عناصر الخطبة
1/ حقيقة الموت 2/ ما يفيد بعد الموت 3/ توصية الميت باتباع السنة في نعيه وجنازته 4/ بعض أحكام الجنائز 5/ بِدع القبوراقتباس
ويستحب للمسلمين أن يبادروا إلى قضاء دينه من ماله ولو فني ماله واستغرقه الدين، فإن لم يكن له مالٌ استُحب للمسلمين أن يطَّوعوا بذلك، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: مات رجل فغسِّلْناه وكفَّناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله حيث توضع الجنائز، ثم آذناه بالصلاة عليه، فجاء معنا ثم قال: "لعل على صاحبكم ديناً؟" قالوا: نعم، ديناران. فتخلف ثم قال: "صلوا على صاحبكم" ..
أما بعد:
أيها الناس: فإن الحقيقة التي يعرفها كلُّ عالم وكلُّ جاهل، كلُّ كبير وكل صغير، كلُّ مؤمن وكل كافر، أن كل حيٍّ -خلا اللهَ- فمصيره إلى الممات، وكل موجود إلى العدم، وكل بناء إلى الخراب، وكل مخلوق إلى التراب.
وُلِدُوا للمَوتِ وابْنُوا للخرابِ *** فَكُلُّكُمُ يصيرُ إلى ترابِ
نُحْ على نفسِكَ يا *** مسكينُ إِنْ كُنْتَ تنوحُ
لَتَمُوتَنَّ وإنْ *** عُمِّرْتَ ما عُمِّر نوحُ
كُلُّ ابنِ أُنْثى وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ *** يوماً على آلَةٍ حدْباءَ محمولُ
وقول الله أعلى وأجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185].
وهذه الحقيقة الرهيبة التي لا ينكرها عاقل هي التي أقلقت قلوب أهل القلوب، فما زالت عيونهم تتراءاها كل وقت وحين، عند كل خطرة، وقبل أي خطوة؛ حتى صار أحدهم يفْرَق من ضياع لحظة في غير طاعة، بل قد قال نبيهم -صلى الله عليه وسلم- لأحد أصحابه: "صَلِّ صلاةَ مُودِّع".
ومن جوامع وصاياه -صلى الله عليه وسلم- قوله لأصحابه: "أَكْثِروا من ذكر هادم اللَّذَات"، وفي هذا ما يكفي السامع، ويشغل الناظر؛ ولكن نفوسنا الراكدة، وقلوبنا الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوُعَّاظ، وتزويق الألفاظ، فإلى الله المشْتَكى، وهو وحده سبحانه المستعان.
أيها المسلمون: إذا مات ابن آدم انقطع عمله، وتوقَّف سعيه، إلا إن كان بث علماً، أو أجرى صدقة، أو خلف ولداً صالحاً؛ أما مدح الناس وثناؤهم وبكاؤهم فليس بمغنٍ عنه شيئاً، وسواء مُدح بالحق أو بالميْن والكذب، فالعبرة بما قَدَّم لا بما قُوِّم، وما الله بغافل عما تعملون.
غير أنه ينبغي على الإنسان أن يوصي بأن يُجهز ويدفن على السنة، فإن أوصاهم ببدعة أو أمرهم بمعصية فعملوها بعد موته جرى عليه الإثم جزاء وفاقاً.
قال النووي -رحمه الله-: ويستحب له استحباباً مؤكداً أن يوصيهم باجتناب ما جرت العادة به من البدع في الجنائز، ويؤكد العهد بذلك.
فإذا حضره الموت استُحب لمن حوله أن يلقنوه الشهادة، ففي الحديث الصحيح: "لقِّنوا موتاكم لا إله إلا الله، مَن كان آخر كلامه لا إله إلا الله عند الموت دخل الجنة يوماً من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه".
فأما قراءة سورة (يس) عنده فليست بسنة ولم يرد في ذلك حديث يصح عنه -صلى الله عليه وسلم-.
فإذا قضى وأسلم الروح فليغمضوا عينيه، وليدعوا له بالمغفرة والرحمة ورفع الدرجات، وأن يفسح الله له في قبره، وأن ينوره عليه، وما شاء الله من الدعاء، ثم يغطى بثوب أو غطاء، ثم يجهّز على عجل، فقد ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالإسراع بالجنازة.
ويستحب للمسلمين أن يبادروا إلى قضاء دينه من ماله ولو فني ماله واستغرقه الدين، فإن لم يكن له مالٌ استُحب للمسلمين أن يطَّوعوا بذلك، فعن جابر -رضي الله عنه- قال: مات رجل فغسِّلْناه وكفَّناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله حيث توضع الجنائز، ثم آذناه بالصلاة عليه، فجاء معنا ثم قال: "لعل على صاحبكم ديناً؟" قالوا: نعم، ديناران. فتخلف ثم قال: "صلوا على صاحبكم". فقال أبو قتادة: يا رسول الله! هما عليَّ، فجعل -صلى الله عليه وسلم- يقول: "هما عليك وفي مالك؟ والميت منهما بريء؟" فقال: نعم. فصلَّى عليه.
ثم إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقي أبا قتادة من الغد فقال: "ما صنعت الدنياران؟" قال: يا رسول الله، إنما مات أمس! حتى إذا لقيه مرة أخرى فسأله، قال أبو قتادة: قد قضيتهما يا رسول الله. فقال -صلى الله عليه وسلم-: "الآن برَّدتَ عليه جلده".
وفي حادثة أخرى قريبة من هذه قال -صلى الله عليه وسلم- لأولياء الميت: "إنه مأسور بدَيْنه عن الجنة، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله" حديثان صحيحان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ويجوز كشف وجه الميت، وتقبيله، والبكاء عليه؛ غير أن الحزن والبكاء يجب ألا يتجاوزا إلى النياحة، ولطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية.
وأخرج الشيخان عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مع بعض أصحابه على أبي سيف ظئر إبراهيم بن محمد، فأخذ رسول الله ولده الصغيرَ إبراهيمَ وأدركته عاطفة الأبوة، وحمل الصبيّ وقبَّله وشمّه، ثم دخل عليه أخرى فإذا هو في آخر لحظاته، وإذا بالصبي ينازع الموت، فأخذه أبوه -صلى الله عليه وسلم-، ونظر إليه، واشتدت رحمته له وهو الرحيم، فبكى وجعلت عيناه تذرفان.
فقال بعض القوم: تبكي يا رسول الله؟ فقال: "إنها رحمة" ثم أتبع الدمعة بدمعة أخرى ثم قال: "إن العين تدمع، وإن القلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وينبغي على المسلم عند المصائب أن يصبر ويحتسب، وليعلم أن فضل الله عظيم أعده للصابرين، وفي سنن النسائي مرفوعاً: "إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر واحتسب بثواب دون الجنة". كما ينبغي الاسترجاع وأن يقول: "اللهم اأْجُرْنِي في مصيبتي واخلفني خيراً منها".
ويجب أن ينتدب بعض المسلمين إلى غسله، وينبغي عليهم أن يتفقهوا في ذلك، وأن يتعلموا الطريقة الشرعية للغسل، فإن لم يعلموا سألوا أهل العلم، فإنما شفاء العي السؤال. ثم يكفن وجوباً، وينبغي تحري السنة في ذلك أيضاً.
ثم تحمل الجنازة، ويستحب للمسلم أن يتبعها، فمن فعل ذلك رجي له الأجر العظيم، ولا يجوز تتبع الجنائز بما يخالف الشريعة، كاتباع الميت بصوت، أو نار، أو رفع الصوت بالذكر والترحم على الميت، أو قولهم: وحدوه. أو التسبيح والتهليل ونحوها.
وأقبح من ذلك تشييع الجنازة بالعزف على الآلات الموسيقية، وفي ذلك التشبه بالكفار، بل هو محرم بذاته.
كما يحرم وضع الزهور على الجنازة، وعلى القبر، لما فيه من تشبه بالكفار، ومجافاة للسنة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
ثم يُصلي عليه جماعة، وكلما كان الجمع أكثر كان أفضل للميت وأنفع له، وينبغي للمسلم أن يتعلم كيفية صلاة الجنازة، وأن يحفظ الأدعية المأثورة في ذلك.
ثم يشرع المسلمون في دفنه مراعين في ذلك الاقتداء بالسنة الشريفة، وأن يتركوا كل ما لم يثبت بكتاب ولا سنة مما ابتدعته آراء الناس، كقراءة سورة الإخلاص بعد الدفن، وقراءة الفاتحة وبعض الآيات والسور، وكذلك الدعاء الجماعي للميت، أو الدعاء برفع صوت والناس يؤمِّنون، فكل ذلك من البدع المحدثة.
ومن ذلك رفع القبور، والبناء عليها، وكتابة الأسماء والتواريخ، وصبغ القبر بالألوان، وتعليمه بما يميزه، كل ذلك مما نهى عنه نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
ويستحب للمسلمين إذا دفنوا أخاهم أن يستغفروا له، ويسألوا له التثبيت، لكن رفع الصوت بالدعاء الجماعي لم يرد في السنة، بل هو من المحدثات.
وتشرع تعزية أهل الميت بما يُظن أنه يسليهم ويخفف من حزنهم ويحملهم على الرضا والصبر مما ثبت في السنة إن كان يعلمه، وإلا فبما يتيسر من الكلام الذي يحقق الغرض ولا يخالف الشرع.
ولا تُحَدُّ التعزية بثلاثة أيام، بل متى كان التعزية مفيدة محصلة للغرض أتى بها، فإذا ذهب الحزن، وخفت المصيبة، ونُسي الخطب، لم تشرع التعزية حينئذ.
أيها المسلمون: هذه بعض أحكام الجنائز أوردتها على عجل لتعم الفائدة وتتبين البدعة، وليتذكر العبد أنه آت عليه ما أتى على غيره، وأنه كما سمع بموت غيره فإنه سيُسمع بموته عما قريب، فمَن أراد النجاة فليحسن العمل، ومن تولى فالله حسيبه، وكفى بالله حسيباً.
الخطبة الثانية:
أما بعد: أيها المسلمون: فإن من أهم ما يجب التنبيه إليه خطرَ الوسائل المفضية إلى الشرك. وإن من أشدها انتشاراً وشراً وخطراً ما يتعلق ببدع القبور، تلك البدع التي ضل بسببها فئام من المسلمين حتى أصبحوا من بعد إسلامهم مشركين.
ألا فليعلم المسلمون أجمعون أن تشييد القبور برفعها، والبناء عليها، وجعل القباب فوقها، وتزيينها، والكتابة عليها، ووضع الصور فيها، واتخاذها مساجد، كل ذلك مما يوجب غضب الله، بل اشتداد غضب الله على الناس؛ ولا ريب أن ما أفضى إلى غضب الله فهو من كبائر الذنوب وعظائم الآثام.
ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما نُزل برسول الله -صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وفي الموطأ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وأخرج مسلم عن جابر -رضي الله عنه- قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ. وفي رواية: وأن يكتب عليه.
وأخرج أحمد وأهل السنن أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".
ومن ذلك دفن الميت في بناء على هذا النحو، أو دفنه في ساحة مسجد، وما أشبه ذلك، كل ذلك من الكبائر.
فوا عجباً ممن وقع في أشد المحرمات، زاعماً أن ذلك من أفضل القربات! نسأل الله الثبات حتى الممات.
عباد الله: صلوا وسلموا على نبيكم محمد، فقد أمركم الله بذلك فقال: (إِنَّ اللهَ ومَلائِكتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً) [الأحزاب:56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم