عناصر الخطبة
1/ العبادة وتحقيقها 2/ التوكل وأهميته 3/ الوسطية في مفهوم التوكل 4/ توكل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 5/ أقسام التوكلاقتباس
لم يعد محل اهتمام كثير من الناس -هداهم الله- فما تكاد تغشى مجلساً من مجالس القوم اليوم، إلا وتسمع فيه ما يدل على نقصان التوكل في النفوس، وانصهارها مع الأسباب واعتمادها عليها قلباً وقالباً أكثر من الاعتماد على التوكل على الله الذي هو الأصل
الحمد لله له الحمد أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير. اللهم صل عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله، وتذكروا أن الله -سبحانه وتعالى- خلقنا لعبادته وحده، العبادة الجامعة لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والمعرفة بأنها طاعته على سنة رسوله، طاعته بفعل المأمورات، واجتناب المحظورات، إخلاصاً لله، وسيراً على منهاج رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وتحقيق هذه العبادة التي خلقنا لها، ووعدنا عليها ما تضمنته نصوص الوعد من الله لعباده في الدنيا بالنصر، وفي الآخرة بمضاعفة الأجر، قال تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51] وقال: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47] لا يتأتى ولا يتم إلا بتحقيق توحيد الله -سبحانه-، توحيد علم ومعرفة؛ ينبثق منه انجذاب الروح إلى الله وحده؛ بآثار ذلكم العلم علماً وعملاً واعتقاداً، انجذاباً يتحقق به مسمى تحقيق التوحيد الذي هو تنقيته وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.
ومن أنواع تلكم العبادة؛ بل ومن أسسها وقواعدها التي تبنى عليها: التوكل على الله وحده، قال ابن القيم -رحمه الله- بعد بيان التوكل: "فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن؛ فكذلك لا يقوم الإيمان ومقوماته إلا على ساق التوكل".
وأوضح ذلك هو وغيره من العلماء على أن فقدان التوكل ينافي أصل الإيمان، أي لا إيمان لمن فقده يقول الله -سبحانه-: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23] وقوله: (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) [يونس:84] قالوا: "فجعل التوكل على الله شرط الإيمان -أي شرط وجوب لا شرط كمال-".
ولا عجب -أيها الأخوة- فأمر هذه العبادة -عبادة التوكل- أمر عظيم، وشأنها بالنسبة للمعتقد السليم شأن عظيم؛ فالمعتقد السليم ينبثق منها ويقوم عليها والإيمان الحق كذلك؛ فكلما قوي التوكل في قلب الإنسان وداخلية الإنسان قوي الإيمان والقول والعمل ظاهراً، ووجدت آثاره، وكلما مات التوكل في القلب أو ضعف، مات إيمان صاحبه أو ضعف عياذاً بك اللهم يا رب.
ومع الأسف -أيها الأخوة- إن هذا الأمر العظيم، وهذه العبادة الأساسية والتي ما جاءت حتى في ألفاظها البلاغية ومواردها العربية إلا مقصورة على الله وحده القائل: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23] والقائل: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2].
لم يعد محل اهتمام كثير من الناس -هداهم الله- فما تكاد تغشى مجلساً من مجالس القوم اليوم، إلا وتسمع فيه ما يدل على نقصان التوكل في النفوس، وانصهارها مع الأسباب واعتمادها عليها قلباً وقالباً أكثر من الاعتماد على التوكل على الله الذي هو الأصل.
فقد غاب عنهم أن الله -سبحانه- هو مسبب الأسباب، هو مالك الأسباب، هو الآمر بالأسباب طمأنينة لعباده، وطاعة منهم له بفعلها؛ لا لتشرك معه في هذه العبادة.
يذكر عن أبي سليمان الداراني أنه رأى رجلاً بمكة لا يتناول شيئاً إلا شربة من ماء زمزم فمضى عليه أيام، فقال أبو سليمان يوماً: "أرأيت لو غارت زمزم أي شيء كنت تشرب؟ فقام وقبل رأس أبي سليمان، وقال: جزاك الله خيراً حيث أرشدتني، فإني كنت أعبد زمزم منذ أيام ثم تركه ومضى".
فلا إفراط -أيها الأخوة-، ولا تفريط ولا تطرف في أي جانب من جوانب التطرف؛ فالاعتماد على الأسباب وحدها تطرف فظيع من الملة الإسلامية، وترك فعل الأسباب المقدور عليها عند الحاجة لها ولا ضرر منها تطرف، والخير في الوسط بذل الأسباب والاعتماد على الله.
قال أعرابي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ناقته: "أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل" حديث حسَّنه عدد من العلماء ومنهم الشيخ الألباني –صحيح الجامع 1067-.
فاتقوا الله -عباد الله-، وانهجوا في توكلكم واعتمادكم على الله نهج رسل الله الكرام -عليهم الصلاة والسلام- الذين كانوا يواجهون الشدائد والخطوب، والمضايقات والتهديدات بصدق الاعتماد وخالص التوكل، قال تعالى عن نبيه -عليه السلام-: (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) [يونس:71]
وقال عن نبيه هود -عليه السلام-: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود:54-56] وقال عن نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173]
اللهم ارزقنا صدق التوكل وخالص الاعتماد، واجعل بواطننا خيراً من ظواهرنا.
الخطبة الثانية:
التوكل على الله قسمان أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطلوبهم، في نصر أو رزق أو شفاعة؛ مما لا يقدر عليه إلا الله فهذا شرك أكبر.
والثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله عليه من رزق أو دفع أذى ونحو ذلك؛ فهذا نوع شرك خفي.
والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه؛ بل يتوكل على الله في تيسير أمره، ولا يقول توكلت عليك احتراماً للفظ الخاص بالله، وإنما يقول: "وكلتك في فعل كذا من الأسباب التي يقوم بها مثله عادة".
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم