التوكل على الله

عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي

2021-10-29 - 1443/03/23 2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/حقيقة التوكل على الله ومعناه 2/أمر الله عباده بالتوكل عليه 3/ثمار التوكل على الله 4/أسوة المتوكلين على رب العالمين.

اقتباس

ولعلم الوكيل -سبحانه وتعالى- بحاجة خلقه إلى التوكل عليه وأهميته في جميع أحوالهم أمر عباده بالاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه؛ بل جعل التوكل عليه شرطا لتحقق الإيمان واكتماله .. وحسب التوكل على الله: أنه سبب لدخول الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:

 

أيها المؤمنون: إن المتأمل في أحوال الناس في هذه الحياة يجد أن أكثر ما يشغلهم هو التفكير بالمستقبل؛ وهم في ذلك أصناف؛ فبين من أخلد إلى طاقاته وخبراته ومعارفه وجعل الدنيا همه وأفنى في طلبها عمره بحثا عن متاعها الزائل بشتى الطرق والوسائل ظنا منه أن ذلك يحقق مطلوبه ويكشف مكروبه؛ فكانت النتيجة كما روى حبر الأمة عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "من كانت الدنيا همَّه؛ فرَّق اللهُ شملَه، وجعل فقرَه بين عينَيه، ولم يُؤتِه من الدنيا إلا ما كُتِبَ له"(صححه الألباني)

 

وصنف توكل على ربه مولاه في استجلاب ما يصلح حاله في دنياه وأخراه وبذل الأسباب المشروعة لنيل مطالبه وحاجاته؛ فحقق الله له مناه وكفاه بفضله وأغناه؛ فعن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مَن كانت همَّه الآخرةُ، جَمَع اللهُ له شَمْلَه، وجعل غِناه في قلبِه، وأَتَتْه الدنيا راغمةً"(صححه الألباني).

 

ولسائل أن يسأل عن حقيقة التوكل ومعناه؟

وجواب ذلك: ما ذكره ابن رجب -رحمه الله- فقال: "هو صدق اعتماد القلب على الله -عز وجل- في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها".

 

ولعلم الوكيل -سبحانه وتعالى- بحاجة خلقه إلى التوكل عليه وأهميته في جميع أحوالهم أمر عباده بالاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه؛ بل جعل التوكل عليه شرطا لتحقق الإيمان واكتماله؛ (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[المائدة: 23].

 

وأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالتوكل عليه فقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[النساء:81]، وقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِين َتَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)[الشعراء:217 - 219]، وقال: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[النساء:81]؛ يقول سعيد ابن جبير -رحمه الله-: "التوكل جماع الإيمان".

 

أيها المسلمون: والتوكل على الله يكسب العبد الثمار الهانئة والآثار النافعة؛ فمنها:

أنه يحقق للمتوكلين الإيمان الصحيح ويرسخ العقيدة الصافية في قلوبهم؛ قال -تعالى-: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[المائدة:23].

 

ومن ثماره: سعة الرزق ورغد العيش؛ قال -صلي الله عليه وسلم-: "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقك كما يرزق الطير تغدوا خماصا وتروح بطاناً"(صححه الألباني)؛ فوصف -صلى الله عليه وسلم-  المتوكل على الله بوصفين: السعي في طلب الرزق والاعتماد القوي على مسبب الأسباب؛ فإن من فقد الوصفين، أو أحدهما خسر، وخاب ومن سعى في الأسباب المباحة، واعتمد على ربه، وشكر مولاه عند حصول المراغب، وصبر لحكمه عند المصائب؛ فقد فاز  واستوفى على جميع الكمالات، ومن علم أنه فقير إلى ربه، في كل أحواله، كيف لا يتوكل عليه، ومن علم أنه عـاجز مضطر إلى مولاه كيف لا يستعين به، وينيب إليه.

 

ومن ثمار التوكل على الله: أنه يحفظ صاحبه من الشيطان وهمساته؛ وصدق الله إذ قال في كتابه العزيز: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)[النحل: ].

ويقول الصادق المصدوق -صلي الله عليه وسلم-: "من قال حين يخرج من بيته: "بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له: كفيت وهديت ووقيت وتنحي عنه الشيطان؛ فيقول لشيطان آخر: كيف لك برجل قد كفي وهدي ووقي"(صححه الألباني).

 

ومن ثمار التوكل: أنه يورث الرضا والتفاؤل في قلب صاحبه، ويذهب التشاؤم؛ وفي ذلك يقول رسول الهدى -صلى الله علية وسلم-: "الطيرة شرك ولكن الله يذهبها بالتوكل"(صححه الألباني).

 

ومن ثماره -أيضا-: أن المتوكل على الله موعود بالعزة؛ يقول الحق -تبارك وتعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: 49].

 

كما أن التوكل: سبب لنيل محبة الله الودود الذي بشر المتوكلين بها؛ (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159].

 

ومن نال محبة مولاه حفظه وتولاه ونصره على من عاداه وأصلح له دنياه وأخراه؛ ولله در القائل:

إذا صَحَّ منك الودّ فالكُلُّ هَيِّنٌ *** وكُلُّ الذي فَوقَ التُّرابِ تُرابِ

 

وحسب التوكل على الله: أنه سبب لدخول الجنة بغير حساب ولا سابقة عذاب؛ فقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون".

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم؛ فاستغفروا الله لي ولكم، فيا فوز المستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

 

أيها المؤمنون: ولنا في رسولنا الكريم أسوة حسنة؛ فهو إمام المتوكلين؛ فقد كان يتوكل على ربه وخالقه في كل أموره، ومما كان يدعو به ربه، بعد تمام صلاته، ما وصى به معاذ بن جبل -رضي الله عنه وأرضاه-؛ "اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".

وهو بذلك يربي أمته على الاستعانة بخالقهم، على قضاء أعمالهم، وصلاح أحوالهم؛ فمن تيقن أن الأمور كلها بيد الله، كيف لا يطلبها ممن هي في يديه، ومن علم بسعة غناه وجوده، كيـف لا يلجـأ في أموره، كلها إليه.

 

 ومن تيقن أنه أرحم بعباده، من الوالدة بولدها، كيف لا يطمئن قلبـه إلى تدبيره، ومن علم أنه حكيم في كل ما قضاه، كيف لا يرضى بتقديره.

 

فيا أيها العبد المقبل على الخير إنك لن تناله إلا ببذل المجهود، والاستعانة، والاعتمـاد على المعبود.

 

ويا أيها المجاهد نفسه عن المعاصي والذنوب، إنه لن يتيسر لك تركها إلا بقوة الاعتصام بعلام الغيوب؛ فإنه من توكل عليه كفاه، ومن استعان به واعتصم، أصلح له دينه ودنياه، ومن أعجب بنفسه، وانقطع قلبه عن ربه خاب وخسر أُولاه وأُخراه؛ فكم من ضعيف عاجز عن مصالحه، قوي في توكله على ربه فأعانه عليها وكم من قوي اعتمد على قوته فخانته؛ وما أجمل قول الشاعر وهو يحث على التوكل على الله وترك ما سواه:

لا تَرْكَننَّ لِمخلوقٍ وكُنْ أبَدا *** مِمَّنْ تَوكَّلَ في الدنيا على الله

ولا تَمِلْ لِسِوَاهُ مَا حَيِيتَ فَمَن *** يَرْجُو سِوَى الله هَاوٍ حَبْلُهُ واهِ

 

عباد الله: ألا وإن مما يحتاج العبد إلى معرفته والتنبه له في باب التوكل على الله ما يلي:

إدراك أن العمل بالأسباب، لا يعارض توكل العبد على رب الأرباب، وقد جاء في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، أنه قال: قال رجل: "يا رسولَ اللهِ أعقِلُها وأتوكَّلُ أو أُطلقُها وأتوكَّلُ قال اعقِلها وتوكَّلْ"(صححه الألباني).

 

ومما يحتاجه العبد في توكله على ربه ومولاه: بذل الأسباب حتى وإن كانت ضعيفة، ولنتأمل في قصة مريم حين أراد الله أن يطعمها، وهي في حالة ضعف أمرها أن تهز جذع النخلة، لأهمية بذل السبب، قال -تعالى-: (وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا)[مريم:25].

 

فاتقوا الله -عباد الله- وتوكلوا عليه وثقوا به واعتصموا بحبله المتين؛ فمن توكل عليه حقق المراد، وصلح حاله واستفاد.

 

(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[الممتحنة: 4].

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين.

 

اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واجمع كلمتهم على الحق والدين.

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

المرفقات

التوكل على الله.doc

التوكل على الله.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات