهُ إنما أحب النصر لا الناصر، وهذا كله من اتباع ما تهوى الأنفس، فإنَّه لم يحب في الحقيقة إلاَّ ما يصلُ إليه من جلب منفعةٍ أو دفع مضرةٍ، فهو إنما أحبَّ تلك المنفعة ودفع المضرة، وليس هذا حباً لله ولا لذاته المحبوب، وعلى هذا تجري عامةُ محبة الخلقِ بعضهم مع بعض، لا يُثابون عليه في الآخرة ولا ينفعهم، بل رُبما أدَّى هذا للنفاقِ والمداهنةِ، فكانوا في الآخرة من الأخلاءِ الذين بعضهم لبعض عدو إلاَّ المتقين. وإنما ينفعهم في الآخرة الحبُّ في الله ولله وحده. وأمَّا من يرجو النفعَ والضر من شخصٍ ثُمَّ يزعمُ أنَّهُ يحبهُ لله، فهذا من دسائسِ النفوسِ ونفاقِ الأقوال" [26].

 

المبحث الخامس: التحذير من مشاركة الكافرين في أعيادهم.. إن الكثيرين من المسلمين الذين ابتلوا بمخالطة الكفار سواء في بلاد الكفر أو في أعمال ربما شاركوا الكفار في أعيادهم البدعية، إما في حفلاتهم أو في التهنئة، وهذا أمر خطير جداً، فمشاركة الكفار في أعيادهم لا شك في تحريمها على أقل الأحوال وربما أفضت إلى الكفر بالله عز وجل. وقد تحدث أهل العلم عن ذلك وحذروا وأنذروا. قال تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: من الآية72] والزور كما قال بعض المفسرين هو: أعياد المشركين. والرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم إلى المدينة وجد أنهم يلعبون، فسأل عن ذلك فقالوا هذا يومان كنا نلعب في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم: «قد أبدلكم الله خيراً من ذلك عيد الفطر وعيد الأضحى» [27].

 

وكذلك ما جاء في الشروط العمرية التي اشترطها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة وهو ألا يظهروا أعيادهم؛ لأن الأعياد من جملة العبادات، فكما لا يجوز أن يظهروا صليبهم ونحو ذلك أيضاً لا يجوز أن يظهروا أعيادهم. ولهذا تجد أهل العلم في غاية التحذير من هذا الأمر حتى إن بعض علماء الأحناف قال: "من أهدى لمجوسي بيضة في يوم النيروز فقد كفر". يقول ابن القيم رحمه الله (في أحكام أهل الذمة): "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق؛ مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب بل ذلك أعظم إثماً عند الله وأشد مقتاً من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس ونحوها. وكثير مما لا قدر للدين عندهم يقع في ذلك ولا يدري قبل ما فعل. فمن هنأ عبداً بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه" [28].

 

 المبحث السادس: آثار وثمار الحب في الله والبغض في الله.. تحقيق أوثق عرى الإيمان كما قال صلى الله عليه وسلم: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».  تذوق حلاوة الإيمان كما جاء في حديث أنس مرفوعاً: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان وذكر منها صلى الله عليه وسلم أن يحب المرء لا يحبه إلا لله» [29].

 

أن من حقق هذا الأصل يرجى أن ينال الوعد الكريم في الحديث: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر صلى الله عليه وسلم: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه» (صحيح مسلم). نيل ولاية الله، فالعبد لا يكون وليا لله إلا إذا حقق ذلك كما مرّ معنا في قول ابن عباس: "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك".

 

وقال الله تعالى في الحديث القدسي: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» (صحيح البخاري). السلامة من الفتنة والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] قال ابن كثير في تفسيره: "أي تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس، وهو التباس واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع في الناس فساد كبير منتشر عريض طويل" [30].

 

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله عز وجل، فيكون حبه لله ولما يحبه لله وبغضه لله ولما يبغضه لله، وكذلك موالاته ومعاداته" [31]، وحصول النعم والخيرات والرخاء، والدليل قوله تعالى عن الخليل عليه السلام: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً. وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} [مريم:49-50].

 

 فهذه النعم العديدة ما تحققت لإبراهيم عليه السلام إلا بعد ما حقق هذا الأصل، فهذا ظاهر أن اعتزال الكفار سبب لهذه النعم كلها ولهذا الثناء الجميل [32]. خاتمة: وفي ختام هذا الموضوع أؤكد على ضرورة العناية بهذا الأصل علماً وعملاً والتواصي بتحقيقه وتربية الأمة على ذلك، وأن يجتهد في ببان لوازم الحب في الله بين المسلمين ومظاهره، وتطبيق تلك اللوازم في حياة المسلمين مثل: تعليم الجاهل، وتنبيه الغافل، وإحياء التكافل بين أهل الإسلام، والتعاون على البر والتقوى، ونصرة المسلمين وتفريج كُربهم، والأخذ على أيدي سفائهم، كما يجب الحذر من موالاة الكفار بشتى صورها ومظاهرها، مثل نصرة الكفار وتأييدهم أو محبتهم، أو الركون إليهم، أو تقريبهم، أو التعويل عليهم أو إكرامهم أو اتباع أهوائهم.

 

 إن عقيدة الولاء والبراء هي أكبر ضمان في حفظ الأمة من الذوبان والانجراف في تيار الأمم الكافرة، لا سيما في هذا الزمان الذي صار العالم قرية واحدة، فظهرت أنواع المؤثرات والاتصالات كالفضائيات وشبكات (الإنترنت) ونحوها، فإن عقيدة الولاء والبراء أعظم حاجز في درء الفتن والسلامة من فتن التغريب والتنصير وسائر الشبهات والشهوات، ألا ترى أصحاب هذه العقيدة الراسخة -أعني الولاء والبراء- أنهم أعظم الناس استعلاء بإيمانهم، وأظهر النفوس عزة كما هو ظاهر في سير الأنبياء عليهم السلام والصحابة رضي الله عنهم والأئمة من بعدهم.

 

إن أصحاب هذه العقيدة لا يرد عليهم بأي حال من الأحوال الانبهار بالكفار أو التشبه بهم أو الإعجاب بأخلاقهم وأفكارهم، فأنى للأعلى أن يتشبه بالأدنى! فأما الذين خلت قلوبهم من هذا الولاء والبراء فهم أصحاب أهواء متبعة وشهوات مستبعدة، فتراهم ينظرون إلى الكفار بكل استحسان وإكبار كما ينظر الطفل الصغير إلى أبيه، ألا ترى أولئك الشباب الذين أشربوا حب الكرة وغفلوا عن شعيرة الولاء والبراء أنهم من أجل الكرة يحبون ويوالون، ومن أجلها يبغضون ويعادون، فهذا لاعب أو مدرب لفريقهم فهم يحبونه حبّاً جمّاً، وربما حملوه على أعناقهم، وتنافسوا في التودد له وإكرامه والاحتفاء به، وذاك الآخر ليس من فريقهم فربما أبغضوه وكرهوه أشد من اليهود والنصارى! تأمل حال هؤلاء المنهزمين وانظر حال السلف الصالح الذين كانوا يُعلّمون أولادهم حبّ الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وتأمل حال أبناء السلف الصالح الذين كانوا يرمون جنازة بشر المرسي المبتدع بالحجارة [33].

 

نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، والله المستعان.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات