الثبات الثبات عباد الله!

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ ابتلاء الله تعالى عباده بالفتن 2/ ترويج التقنية الحديثة لفتن الشبهات والشهوات 3/ الثبات في القرآن الكريم 4/ ثبات نبينا الكريم وأتباعه الصالحين 5/ أسباب عملية تعين على الثبات

اقتباس

إن أعظم نعمة أنعم الخالق -سبحانه وتعالى- على المخلوق بها هدايته إلى الإسلام الخالص، وهذه النعمة تستوجب الشكر الجزيل، ومن شكرها: الثبات عليها مهما ادلهمت الخطوب، وتبهرجت دواعي الإغراء والترغيب.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق القول كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها الناس: جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنه قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي! ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه! فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه".

 

إن الإنسان في حياته الدنيوية مرمى لسهام الفتن المتنوعة، لا تمضي عليه واحدة إلا خلفتها أخرى، وقلوب بني آدم هي التي بها تبتلى وتختبر؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه" رواه مسلم.

 

عباد الله: إنه لا أضر من فتنة تُميل المسلمَ عن الطريق المستقيم إلى سبل أهل الجحيم، فمن إسلام إلى ردة، ومن سنة إلى بدعة، ومن طاعة إلى معصية.

 

إن التقنية العالية ووسائل الاتصال الحديثة في وقتنا الحاضر، جعلت أهل الأرض كأنهم يعيشون في غرفة واحدة من خلال الهاتف والقناة والانترنت، فسوقت العقائد المنحرفة، والأفكار الضالة فوصلت إلى البيوت، واختلطت البيئات بعد أن كان المسلمون لا يعرفون إلا بيئة الإسلام والسنة والطاعة.

 

أيها المسلمون: إن شيوع الانحراف عن الحق الذي يدعو إليه أهل الباطل عبر وسائل الإعلام المختلفة بالإغراء بالمال أو الجاه أو النساء قد أوجد تجاوباً لدى أصحاب القلوب الضعيفة من المسلمين؛ فباعوا الدين والقيم الحميدة بعرض من الدنيا قليل من مال أو وظيفة أو شهوة عاجلة، والواقع والأخبار تطلعنا على بعض ضحايا الشبهات والشهوات الذين وقعوا في شباك الكفر أو البدعة أو الخطيئة.

 

عباد الله: لهذه المظاهر ونحوها يشتد خوف المسلم على دينه واستقامته، فيخاف على نفسه وأهله وأولاده من خطاطيف الضلالة التي تقف على الطرقات؛ لأجل هذا كان الحديث عن الثبات على دين الله -تعالى- من الأمور المهمة في هذه الأحوال المدلهمة.

 

إن أعظم نعمة أنعم الخالق -سبحانه وتعالى- على المخلوق بها هدايته إلى الإسلام الخالص، وهذه النعمة تستوجب الشكر الجزيل، ومن شكرها: الثبات عليها مهما ادلهمت الخطوب، وتبهرجت دواعي الإغراء والترغيب.

 

إن الحق الذي يطالب كل إنسان بالثبات عليه هو دين الإسلام الصافي الذي جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام- من عند ربه -تعالى-، وبلغه أصحابه إلى الناس بعده، وهو تصديق وانقياد، وعمل واعتقاد، وفهم وسلوك؛ فالحق ما كان عليه رسول الله وأصحابه، فمن خالف ذلك فليصحح ما هو فيه على ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام:90]، وقال -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة:137].

 

إخواني الكرام: إن موضوع الثبات على الحق موضوع ذو أهمية كبيرة؛ ولهذا تحدث عنه القرآن الكريم على صور شتى: أحياناً بالدعاء به، قال -تعالى-: (وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:250]، وقال: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران:147].

 

وأحياناً يبين بعض أسباب الثبات على دين الله، كالعمل بالموعظة والاستجابة لها بتنفيذ الأوامر والنواهي، قال -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) [النساء:66]، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].

 

وأحياناً يذكر نماذج للثابتين ممن سبقونا على طريق الإيمان من الأنبياء وأتباعهم، فذكر لنا قصة إبراهيم -عليه السلام- وكيف ثبت على الحق حتى ألقي في النار، فكانت عليه برداً وسلاماً؛ جزاء ثباته وتضحيته.

 

وذكر لنا قصة موسى -عليه السلام- أمام فرعون وملئه وكيف نجاه الله من فرعون وجنده. وذكر لنا ثبات سحرة فرعون بعد أن رأوا الحق فاستمسكوا به وثبتوا عليه، مع وعيد فرعون وتهديده.

 

وذكر لنا ثبات أصحاب الأخدود، الذين لم ترهبهم النار ذات الوقود، وغير ذلك من حديث الثابتين في القرآن الكريم؛ ليأتي التعليق بالحكمة من ذلك قائلاً: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120].

 

أيها المسلمون: إن سيد البشرية محمداً -عليه الصلاة والسلام- هو سيد الثابتين على الحق، وقد اجتمعت له دواعي النكوص ترغيبها وترهيبها، لكنه لم ينصع لها ولم يستجب لها؛ بتثبيت الله إياه.

 

رُغِّب في الدنيا ورئاستها، ورُهب بالبلايا وصروفها كي يرجع عن الحق، فوضع ذلك كله تحت قدميه ومضى في طريق الحق ثابتاً.

 

جاء إليه وفد قريش فقالوا: يا محمد، إن كنت إنما تريد بما جئت به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا، وإن كنت تريد بما جئت به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، إلى آخر ذلك الإغراء، فما كان جواب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا الإعراض عن ذلك كله.

 

وقالوا له: ساحر، كذاب، شاعر، مجنون، ثم توعدوه بالقتل، وحاولوا ذلك مرات عديدة، لكن الله حال بينهم وبين ما يشتهون، قال -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30].

 

فلما رأى صحابته الكرام ثباته -عليه الصلاة والسلام- ثبتوا لثباته في حياته وبعد مماته، وربما ثبتهم بقوله -عليه الصلاة والسلام-؛ فلقد مر على آل ياسر وهم يعذبون فقال لهم: "صبراً آل ياسر! فإن موعدكم الجنة" رواه الحاكم والبيهقي.

 

وعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله! ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون!" رواه البخاري.

 

وما هي إلا سنوات قليلة حتى مات رسول -صلى الله عليه وسلم- فظهرت بوادر الردة عند بعض القبائل فثبت الله المسلمين حينئذ بثبات أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- والصحابة الآخرين -رضي الله عنهم-.

 

والحديث عن الثابتين بعد رسول الله إلى يومنا هذا يطول، واقرؤوا -إن شئتم- عن ثبات عبد الله بن حذافة السهمي أمام ملك الروم، وعن ثبات أبي مسلم الخولاني أمام الأسود العنسي، وعن ثبات الأوزاعي أمام أحد الأمراء العباسيين، وعن ثبات الإمام أحمد في محنة خلق القرآن، وعن ثبات ابن تيمية، وابن الأمير الصنعاني، والشوكاني، أمام المبتدعين وأصحاب المذاهب المتعصبين.

 

أيها المسلمون: هناك أسباب عملية تساعد المسلم على الثبات على الحق عند ورود الشبهات والشهوات الصادة عن الحق.

 

فمن ذلك: كثرة الأعمال الصالحة، والإخلاص لله فيها، ومتابعة رسول الله في عملها، فالعمل الصالح الكثير إذا كان خالصاً صائباً يبعد المسلم عن الانتكاس والتراجع عن الدين الحق؛ قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7].

 

ومن الأسباب: العلم الشرعي النافع؛ لأن العلم القوي بالشريعة والعمل به يجعل المسلم في مأمن من هجوم الشبهات المضلة، والشهوات المزيغة.

 

ومن الأسباب: مجالسة الصالحين وملازمة المساجد وأهلها؛ لأن الجليس يتأثر بجليسه، قال -تعالى-: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28].

 

عباد الله: ومن ذلك، أيضاً: الحذر من وسائل الإعلام المنحرفة التي تضل الناس عقائدياً وأخلاقياً، كالقنوات التي تبث السحر والشعوذة، والرفض والطعن في الدين، وتنشر المجون وتشجع على الرذيلة وتدعو إليها، فلا تبح لعينك أو عيون أسرتك مشاهدتها، فهي السم الزعاف.

 

ومن أسباب الثبات على دين الله: استشعار عظمة الله -تعالى- وقدرته ومراقبته، فمن كان الله -عز وجل- في قلبه عظيماً فلن ينحرف مع المنحرفين، ولن يزيغ مع الزائغين، وعلى قدر مراقبة الله وعظمته في قلب الإنسان يكون ثباته.

 

ومن أسباب الثبات على دين الله: الحذر من الانشغال بالدنيا، والركون إليها، ومتابعة شهواتها ولذاتها، والتوسع في مباحاتها.

 

أيها المسلم: لا تجعل الدنيا لك دار خلود وبقاء، ولكن اجعلها دار تزود واستعداد، فكم من إنسان انحرف بسبب مال حصله، أو منصب سيق له، أو امرأة سلبت عقله! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فاتقوا الدنيا! واتقوا النساء! فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" رواه مسلم.

 

ومن أسباب الثبات على دين الله: تعلق قلب المسلم بالله -تعالى-، وأن كل شيء بيده، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فإن جاء ترغيب بدنيا بشرط دفع ضريبة من الدين والخلق الكريم فدع ذلك، فما كان لك فسيأتيك، وما صرف عنك فهو خير لك. وإن جاء ترهيب لتتنازل عن مبادئ دينك الحق؛ فلا تتنازل، فلن يصيبك إلا ما كتب الله عليك.

 

قال -تعالى-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران:173-174].

 

ومن أسباب الثبات على دين الله -تعالى-: كثرة ذكر الله وقراءة القرآن؛ فذكر الله -تعالى- إذا توافق القلب واللسان فيه اطمأن القلب، قال -تعالى-: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].

 

وقراءة القرآن قراءة متأنية متدبرة مع معرفة معانيه ومقاصده وحدوده عون عظيم على الثبات، قال -تعالى-: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل:102].

 

أخيراً، عليك -أيها المسلم- أن تقارن نعيم الآخرة الباقي الكامل بلهو الدنيا الذاهب الناقص؛ لتتضح لك الحقيقة، ولو حصّل الإنسان الدنيا كلها بمالها وجاهها وجميع شهواتها؛ كم سيبقى فيها؟ وما مصيره بعد انقضائها؟! قال -تعالى-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى:16-17]، وقال: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64].

 

نسأل الله أن يثبتنا على دينه، وأن يجعلنا مقتدين برسوله، وأن يتوفانا مسلمين، غير ضالين ولا مضلين.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الواحد المعبود، والصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد: أيها المسلمون، إن الثبات على دين الله -تعالى- مطلب كل مسلم صادق، وأمنيته الغالية التي يحب أن يخرج بها من الدنيا؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

 

أخي المسلم: لا تأمن على نفسك، ولا تركن إلى ما عندك من العلم والعبادة، بل اجتهد في العمل والافتقار إلى الله ودعائه بالثبات، وقل: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران:8].

 

وادعُ كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب، صرف قلبي على طاعتك"، عن أنس قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، قال: فقلنا: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: فقال: "نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله -عز وجل- يقلبها" رواه أحمد.

 

وكيف آمن على نفسي وتأمن على نفسك وقد قال الله لسيد الثابتين: (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) [الإسراء:74-75].

 

عباد الله: إنها لنكسة عظيمة، ومصيبة كبيرة، أن يترك المسلم طريق الحق ليسلك طريق الباطل لشبهة عرضت له أو لشهوة انحرفت به، فكيف سيكون حاله وحياته لو حصل ذلك؟ كيف هجر محبة الله ووصل محبة الشيطان؟! وكيف سلخ عنه السعادة ليلبس الشقاء؟! وكيف نسي الجنة وما أعد الله -تعالى- لأهلها فيها ومضى في طريق الجحيم؟!.

 

كم هو ندمه وحسرته! وكم هو عناؤه وشقوته إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وجمع الناس ليوم البعث والنشور!.

 

فأصبح كالبازي المنتف ريشه *** يرى حسراتٍ كلما طار طائر

وقد كان دهراً في الرياض منعّماً *** على كل ما يهوى من الصيد قادر

إلى أن أصابته من الدهر نكبة *** إذا هو مقصوص الجناحين حاسر

 

قال ابن القيم -رحمه الله-: " فيا من ذاق شيئاً من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها، يا عجباً له! بأي شيء تعوض؟ وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض؟ وكيف اتخذ سوى أحنيته سكناً وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطناً؟ أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار، ووافقه على مساكنة الأغيار؟!".

 

اللهم إنا نسألك الثبات على الحق حتى الممات، ونسألك أن تتوفانا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين.

 

هذا وصلوا على خير الورى...

 

 

 

المرفقات

الثبات عباد الله!

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات