عناصر الخطبة
1/ الحديث المبيِّن للثلاثة الذين يضحك الله إليهم 2/ تأملات في الحديث ونظرات في قيمته التربوية 3/ نماذج تبين تطبيق الصحابة العملي للحديث.اقتباس
هذا جزءٌ من السيرة اليومية التي عاشها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في تربية المؤمنين على علوّ الهمَّة، وتوجيههم إلى بلوغ القمَّة في الأخلاق والأوصاف والشمائل. في حديث اليوم، وفي هذا الجزء من السيرة النبوية، يستغلُّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أسلوبَ الترغيب، ويُحركُ في النفوس جانب حبّ...
أما بعد: عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاثة يحبهم الله -عز وجل- ويضحك إليهم ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله -عز وجل-، فإما أن يُقْتَلَ، وإمَّا أن يَنْصُرَهُ اللهُ ويَكْفِيَه، فيقول الله: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟!"
"والذي له امرأة حسناء وفراشٌ ليّنٌ حسنٌ، فيقوم من الليل فــ (يقول): يذر شهوته فيذكرني ويناجيني ولو شاء رقد!".
"والذي يكونُ في سفر وكان معه ركبٌ فسهِرُوا ونَصَبُوا، ثم هجعوا، فقام من السَّحَر(فيصلي حتى يوقظهم لرحيلهم)" صحيح الجامع.
أيها الإخوة في الله: هذا جزءٌ من السيرة اليومية التي عاشها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في تربية المؤمنين على علوّ الهمَّة، وتوجيههم إلى بلوغ القمَّة في الأخلاق والأوصاف والشمائل.
في حديث اليوم، وفي هذا الجزء من السيرة النبوية، يستغلُّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أسلوبَ الترغيب، ويُحركُ في النفوس جانب حبّ الاقتداء والتمثُّل بالأكمل.
باستغلال تلك الوسائل وَجَّهَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عنايةَ الصحابة -رضي الله عنه-إلى ثلاثة مواقفَ عالية، هي سببُ الرفعة والعلو والتميُّز في حياة الفرد والأُمَّة، وسببُ نيل حبّ الله تعالى، والقُرب منه والحظوة لديه.
هي سببٌ في تحصيل ضَحِكِ الله إليك وحُبّه واستبشارِه، وما أدراكَ ما ضحِك الله وحبّه واستبشاره؟!.
نتعرَّف على هذا الخُلُق من سيرة هؤلاء الثلاثة:
فأمَّا الرجلُ الأوَّل الذي يحبُّه الله ويضحكُ إليه ويستبشرُ به فهو رجلٌ مقيمٌ في موقع من مواقع الصف الذي يُعلي كلمةَ الله في الأرض، وفجأةً، وفي مرحلة من مراحل الامتحان والخوف؛ تتأزَّمُ الأمور، ويتكاثرُ العدُوُّ على الصف، ويشتدُّ الخطبُ عليه، فينكشفُ الصفُّ ويتراجع!.
الواقعُ يقول: لا شيء أحبَّ إلى نفسه في تلك اللحظات من التَّولّي والتراجُع مع من تولَّى وتراجع؛ لأنَّ حبَّ الحياة والارتباطَ بها حظٌّ جُبلت عليه النفوس، ولا أحدَ يريدُ أن يدفعَ الثَّمنَ وحده.
يُخبرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ في تلك اللحظات، تعلُو الرُّوحُ على الطّين، ويمتلئ القلبُ بالإيمان واليقين، فيحدُثُ المثالُ الذي انتصرَ على الواقع، إنَّهُ ثباتُ الجسدِ في الأرض، يدفعُ الثَّمن وحده، لا يَهُم! يُنازلُ ويُقاوم ويُصابر؛ لأنَّهُ نظر إلى الثَّمن الذي أعدَّهُ اللهُ للصابرين الثابتين.
هذا الرَّجُلُ إمَّا أن يُقتَلَ صابرًا محتسبًا فيدخل الجنَّة، وإمَّا أن يُلقيَ اللهُ الرُّعبَ في قلوب المعتدين فينصُرَهُ الله ويفتحَ على يديه!.
هذا النموذجُ الحيُّ القوي هو الذي ألقى اللهُ به الرُّعبَ في قلوب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، هو مفتاحُ النصر والتمكين، هو الذي ارتفعت به كلمةُ الله في الأرض، وانهدَّت به كلمةُ الغاصبين المعتدين.
هذا الرَّجُلُ العَجَبُ العُجاب، يحبُّه الله، ويضحكُ إليه، ويستبشرُ به!.
وأما الرجلُ الثاني الذي يحبُّه الله ويضحكُ إليه ويستبشرُ به فهو منتصرٌ آخر على الشهوات والملذَّات، مسافرٌ آخر إلى ربّ الأرض والسموات، رجلٌ له امرأة حسناءُ مقصورةٌ في البيت، وفراشٌ ليّنٌ دافئٌ حسن.
لسانُ الواقع يقول: هنيئًا لكَ الدُّنيا بحذافيرها، عليك بنومٍ طويل، وظلٍّ ظليل، ولتهنكَ الرَّاحةُ والسعادةُ والأُنس والمناجاة!.
يُخبرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ في تلك اللحظات، تعلُو الرُّوحُ على الطّين، ويمتلئ القلبُ بالإيمان واليقين، فيحدُثُ المثالُ الذي انتصرَ على الواقع، الرَّجلُ في عالم آخرَ يسمعُ غناءَ الحورِ العَين: "نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، نحن الخالدات فلا يمتنه، نحن الآمنات فلا يخفنه، نحن المقيمات فلا يظعنه" صحيح الجامع.
فيهجُرُ لذَّة النوم والنَّعيم، ويترُكُ الأنسَ بالمخلوق الفاني ليأنسَ بالخالق الباقي في جوف الليل الأخير.
هذا النموذجُ الحيّ الحرُّ الأَبِي هو الذي انتصر على النفس، وأذَلَّ كبرياءَ الرُّوم والفُرس؛ هذا الرَّجُلُ العَجَبُ العُجاب، يحبُّه الله، ويضحكُ إليه، ويستبشرُ به!.
وأما الرجل الثالث الذي يحبُّه الله ويضحكُ إليه ويستبشرُ به فرجلٌ لا يعرفُ الكللَ ولا الملل، رِجلاهُ في الثَّرى وروحُهُ في الثُّريَّا، وهمَّتُهُ مع الملكوت الأعلى، لا يُنسيه عملُ الدُّنيا العملَ للآخرة، يسافرُ مع القوم فيطولُ بهم السيرُ بالليل، ويسهرون ويتعبُون، حتى يُحِبُّوا أن يَمَسُّوا الأرضَ من شدَّة النَّصب والتعب.
حينما يخلُدُون إلى الرَّاحة؛ الواقعُ يقول: إنَّ أحبَّ شيء إلى نفسه في تلك اللحظات النومُ مع النَّائمين، ولن يتطوَّعَ بالحراسة عليهم، فضلاً أن يجدَ لذَّةً في ذلك.
يُخبرُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ في تلك اللحظات، تعلُو الرُّوحُ على الطّين، ويمتلئ القلبُ بالإيمان واليقين، فيحدُثُ المثالُ الذي انتصرَ على الواقع: إنَّهُ هجرُ شهوة حبّ النفس، فيحرُسُ القومَ، وفوقَ ذلك يقومُ الليل بالسَّحر أنسًا ومناجاةً لله -عز وجل-!.
هذا الرَّجُلُ العَجَبُ العُجاب يحبُّه الله، ويضحكُ إليه، ويستبشرُ به!.
أيها الإخوةُ في الله: سمعَ الصحابةُ هذا الترغيب، وفهموا مُرادَ النبي -صلى الله عليه وسلم-، فضربوا أروعَ الأمثلة في تمثُّل تلك الأخلاق والأوصاف والقمم.
هذا ما سنراه بإذن الله في الخطبة الثانية. نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
هذا الصحابيُّ الجليل سعيد بن زيد -رضي الله عنه- يقول: لما كان يوم اليرموك كنا أربعا وعشرين ألفا أو نحوا من ذلك، فخرجت لنا الروم بعشرين ومائة ألف، وأقبلوا علينا بخطى ثقيلة كأنهم الجبال تحركها أيدٍ خفيةٌ.
وسار أمامهم الأساقفة والبطاركة والقسيسون يحملون الصلبان وهم يجهرون بالصلوات، فيرددها الجيش من ورائهم، ولهم هزيم كهزيم الرعد.
فلما رآهم المسلمون على حالهم تلك هالتهم كثرتهم، وخالط قلوبهم شيء من خوفهم.
عند ذلك قام أبو عبيدة بن الجراح يحض المسلمين على القتال فقال: عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
عباد الله، اصبروا؛ فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب، ومدحضةٌ للعار، أشرعوا الرماح، واستتروا بالتروس، والزموا الصمت إلا من ذكر الله -عز وجل- في أنفسكم، حتى آمركم إن شاء الله.
وقام عمرو بن العاص فنادى في المؤمنين، وكان أميرًا على الميمنة: يا أيها المسلمون، غضُّوا الأبصار، واجثوا على الرُّكب، واشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم، حتى إذا ركبوا أطرافَ الأَسِنَّةِ، فَثِبُوا إليهم وثبة الأسد، فواالذي يرضى الصِّدقَ ويُثيبُ عليهِ، ويمقتُ الكَذِبَ، ويجزي بالإحسانِ إحسانَا، لقد سمعتُ أنَّ المسلمين سيفتحونها كَفْرًا كَفْرًا، وقصرًا قصْرًا، فلا يهولُكم جموعُهم ولا عددُهم، فإنَّكم لو صدقتموهُم الشَّدَّ تطايروا تطايرَ أولادِ الحَجَل. رواها ابن كثير في البداية والنهاية.
قال سعيد -رضي الله عنه-: عند ذلك خرج رجل من صفوف المسلمين وقال لأبي عبيدة: إني أزمعت على أن أقضي أمري الساعة، فهل لك من رسالة تبعث بها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!.
فقال أبو عبيدة: نعم، تقرئه مني ومن المسلمين السلام، وتقول له: يا رسول الله، إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا!.
قال سعيد -رضي الله عنه-: فانطلق الرجل ممتشقا حسامه، فما إن سمعت كلامه حتى اقتحمت إلى الأرض وجثوت على ركبتي، وأشرعت رمحي، وطعنت أول فارس أقبل علينا، ثم وثبت على العدو، وقد انتزع الله كل ما في قلبي من الخوف، فثار الناس في وجوه الروم، ومازالوا يقاتلونهم حتى كتب الله للمؤمنين النصر.
إنَّ هذا المثال الفريد في الثبات والصبر دليل على امتثال الصحابة -رضي الله عنهم- لتربية النبي -صلى الله عليه وسلم-، ودرسٌ للمؤمنين في علو الهمَّة والانتصار على الشهوات.
وهذا الصحابيُّ الجليل حنظلةُ بنُ أبي عامر -رضي الله عنه- الشَّابُّ الصَّالحُ التقي تزوَّجَ جميلةَ بنتَ عبد الله -رضي الله عنها- فأُدخلت عليه في الليلة التي في صبيحتها غزوةُ أُحد.
في تلك الليلة التي دخل فيها بزوجته طرَقَ سمعَهُ نداءُ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- بالاجتماع في الصفوف لملاقاة العدُو، فيخرُجُ من عندها وهو جُنبٌ من أهله -رضي الله عنه-.
استوى في الصفوف مع المؤمنين وقاتل -رضي الله عنه- حتى استُشهدَ وهو عريسٌ صاحبُ ليلة واحدة لم تكتمل!.
هذا الصحابيُّ الجليلُ من الرجال الذين يحبُّهم الله -تعالى-، ويضحكُ إليهم، ويستبشرُ بهم؛ لأنَّهم رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه!.
هذا الرَّجُلُ غسَّلتهُ الملائكة عليهم السلام، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لمَّا أرادَ الصحابةُ تغسيله: "إن صاحبكم تغسله الملائكة فاسألوا صاحبته"، فقالت: خرج وهو جنب لما سمعَ الهائعة. رواه الألباني في أحكام الجنائز.
إنَّ هذا المثالَ الفريدَ درسٌ للذين عاهدوا فما صدقوا، ولَمَّا فُتحت عليهم الدنيا أخلدوا إلى لذَّاتها، ورَضُوا بأن يكونُوا مع الخوالف في جنباتها.
إنَّهُ لهم درسٌ فريد، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون!.
نسأل الله التوفيق إلى ما يحب ويرضى.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم