عناصر الخطبة
1/وجوب الاعتماد على خبر الوحي الصحيح 2/بعض من خصائص ليلة القدر 3/ثبوت ليلة القدر بعلاماتاقتباس
يدلنا خبرُ الوحيِ الثابتُ والصحيحُ بأن هناك علامة واحدة ثابتة لليلة القدر، وقد جاءت في السنة النبوية، تدل الملاحِظَ لها والضابطَ لها على أن تلك الليلة بالتحديد هي ليلة القدر من بين الليالي العشر في تلك السنة، ووفقًا لخبر الوحي الثابت والصحيح فإن هذه العلامة هي علامة بَعْدِيَّة لا قَبْلِيَّة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ:
عباد الله: ليلة القدر، من الأزمنة التي اختارها الله -تعالى-، والله يخلق ما يشاء ويختار، كما اختار من الأمكنة أرضَ مكة المكرمة موطنا لبيته المحرم. فحينما نتكلم عن ليلة القدر فإننا نتكلم عن زمان طولُه ليلةٌ واحدةٌ فقط. وهذا الزمان هو من اختيار الله -تعالى-. من الذي أخبرنا بذلك؟ إنه الوحي.
ولذلك -يا عباد الله- إذا أردنا أن نخبر عن هذه الليلة، فإن المنهج الحق في ذلك يقول: إنه لا بد لنا من أن نعتمد على خبر الوحي، وخبر الوحي الثابت والصحيح فقط؛ لأن شأن هذه الليلة هو شأن إلهيّ، واختيارها وتفضيلها وبيان سبب تفضيلها وأَوْجُه تفضيلها وخصائصها وعلاماتها هو من شأن خبر الوحي من عند الله، لا من شأن خلقه من الناس. فهو -سبحانه- مَنِ اختار ليلة القدر زمانًا مفضَّلًا، وهو -سبحانه- مَنْ يخبرنا عن تلك الليلة. وهذا منهج مهمّ جِدًّا لا بد لنا أن نتبعه حتى نتجنب كثيرا من الكلام والروايات والآراء عن تلك الليلة، مما لم يثبت صحته في خبر الوحي.
عباد الله: لأجل هذا دَعُونا في هذه الخطبة نلتزم بخبر الوحي الصحيح لنتعرف على خصائص ليلة القدر وأوصافها وعلاماتها الثابتة لها.
عباد الله: من خصائص ليلة القدر الثابتة: أنها ليلة من بين الليالي العشر الأواخر من رمضان، وأنها تتنقَّل بين هذه العشر، فقد تكون ليلة العشرين، وقد تكون ليلة الثلاثين، وقد تكون ليلة الثالث والعشرين، وقد تكون ليلة السابع والعشرين، وقد تكون ليلة الرابع والعشرين، وهكذا. فهذه خاصية أصيلة لليلة القدر ثابتة في خبر الوحي الصحيح، فقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة ومنها: حديث عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الْتَمِسُوا -تَحَرَّوْا- لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"، وفي رواية ابن عمر: "الْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ- يَعْنِى لَيْلَةَ الْقَدْرِ"، وفي رواية أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ: "فَالْتَمِسُوهَا فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ". وهي عامة للّيالي الفردية والزوجية.
وقد جاءت الأحاديث كذلك والروايات عن الصحابة في تَنقُّل هذه الليلة في العشر الأواخر، فثبت عن عبد بن أنيس أنها ليلة الثالث والعشرين، وثبَت عن أبي سعيد الخدري أنها ليلة الحادي والعشرين، كما ثبَت عن عمر بن الخطاب، وحذيفة بن اليمان، وأُبَيّ بن كعب ومعاوية القول بأن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، وكان ابن عباس يرى أنها ليلة أربع وعشرين، عن عكرمة عن ابن عباس: "التَمِسُوا في أربع وعشرين". وروى عبد الرزاق في مصنفه أن التابعي الجليل مكحول الدمشقي كان يرى ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين. وهذا الانتقال معناه عدم إمكانية الجزم بليلة ثابتة لليلة القدر، وعليه فما جاء من روايات ثابتة عمّن أثبتها في ليلة من أقوال الصحابة فهو إثبات لها في تلك السنة التي ذكرها فيها لا من باب التَعْميم أنها كذلك كل سنة.
عباد الله: ومن الخصائص الثابتة لليلة القدر: أن نزول القرآن العظيم قد بدأ في تلك الليلة. فمن خصائصها أن نزول القرآن العظيم أوّل ما نزل كان فيها لا في غيرها من ليالي السنة. والدليل على هذه الخاصية لليلة القدر قول الله -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[الْقَدْرِ: 1]، وقوله -تعالى-: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة)[الدُّخَانِ: 3]. أي أنه ابتدئ نزول القرآن في تلك ليلة القدر من شهر رمضان على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن عاشور: "فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي ابْتُدِئَ فِيهَا نُزُولُ الْقُرْآنِ على مُحَمَّد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغَارِ مِنْ جَبَلِ حِرَاءٍ فِي رَمَضَانَ"، وقال ربنا -سبحانه- في خصوصية القرآن العظيم في شهر رمضان في سورة القدر: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)[الْقَدْرِ: 1]، فهنا سمَّى الليلة وحدَّد وجودها في شهر رمضان. وعليه يكون قوله -تعالى-: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ)[الْعَلَقِ: 1-3]". فهذا الحَدَث وقع في وقت من رمضان؛ ليشهد بذلك على خصوصية القرآن العظيم في شهر رمضان المبارك، خصوصية أرادها الله وشاءتها حكمته -سبحانه وتعالى-.
وقال محمد رشيد رضا في (تفسير المنار): "وَأَمَّا مَعْنَى إِنْزَالِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ -مَعَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْيَقِينِ أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ مُنَجَّمًا مُتَفَرِّقًا فِي مُدَّةِ الْبِعْثَةِ كُلِّهَا- فَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ نُزُولِهِ كَانَ فِي رَمَضَان". وقال ربنا -سبحانه- في خصوصية القرآن العظيم في شهر رمضان في سورة الدخان: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة)[الدُّخَانِ: 3]، وقال أبو السعود: (الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[الْبَقَرَةِ: 185] ومعنى إنزالِه فيه أنه ابتُدئ إنزالُه فيه، وكان ذلك ليلةَ القدرِ، أو أنزل فيه جملةً إلى السماء الدنيا، ثم نزل مُنَجَّمًا إلى الأرض حسبما تقتضيه المشيئةُ الربانية.
وقال ابن عاشور عند تفسير الآية: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة)[الدُّخَانِ: 3]: "وَمَعْنَى الْفِعْلِ فِي "أَنْزَلْناهُ" ابْتِدَاءُ إِنْزَالِهِ، فَإِنَّ كُلَّ آيَةٍ أَوْ آيَاتٍ تَنْزِلُ مِنَ الْقُرْآنِ فَهِيَ مُنْضَمَّةٌ إِلَيْهِ انْضِمَامَ الْجُزْءِ لِلْكُلِّ، وَمَجْمُوعُ مَا يَبْلُغُ إِلَيْهِ الْإِنْزَالُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ هُوَ مُسَمَّى الْقُرْآنِ إِلَى أَنْ تَمَّ نُزُولُ آخِرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ".
عباد الله: ومن خصائص ليلة القدر الثابتة: أنها ليلة مباركة. فتأمل معي قول ربك -سبحانه- في سورة الدخان: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)[الدُّخَانِ: 3]. فوصف الليلة بأنها مباركة. وتأمل معي هذا الوصف: "مباركة"، وتأمل معي من الذي وصفها بالمباركة؟ إنه الله -سبحانه وتعالى-. فحكم لهذه الليلة حكمًا كونيًّا قاطعا دائما في حقها أنها ليلة مباركة. فسبحانك ربي سبحانك. (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ)[الدُّخَانِ: 3]، قال السعدي في تفسيره لمعنى مباركة: "أي: كثيرة الخير والبركة، وهي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر"، وقال ابن عاشور: "وَوَصْفُهَا بِـ "مُبارَكَةٍ" تَنْوِيهٌ بِهَا وَتَشْوِيقٌ لِمَعْرِفَتِهَا"، وقال أيضًا: "وثبت أن الله جعل لنظيرتها من كل سنة فضلًا عظيمًا لكثرة ثواب العبادة فيها في كل رمضان كرامة لذكرى نزول القرآن، وابتداء رسالة أفضل الرسل -صلى الله عليه وسلم- إلى النّاس كافة".
عباد الله: ومن خصائص ليلة القدر الثابتة: أنها ليلة تفضُل على غيرها من الليالي في العبادة بقدر ألف ليلة ويزيد. والدليل هو قوله -تعالى-: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[الْقَدْرِ: 3].
نعم، فمن يُوفِّقه الله -تعالى- لإحياء ليلة القدر بالعبادات والطاعات المشروعة فيوافق في تلك الليلة ليلةَ القدر، فإنه يضاعَف له أجر إحياء تلك الليلة بحيث يعدل أجرُه فيها أجر ألف شهر بكل ليالي تلك الشهور؛ أي أجره في ليلة واحدة هي ليلة القدر يساوي أجرَ ليالي ألف شهر "ما يقارب 30 ألف ليلة. وما يساوي83 سنة تقريبا". وهذا تفضُّل وإنعام وعطاء من الكريم -سبحانه-. ولا يقدر عليه إلا الله -تعالى- واسع الفضل والعطاء والكرم والإحسان.
وقال الطبري في معنى الآية الكريمة: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[الْقَدْرِ: 3] "العمل في ليلة القدر بما يُرضي الله، خيرٌ منَ العمل في غيرها ألف شهر. عملٌ في ليلة القدر خير من عمل ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر". وقال ابن عاشور في معاني الآية: "وَتَفْضِيلُهَا بِالْخَيْرِ عَلَى أَلْفِ شَهْرٍ. إِنَّمَا هُوَ بِتَضْعِيفِ فَضْلِ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَاسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ وَوَفْرَةِ ثَوَابِ الصَّدَقَاتِ وَالْبَرَكَةِ لِلْأُمَّةِ فِيهَا، لِأَنَّ تَفَاضُلَ الْأَيَّامِ لا يَكُونُ بِمَقَادِيرِ أَزْمِنَتِهَا ولا بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ، أَوْ مَطَرٍ، وَلَا بِطُولِهَا أَوْ بِقِصَرِهَا، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَحْوَالَ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَعْبَأُ بِمَا يَحْصُلُ مِنَ الصَّلَاحِ لِلنَّاسِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، وَمَا يُعِينُ عَلَى الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَنَشْرِ الدِّينِ".
عباد الله: ومن خصائص ليلة القدر الثابتة: أنها ليلة يُفْرَق فيها أمر الله. أي هي ليلة تُكتب فيها الأقدار المستقبلية لسنة كاملة؛ أي: حتى موعد ليلة القدر القادمة. وهذه تُعرف بالكتابة الحولية أو السنوية عند علماء العقيدة. والدليل على ذلك قول الله -تعالى-: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدُّخَانِ: 4]. قال ابن كثير: "أَيْ: في ليلة القدر يُفصل من اللوح المحفوظ إلى الكَتَبَة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها".
وعن مجاهد، قوله: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)[الدُّخَانِ: 4] قال: "في ليلة القدر كل أمر يكون في السنة إلى السنة: الحياة والموت، يقدَّر فيها المعايش والمصائب كلها". وقال السعدي: "ثم إنه -تعالى- يقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة". وجاء في تفسير القرطبي: "إنها الليلة التي يُفْرَق فيها كلُّ أمر حكيم، فيها يقضي الله كل خلق وأَجَل ورزق وعمل إلى مثلها". وقال ابن عباس: "يُكتب من أُمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحج، يقال: يحج فلان ويحج فلان". وقال في هذه الآية: "إنك لَتَرى الرجلَ يمشي في الأسواق وقد وقع اسمُه في الموتى"، وهذه الإبانة لأحكام السنة إنما هي "للملائكة الموكلين بأسباب الخلق".
وقال الشنقيطي في (أضواء البيان): "معنى الآية أن الله -تبارك وتعالى- في كل ليلة قدر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم، بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة، إلى ليلة القدر من السنة الجديدة. فتبين في ذلك الآجال والأرزاق والفقر والغنى، والخصب والجدب والصحة والمرض، والحروب والزلازل، وجميع ما يقع في تلك السنة كائنًا ما كان. إلى الأخرى القابلة". وجاء أيضا في تفسير أضواء البيان: "قال بعضهم: حتى إن الرجل لينكح ويتصرف في أموره ويولد له، وقد خرج اسمه في الموتى في تلك السنة".
عباد الله: ومن خصائص ليلة القدر الثابتة في خبر الوحي: أن من يقوم هذه الليلة فإنه يُغفر له ما تقدَّم من ذنبه. والدليل على ذلك قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في (صحيح البخاري)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ". والإيمان معناه التصديق بأن العمل قُرْبَة إلى الله، والاحتساب هو طلب الثواب أو رجاء الأجر، والجزاء هو غفران ما تقدَّم من ذنبه، والقيام هو أن يصلي أكثر تلك الليلة، نصفها أو ثلثيها أو نحو ذلك، يقال: قام ليلة القدر. وجاء في (شرح النووي وابن حجر) للحديث: قولهما: "وفي حديث: "من قام ليلة القدر"، معناه: من قامه ولو لم يوافق ليلة القدر حصل له ذلك، ومن قام ليلة القدر فوافقها حصل له". وقال النووي: قَوْله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبه": الْمَعْرُوف عِنْد الْفُقَهَاء أَنَّ هَذَا مُخْتَصّ بِغُفْرَانِ الصَّغَائِر دُون الْكَبَائِر. وقَالَ بَعْضهمْ: وَيَجُوز أَنْ يُخَفِّف مِنْ الْكَبَائِر مَا لَمْ يُصَادِف صَغِيرَة".
عباد الله: ومن خصائص ليلة القدر الثابتة: أنها ليلة تتنزل الملائكة فيها ومعهم جبريل -عليهم السلام-. والدليل قوله -تعالى-: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا)[الْقَدْرِ: 4]. وظاهر الآية: "أن تنزُّل الملائكة إلى الأرض، ينزل جبريل في الملائكة، ونزول الملائكة إلى الأرض لأجل البركات التي تحفهم. وكان نزول جبريل في تلك الليلة ليعود عليها من الفضل مثل الذي حصل في مماثلتها الأولى ليلة نزوله بالوحي في غار حِراء".
عباد الله: ومن خصائص ليلة القدر الثابتة: أنها ليلة سلام. والدليل: قوله -تعالى-: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[الْقَدْرِ: 5]، "وتنكير "سلام" للتعظيم. وأخبر عن الليلة بأنها سلام للمبالغة؛ لأنه إخبار بالمصدر، وتقديم المسند وهو "سلام" على المسند إليه؛ لإِفادة الاختصاص، أي: ما هي إلا سلام. فالسلامة تشمل كل خير؛ لأن الخَيْر سلامة من الشر ومن الأذى، فيشمل السلامُ الغفرانَ وإجزالَ الثواب واستجابةَ الدعاء بخير الدنيا والآخرة". و"وصفها بأنها سلام؛ أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد، وتكثر فيها السلامة من العقاب والعذاب بما يقوم العبد من طاعة الله -عز وجل-".
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
عباد الله: ما تقدم ذِكْرُه هو من خصائص ليلة القدر. ولكن يا ترى ما علاماتها؟ ما العلامات التي نعرف بها ليلة القدر؟
عباد الله: إن الإخبار عن علامات ليلة القدر هو من شأن الوحي، وطريقه الوحي، فلا يمكن للبشر أن يضعوا من عند أنفسهم علامات لِلَيلة القدر؛ ولذلك: ليلة القدر هي من اختيار الله، والوحي هو من يتكفَّل ببيان علامات تلك الليلة التي اختارها الله -تعالى-.
عباد الله: نعم، إن هناك علامات ومؤشرات تدل على أيِّ ليلة تلك التي كانت ليلة القدر من بين الليالي العشر الأخيرة في رمضان من كل سنة، وأن هذه العلامات تُعرف بالملاحظة، وهي غير الخصائص الثابتة لليلة القدر، فمعرفة الخصائص لا يلزم منه تحديد أيّ ليلة كانت ليلة القدر تلك السنة.
عباد الله: يدلنا خبرُ الوحيِ الثابتُ والصحيحُ بأن هناك علامة واحدة ثابتة لليلة القدر، وقد جاءت في السنة النبوية، تدل الملاحِظَ لها والضابطَ لها على أن تلك الليلة بالتحديد هي ليلة القدر من بين الليالي العشر في تلك السنة، ووفقًا لخبر الوحي الثابت والصحيح فإن هذه العلامة هي علامة بَعْدِيَّة لا قَبْلِيَّة. وتلك العلامة البعدية والوحيدة الثابتة لليلة القدر هي: طلوع الشمس في صبيحتها بلا شعاع؛ ولذلك ما سواها مما يُذكر من العلامات المنسوبة إلى السُّنَّة لا يصح؛ لأنه لم يثبت بها الدليل؛ لأن علامات ليلة القدر متوقفة على خبر الوحي، وهو ما ثبت أنه أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
نعم، يا عباد الله: فالثابت في السنة النبوية علامة واحدة وهي بَعْدية، ودليلها: الحديث الصحيح الذي يرويه أُبَيُّ بن كعب -رضي الله عنه-: "وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لاَ شُعَاعَ لَهَا". فعلامتها البارزة والثابتة في الأحاديث هي ما ثبَت في صحيح مسلم من حديث أبيّ بن كعب -رضي الله عنه- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أن من علاماتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شُعاع لها".
عباد الله: ولا بد من التنبيه هنا، أن ما يُذكر من علامات أخرى مروية ومنقولة: فهي إما أحاديث نبوية لم يثبت صحتها. مثل حديث: "ليلة القدر ليلة طلقة لا حارة ولا باردة". (ضعَّفه البيهقيُّ). وإلا فماذا يقال لأهل البلدان التي تكون باردة طيلة أيام العام. وماذا يقال لنا في فصول الشتاء الرمضانية الباردة أو في البلدان شديدة الحر. وأما اجتهادات وأقوال للعلماء مثل قولهم: "زيادة النور في تلك الليلة، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر من المؤمن". وهذه مجرد اجتهادات، وإما كلام شعبيّ متوارَث لا قيمة له ولا اعتبار. مثل: أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها، وأن كل شيء يسجد فيها، وذكَر بعضُهم أن المياه المالحة تُصبح في ليلة القدر حلوة، وهذا لا يصح، وذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها، ولا تُرى نجومها، وهذا ومثيله كله لا يصح.
نعم، يا عباد الله: الحق والصواب فقط هو ما أخبر به الوحيُ، وصحَّ وثبَت وهي علامة واحدة بعدية؛ وهي طلوع الشمس في صبيحتها بلا شعاع، فإذا سمعتم شيئا أو قرأتم كلامًا عن علامات القدر، فاسأل سؤالًا واحدا: هل هذا عليه دليل صحيح وثابت من الكتاب أو السنة.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة واجعلها لوجهك خالصة.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم