اقتباس
وبناء على هذه المقاصد الشرعية ينبني الحكم على المناظرة والمجادلة، فمتى توافرت هذه المقاصد وتحققت كانت هذه المناظرة شرعية محمودة، ومتى انتفت هذه المقاصد، ولم تتحقق؛ كانت هذه المناظرة مذمومة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، وبعد:
مناظرة أهل الباطل، ودحض شبههم، وإظهار الحق؛ قد جاء مدحه والحث عليه في كتاب الله -تعالى- كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
وامتن الله على إبراهيم -عليه السلام- بإتيانه له الحجة كما قال -تعالى-: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) [الأنعام:83]، وحكى الله - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم عدة مناظرات بين أهل الحق وأهل الباطل، ومن ذلك:
مناظرة إبراهيم -عليه السلام- لأبيه وقومه كما في سورة الأنعام، وفي سورة مريم، وفي الشعراء.
ومناظرة نوح -عليه السلام- لقومه حتى قالوا له: (يا نوحُ قد جدالتنا فأكثرتَ جدالنا) [هود].
ومناظرة موسى -عليه السلام- لفرعون وملأه كما في سورة الشعراء وغيرها.
وغيرها من المناظرات التي ذكرها الله في كتابه.
والمقصود الشرعي بمناظرة المخالفين ومجادلتهم هو:
1) دعوة المخالفين للتوحيد والإيمان، وإيصال الحق إليهم، وإقناعهم ببطلان ما هم عليه من الكفر أو الشرك أو البدع.
2) الذب عن الدين، وتصفيته مما يلبس به المخالفين، وما يشوبون به نصوصه من التحريفات، والتأويلات البعيدة.
3) حماية المسلمين من الوقوع في البدع، والضلالات، وتحصينهم من الشبهات والباطل، وبيانها وبيان الرد عليها.
4) فضح المخالفين، وتعرية باطلهم؛ لئلا يلتبس حالهم على الناس.
5) جمع الناس على كلمة سواء؛ لأن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله جميعاً، ولا يمكن اجتماعهم على غيره أصلًا، ففي دفع البدعة، وقمع أهلها؛ تقدم نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم.
وبناء على هذه المقاصد الشرعية ينبني الحكم على المناظرة والمجادلة، فمتى توافرت هذه المقاصد وتحققت كانت هذه المناظرة شرعية محمودة، ومتى انتفت هذه المقاصد، ولم تتحقق؛ كانت هذه المناظرة مذمومة.
* ضوابط المناظرة:
وضع العلماء ضوابط تميز المناظرة المحمودة عن المذمومة، فمنها:
أولاً: العلم: فلا بد لمن يناظر المخالفين ويجادلهم من العلم، وقد ذم الله الجدال بغير علم فقال -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) [الحج:3]، وقال -تعالى-: (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) [آل عمران].
وذكر الشاطبي: عن أبي فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس: أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم كلامًا في الرد عليهم، فكتب إليه مالك يقول له: "إن ظننتَ ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطًا عارفًا بما يقول لهم، لا يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا لا بأس به، وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ، فيمضوا على خطئه، أو يظفروا منه بشيء فيطغوا، ويزدادوا تماديًا على ذلك"أ.هـ.
ثانياً: ألا يناظر إلا من يطمع في هدايته وانتفاعه: هذا هو الأصل قال ابن عون -رحمه الله-: "سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال، إلا رجلًا إنْ كلمته طمعت في رجوعه".
لكن قد يراعى في هذا بعض الأحوال التي تتطلب المناظرة ولو لم يرج رجوع هذا المخالف وهدايته، وهذا كما لو طلب المناظرة أمام الملأ، كما يجري الآن أحياناً على شاشات الفضائيات أو الإنترنت، وكان في ترك مناظرته خذلان للسنة، وظهور للبدعة، وربما أدى ترك مناظرته إلى اغترار الناس بهذا المبتدع، وظنوا أنه على حق، وأنَّ من ترك مناظرته على باطل وقال الإمام أحمد: "قد كنا نأمر بالسكوت، فلما دعينا إلى أمر ما كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك، ونبين من أمره ما ينفي عنه ما قالوه، ثم استدل لذلك بقوله -تعالى-: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125]".
ومن ذلك ما جرى في زمن الإمام أبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الحافظ عندما قام رجل من الإسماعيلية الباطنية وطلب مناظرة الأمير (وشمكير)، فانتدب الأمير للمناظرة الحافظ أبا بكر الإسماعيلي، وكان هذا في مجمع الناس، فناظره الحافظ فبهته.
ثالثاً: أن يستخدم الأسلوب الحسن المناسب كما قال -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125].
رابعاً: أن تكون المناظرة بغية الوصول إلى الحق وبيانه، مع الإخلاص لله -تعالى- فيها، وأن تجتنب المقاصد السيئة، ومن هذه المقاصد السيئة المجادلة بقصد دحض الحق ورده كما قال -تعالى-: (وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) [غافر:5].
خامساً: أن لا يكون القصد منها هو مجرد المجادلة والعناد كما أخبر الله -تعالى- عن كفار قريش في قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف:57].
سادساً: أن لا يكون المراد به إظهار العلم والفطنة، أو الذكاء والحفظ، وقوة الحجة، مراءاةً للناس وطلبًا للدنيا، فكل هذه المقاصد تفسد ثواب المجادلة، وتبطل أجرها، ولو كانت في حق؛ لأنها لم يرد بها وجه الله -تعالى-، وإنما أريد بها حظ النفس.
سابعاً: ألا تكون هذه المناظرة سببًا لظهور المخالفين، وانتشار بدعتهم، وفتحًا للباب لهم ليتطاولوا على السنة وأهلها، كما قال بعض السلف: "أميتوا البدع بعدم ذكرها"، يقول الإمام اللالكائي مبينًا ما جنته مناظرة المخالفين من جناية على المسلمين، مقارنًا بين حال المخالفين في عصر السلف الأول، وما كانوا عليه من ذل وهوان، وبين حالهم بعد فتح باب المناظرات معهم عند بعض المتأخرين، وما أصبح لهم بسبب ذلك من صيت وجاه حتى أصبحوا أقرانًا لأهل السنة في نظر العامة يقول -رحمه الله-: "فما جنى على المسلمين جناية أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قهر ولا ذل أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة، يموتون من الغيظ كمدًا ودردًا، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلًا، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقًا، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلًا، حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطرقت أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة، حتى تقابلت الشبه في الحجج، وبلغوا من التدقيق في اللجج، فصاروا أقرانًا وأخدانًا، وعلى المداهنة خلانًا وإخوانًا، بعد أن كانوا في الله أعداءً وأضدادًا، وفي الهجرة في الله أعوانًا، يكفرونهم في وجوههم عيانًا، ويلعنونهم جهارًا، وشتان ما بين المنزلتين، وهيهات ما بين المقامين" (شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/19-20)).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم