الجيل الفريد (1) كيف ربى النبي عليه السلام أصحابه؟

د. منصور الصقعوب

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ فضائل الصحابة الكرام 2/ عظمة التربية النبوية 3/ كيف ربي النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه 4/ أعظم المعالم التربوية في المدرسة النبوية 5/ أهمية مراقبة الله تعالى 6/ الزهد في الدنيا وعدم التعلق بها 7/ أهمية سلامة الصدور ووحدة الأمة.

اقتباس

أيها المربي وأيها الأب: وأنت تواجه تياراً جارفاً من المغيرات, وشبابنا يشهدون انفتاحاً كبيرا وتيسيراً لأبواب الشر أكثر من ذي قبل, وأصبح المنع والحجب قليلَ الفائدة في زمن الانفتاح, وهنا فكم هو مهم أن تغرس في قلوبهم رقابة الله, فعلقه بالله وامض بعد ذلك لما شئت، فإذا وَعَتِ القلوبُ الرقابة الإلهية فإن ذلك سيردعها عن كثير من الشر وسيحملها على كثير من الخير.

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده..

 

 أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فالتقوى وبطاعة المولى تُنال الجنات وتُحاز السعادة ويرضى رب البريات.

 

أيها المسلمون: إن العظماء هم الذي يستحقون كلمات الثناء أن تُكال في مديحهم والأسطر أن تُسطر في مآثرهم وأخبارهم.

 

كيف لا وهم من كان لهم بإرادة الله تغيير وجه التاريخ.

وحينما يذكر العظماء يتفق الجميع على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو مقدمهم وقائدهم.

 

ولا عجب: فمن رأى الناس قبل دعوته, وعرف الجاهلية قبل بعثته, ثم المسلمين بعد دعوته وشرعته, لرأى أمراً عظيماً, وتغيراً لا يقدر عليه بعد توفيق الله إلا العظماء.

 

ففي الجاهلية كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-; بل الجزيرة كلها هم أسوأ الناس حالاً وديانة ومأكلا, لا تأبه لهم الأمم, ويأكل القوي منهم الضعيف, يتناحرون ويغزو بعضهم بعضاً, وحين أتى الله بالإسلام, ذلك الدين العظيم, ودخل الناس فيه أفواجاً, تخرجوا بعد ذلك من مدرسة محمد -صلى الله عليه وسلم-, فماذا أخرجت لنا تلك المدرسة؟

 

لقد خرَّجت لنا جيلاً فريداً جيلاً فتح الدنيا بالإيمان, جيلاً مات قائدة فما تأثر ولا نكص, جيلاً نال القمة في جميع ضروب العز والسؤدد, إنه جيل الصحابة, أولئك القوم الذي هم خير القرون, ولذا استحقوا أن يختارهم الله لصحبة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، فرضي عنهم وأرضاهم, وجمعنا بهم في جنته، ودحر شانئهم ومبغضهم.

 

يا ترى كيف ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه حتى تحول ذلك الجيل العتاة الجفاة, الذين وأد بعضهم البنات, وعبدوا هبلاً واللات, كيف تحولوا إلى مصابيح دجى ومشاعل هدى للناس؟!

 

إننا اليوم والأمة تواجه انفتاحاً كبيراً, والمربون يعانون من كثرة الصوارف, وتنوع المتغيرات, بحاجة أشد من أي وقت مضى إلى العود إلى معين السيرة, لننظر كيف ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه, فتخرج لنا خلال سُنيات يسيرات جيلاً بلغ القمة في أخلاقه, وفي جهده, وتضحيته, وفي تمسكه بدينه, بل وفي كل أموره, فدعونا نتلمس بعض معالم تربيته ; لذلك الجيل, علّنا أن نُفيد منها, ونطبقها.

 

عباد الله: إن من أعظم المبادئ والمعالم التي غرسها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نفوس أصحابه هو مبدأ المراقبة لله، اللهُ الذي يراه في كل مكان، وعلى كل حال, الذي رقابته تامة كاملة ورقابة الخلق قاصرة.

 

إن المرء إذا انغرس في ذهنه أن الله مطلع عليه وشاهد ويحيط به ولأعماله مشاهد, سيحسب الحساب لكل عمل وسيعدّ جواباً صواباً يقدمه للخالق الذي يراه وهكذا كان الصحابة.

 

يوم أن وقع لكعب بن مالك ما وقع, وأمر النبيُ -صلى الله عليه وسلم- الصحابة بهجره وعدم تكليمه, ودام ذلك خمسين يوماً, أتى كعبٌ يوماً إلى بستان أعز أصحابه وابن عمه أبي قتادة فتسور الحائط, فحادثه فلم يرد عليه, حتى قال يا أبا قتادة: "نشدتك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله"؟ قال: الله أعلم.

 

لقد كان في مقدور أبي قتادة أن يتكلم، وأن يحادث صاحبه ويسليه, كان في مقدوره أن يقول له: اصبر وتحمل؛ فالشدة تزول, وهكذا, فمن ذا الذي يراه حينها, لكنها مراقبة الله ويقينه أن الله يراه, فعَبَد الله حينها كأنه يراه.

 

أيها المربي وأيها الأب: وأنت تواجه تياراً جارفاً من المغيرات, وشبابنا يشهدون انفتاحاً كبيرا وتيسيراً لأبواب الشر أكثر من ذي قبل, وأصبح المنع والحجب قليلَ الفائدة في زمن الانفتاح, وهنا فكم هو مهم أن تغرس في قلوبهم رقابة الله, فعلقه بالله وامض بعد ذلك لما شئت، فإذا وَعَتِ القلوبُ الرقابة الإلهية فإن ذلك سيردعها عن كثير من الشر وسيحملها على كثير من الخير.

 

أيها المسلمون: ومعلمٌ ثان من معالم تربية النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه, إنه تربيتهم على عدم الاغترار بمظاهر الدنيا وتعليقهم بالباقية وهي الجنة.

 

لقد كان كثيراً ما يذم لهم الدنيا قولاً وتطبيقاً, يمر مع أصحابه فيأتي على جدي أسكَ ميتٍ, فيقف عنده ليقول لوجوه القوم من أصحابه: "أيكم يجب أن يكون له هذا بدرهم" فكلهم قال لا, فقال: "أتحبون أنه لكم؟" فقالوا: لو كان حياً كان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم"، ولسان الحال: ما الدنيا بشهواتها, ونعيمها وبهارجها وزخارفها إلا أحقر على الله من هذا الجدي.

 

إن امرأ عرف حقارة الدنيا, وأنها لا تساوي جديا أسك، ولا تعدل جناح بعوضة فلن يعلق قلبه بشهواتها, بل سيرتبط القلبُ بالدار الكاملة والجنة الباقية ولأجلها سيعمل, وفي سيبل نيلها سيقدِّم.

 

ومن عرف وصف بيوت النبي -صلى الله عليه وسلم- وما حوته تلك البيوت من أثاث وطعام عرف النموذج الذي تربى عليه الصحابة.

 

يدخل ربعي بن عامر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى رستم قائد الجيوش الفارسية، وقد زُين مجلسه بالنمارق والزرابي الحرير، وجُمِّل إيوانه باللآلئ واليواقيت، فيدخل ربعي بثياب صفيقة ثم يربط فرسه ببعض تلك الكراسي، ثم يقبل على رستم يتوكأ على رمحه فوق النمارق المفروشة فيخرّق عامتها, غير مكترث بالسيوف اللامعة فوق رأسه.

 

إن ربعي بن عامر لم يكن همجياً في تصرُّفه أو مستهتراً في سلوكه, لكنه أراد أن يلقن أولئك درساً عملياً؛ بأن تلك الزينة وذلك المتاع زائلٌ لا محالة، وأنه لا قيمة لذلك العرض حين يغيب الإيمان ويُجحَد حق الله وأنه لا قيمة لتلك القصور واللآلئ والفرش والدور يوم يُزح بأصحابها في نار جهنم؛ لأنهم كفروا بالله.

 

أيها المسلمون: ومن تأمل سيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه يتجلى له بوضوح أن من معالم تربيته لهم, ربطه لهم بالجنة دائماً, وتذكيرهم بها, وإذا ما رأى نعيماً من الدنيا ذكّرهم أن نعيم الجنة أعلى, وإذا مر بهم شدة في الدنيا ذكّرهم أن ما في الجنة من نعيم سينسي هده المآسي والشدائد.

 

واعتبر بقوله -صلى الله عليه وسلم- لهم وقد عجبوا من لين الحرير "لمناديل سعد بن معاد في الجنة ألين من هذا وأطيب"، وغير ذلك من الشواهد.

 

ولذا: فلا عجب أن يبدوا منهم من البطولات ما يصير حديث الركبان بعد ذلك, يقوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر حاثاً أصحابه على الأقدام والجهاد فيقول: "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض"، قل لي بربك: ما ذا يريد العبد من الدنيا إلا أن يُوفَّق للجنة, وكيف صبره والجنة ليس بينه وبينها إلا خطوات, وكيف الحال وهو يسمع هذا من رسول الله؟

 

وهنا يتجلى شيء من ثمار التربية النبوية وتبرز صفحة من صفحات الإقدام من أقوام عرفوا قدر الجنة، فأنى يفرطوا فيها وهي الآن بين أيديهم, فيقوم عمير بن الحمام فيقول: بخٍ يا رسول الله, فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ما حملك على هذا؟" فقال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، فقال: "فأنت من أهلها", أنت من أهلها, كيف ترى عميراً سيصبر إذن, وماذا يريد من الدنيا والجنة تنتظره؟!

 

 فأخرج عميرٌ تمرات من قرنه فجعل يأكلها ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذا إنها لحياة طويلة, فرمى بالتمرات وقاتل حتى قتل؛ فما أعجب أمرهم إنهم يستهينون بالموت ويستثقلون وطأة الحياة, حين يكون الثمن الجنة لذا وجدتهم حماة للدين, صبراً في اللقاء صدقاً عند مقارعة الأعداء.

 

فكم نحتاج اليوم لأن نرسخ في نفوسنا والجيل حب الجنة, وأنها طلبتنا وغايتنا, فإذا ما اشتدت علينا الدنيا, ورأينا البؤس ذكّرنا نفوسنا بالجنة فهانت, وإذا ما تكاسلنا عن الخير والطاعة, وزين لنا الشيطان المحرم ذكرنا النفس بالنعيم الأخروي فنشطت, علّق الأبناء بجزاء الجنة, لا بجزاءات الدنيا, وبهذا نعمر دنيانا بالخير ونعد لآخرتنا العدة, وننال الجنة بفضل رب العزة، اللهم صل على محمد..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...

 

عباد الله: ومعلم كان رسول الله يرعاه في نفوس أصحابه ويسعى لغرسه في قلوبهم, إنه مبدأ سلامة القلوب وتصافي الصدور.

 

إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدرك أنه لا يمكن لأمةٍ أن تنتصر وقلوب أتباعها متناحرة, ولا يمكن لدعوة أن تستمر، ولا لدولة أن تستقر وقلوب أصحابها متخالفة.

 

ولذا فيوم أن بدأ دعوته في المدينة كانت أول لبنة في بناء المجتمع لبنة المؤاخاة بين أصحابة, حتى ربط بينهم, فأصبح القرشي أخا الأنصاري, والأوسي أخا الدوسي, وما ذاك إلا بالدين الذي ألف بينهم, وإذا بالقوم الذين قامت بينهم بالأمس حروبٌ عشرات السنوات هم اليوم أخوةٌ متآلفون وفي الله متحابين.

 

والحق أن هذا الأمر من آكد وأروع معالم تربيه النبي -صلى الله عليه وسلم- للجيل, وما أحوج الأمة اليوم إلى ارتسامه, في وقتٍ الخلافات تلقي بظلالها بين البعض حتى في بعض صفوف أهل الخير, والتفرق يضرب بأطنابه بين جملة من الناس, وما يزال الشيطان يسعى بين الناس حتى يوجد بينهم من الفروقات ما يكون سبباً لتفرقهم وفشلهم, والرابح من ذلك عدوهم..

 

 تعصب للون, وللدولة, وللقبيلة, ولغير ذلك من توافه لا ترى يعتني بها إلا من ليس له مجد وعمل, وإلا فما الفارق بين ابن هذا البلد وبين غيره, وما الفارق بين ابن هذه القبيلة وابن تلك, لكنه التعصب الذي يذكيه قوم لم يجدوا ما يتعزون به إلا هذا؟!

 

 إن رسول الله جعل الأنصاري مساوياً للقرشي, وجعل أبناء البلد مساوين لمن وفدوا عليها كسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وغيرهم, بل ربما قدمهم لأن المعيار عنده لم يكن دنيوياً أبداً, وماذا يغني لون حسن, وجنسية معينة, ونسب عريق, والفعال أجنبية عن الحكمة, والأخلاق أجنبية عن الرجولة.

 

كن ابن من شئت واكتسب أدباً *** يغنيك محموده عن النسب

إن الفتى من يقول ها أنذا  *** ليس الفتى من يقول كان أبي

 

فما أحوجنا يا كرامُ إلى أن نسعى لجمع القلوب قبل جمع الأبدان, ما أحوجنا إلى أن نسلم صدورنا لإخواننا, إلى أن يكون رائدنا في التعامل معهم إحسان الظن وسلامة الصدر وحب الخير للغير وحسن الخلق وطيب المعشر والنصح لكل مسلم.

 

وما أحوجنا إلى أن تكون قلوب المسلمين تهتم لإخوانهم أينما كانوا, بغض النظر عن بلد وعن حدّ, فالمسلم يهتم للمسلم, ويحزنه مصاب المسلم أينما كان,.

 

ونحن اليوم بحمد الله نعيش رغداً ونِعماً, لكن في قلوبنا حسرة على مجاعة تمر بإخواننا في فلوجة العراق, مات من جرائها أقوام, وفي قلوبنا حسرة على تشرد وحرب طال بإخواننا في الشام, وعلى شدة في اليمن, وعلى احتلال لأرض فلسطين والأقصى, كل هذا لا يغيب عن بال المسلم, لأنهم إخوته, وأخوة الدين آكد من كل أخوة, وهو إذا عجز عن مد عونٍ مباشر لا يعجز عن دعوة مرفوعة وشعور صادق, وهم محترق, عسى الله أن يكشف ما حل بالمسلمين في كل مكان وأن يجعلنا من أنصار هذا الدين وأن يجمع كلمة المسلمين ويدحر أعداء الدين

 

عباد الله: ومعالم تربية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- للجيل الفريد لم تنته بعد, فنكملها في الخطبة القادمة بإذن الله, والله نسأل أن يجمعنا بنبينا وبصحبه في الفردوس الأعلى من الجنة...

 

اللهم صل على محمد...

 

 

المرفقات

الفريد (1) كيف ربى النبي عليه السلام أصحابه؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات